كنا جلوسا عند منطقة المقرن في الخرطوم وهى - منطقة اللحظة الخالدة التي ترى فيها التقاء النيلين الأزرق والأبيض ليتولد بعدها نهر النيل جاريا بالحياة إلى مصر - عندما سألني صديقي السوداني محمد وصفى وهو محام شاب .. هل هذه هي المرة الأولى التي تأتى فيها لزيارة الخرطوم؟ قلت: نعم .. فنظر إلى محدثي مستغربا وقال: ياه انتظرت كل هذه الفترة وبعد أن غطى الشعر الأبيض رأسك وأكلت الأيام شبابك .. صبور أنت أيها الصحفي الصعيدي .. بل غافلون أنتم أيها المصريون عن زيارة السودان برغم أنه الشريك والأخ والجار الأقرب إليكم .. صحيح إنكم تتحدثون عن وحدة وادى النيل وأهمية السودان بالنسبة لكم ولأمن مصر القومى .. وما أكثر ماتنشره الصحف عن هذه الوحدة المزعومة الوهمية ونسمع ونرى من كلام وكلام وكلام حتى مات الكلام عن هذه الوحدة - وراح الصديق السودانى يكمل – زمان نحن أغفلنا وتجاهلنا الجنوب فراح وانفصل الجنوب عنا .. وأنتم أيها المصريون مازلتم تتغافلون وتتجاهلون السودان حتى يأتى يوم تكتشفون أن السودان وقد راح منكم. نظرت إلى محدثي خجولا متأثرا .. شاب من مئات الآلاف من الشباب السوداني المهموم بالمستقبل والحزين الذى بدأ يشعر بهذه الغربة وذلك البعاد المتزايد بين البلدين كل منهما عن الآخر .. نظرت اليه، ولم أخذ كلماته ببساطة أبدا، رحت بعمق شديد افكر فيما قال .. وفى الحقيقة ما أزعجنى واستوقفنى فى كلماته هو هذا الكم من العتاب والمرارة والاكتئاب الذى تحتويه نبرات صوته .. وإذا كان معلوما أن للاكتئاب الفردى أعراضا معروفة فى علم النفس منها التشاؤم وفقدان الهمة والإحساس المحض أن كل شىء مثل أى شىء، وأن كله كلام فى كلام، وكله لافائدة منه .. ولكن هذه الحالة التي رأيتها ورصدتها على صديقي السوداني وغيره من مئات الشباب السودانيين جعلتنى أشعر بأننا أمام حالة اكتئاب سودانية مصرية جماعية نجح نظام الرئيس السابق أن يصيبنا بها تجاه السودان، وأنا لا أعرف إن كانت هناك حالة في الطب النفسي أو علم الاجتماع كهذه الحالة، ولكن ما أعرفه بالتأكيد هو أننا مصابون تماما بهذه الحالة، وهذه الحالة تتخذ شكل الفتور واللامبالاة بكل مايحدث فى السودان، شكل الجهل والتجاهل والغفلة بأهمية هذا البلد الشقيق وأنه مهما حدث تغيير وقامت ثورات وثورات فيبدوا أن هذه الحالة لن تفارقنا بسهولة. انظر إلى الدكتور مرسى رئيس الجمهورية لم يستفد أو حتى لم يتأمل فى أخطاء سابقه حيال السودان – برغم أنه عادة وكما لاحظنا يتأمل كثيرا فى تشكيل الحكومة وفى أشياء كثيرة ويتمهل – وأنا هنا لا أقدم بحثا " أكاديميا " عن حالتنا النفسية أو حالة الرئيس، ولكنى فقط أسجل بعض الأحاسيس والانطباعات التى كثيرا ما انتابتنى كلما مشيت والتقيت وتحدثت مع السودانيين وأنا فى زيارتى الأخيرة للسودان .. فالدكتور مرسى فى الوقت الذى كنا ننتظر فيه أن يكون السودان هو أول بلد عربى يبدأ به زياراته وجولاته الخارجية اتجه كسابقه شرقا إلى دول الخليج .. وأعتقد أنه لولا مؤتمر القمة الإفريقية الذى عقد أخيرا فى أديس أبابا لما جاء ذكر السودان ولو افتكرناه أصلا. ما كان أضناه من شعور شعورك أن تستمع إلى كلمات عتاب تقول لك: إن إعلام بلدك وصحفتك ومثقفيك ومفكريك حتى هذه اللحظة وبرغم رحيل النظام السابق مازالوا على عنادهم وتجاهلهم للسودان .. فنادرا ما تجد الصحفيين والمثقفين المصريين يأتون إلى هنا.. وإذا جاءوا كما يقول السودانيون لايبارحوا فنادقهم ولاينزلون إلى الشارع إلا عندما يقترب موعد سفرهم .. قبلها بساعات يذهبون إلى سوق الحنا والجلود بأم درمان للشراء والتسوق وكأنهم سياح أجانب .. غير ذلك نادرا أن تجد أى مصرى وقد تجول حتى فى شوارع العاصمة أو يجلس على مقاهيها ويعرف البلد وماذا يجرى بها .. ويتندر السودانيون بحكاية ذلك المسئول الذى كان يجلس فى بهو فندق الهليتون فما إن لمحت عيناه مياه النيل هب معلقا مندهشا: معقولة " دا أنتم كمان عندكم نيل هنا زينا فى مصر " .. قد تندهش عندما تعرف أن المصرى هو المواطن العربى الوحيد المسموح له أن يتنقل بحرية فى جميع أنحاء البلاد هناك دون الحاجة إلى تصريح أو إذن أمنى، فحين أن أى رعايا لأى بلد عربية كانت أو إفريقية أو أجنبية لا يمكنهم التحرك من العاصمة الخرطوم إلى أى محافظة أخرى إلا بتصريح مكتوب.. قليلون هم من المصريين الذين يعرفون أن السفر للسودان بدون تأشيرة فقط وأنه عليك فقط أن تحمل جواز سفرك وتذهب إلى المطار وتركب الطائرة وتسافر للخرطوم. وقد تستغرب أنه لا توجد تأشيرة سفر من مصر إلى السودان، ولكن توجد تأشيرة سفر من السودان إلى مصر .. لماذا ؟ لأن السودان طلب ذلك من مصر حتى لا تسهل عمليات تهريب الأفارقة ويهود الفلاشا. وقليلون هم الذين يعرفون أن السودان كان لابد أن ينفصل عن مصر .. لأنه هو أكثر الدول العربية توغلا في جسد إفريقيا .. هو الباب الملكى لمصر نحو إفريقيا .. بل هو المعبر العربي إلى إفريقيا سياسيا وجغرافيا وحضاريا أو الجسر الذي تتعاون فيها الحضارتان الإسلامية والإفريقية، وقليلون هم الذين يعرفون أن السودان بلد قارة، قال عنه اللوردكرومر إن مساحته تساوى ضعف مساحة ألمانيا وفرنسا، مجتمعين وتحتوى الأراضي السودانية على حوالي 200مليون من الأراضي الخصبة القابلة للزراعة إلى جانب 400 مليون فدان من المراعى والغابات. وقليلون هم الذين يعرفون أن السودان الذي نتحدث عن حدوده هذه، لم يكن معروفا بهذا الاسم أو التكوين الجغرافي أو المساحي في مطلع القرن التاسع عشر قبل أن يقوم أن يصل إليه محمد على، كما أن السودان الذي تسلمه أهله بعد الاستقلال لم يكن هو السودان الذي غزاه محمد على ووحده ..بل هو السودان بعد أن اقتطعت الدول الاستعمارية (بريطانيا وفرنسا وبلجيكا ) أجزاء منه وأضافوها لدول أخرى. الواقع أنى شخصيا كنت أتمنى أن أزور السودان عن الطريق البرى عن طريق وادى حلفا لا عن طريق الطيران .. ففى هذه الرحلة إذا قطعتها ستنتابك أحاسيس مختلفة تماما، مثل تلك التى انتابت الأديب والروائى الرائع الراحل محمد حسين هيكل وسجلها فى كتابه "عشرة أيام فى السودان" يحكى فيها هيكل كيف كانت رحلته داخل هذا القطار وهو فى طريقه للخرطوم .. يقول: وذهبنا إلى القطار الذى يقوم من حلفا فى الساعة الرابعة من بعد الظهر ليصل إلى الخرطوم فى الساعة الرابعة من بعد ظهر اليوم التالى، فإذا به قطار أبيض وإذا خطه ضيق كسكة حديد الدلتا، لكنك ما تكاد تدخل إلى عرباته وما تكاد تستقر فى غرفة النوم المخصصة لك حتى تشعر بمعنى آخر معنى النظام والنظافة والطمأنينة والراحة، ويدهشك أن عربات النوم فى هذا الخط أكثر راحة واستهواء من عربات النوم فى مصر .. سررها أكثر سعة وغرفها أرحب وبها مقاعد يجلس عليها الإنسان حين لا حاجة به إلى النوم، وبها مروحة ومنضدة صغيرة ودولاب صغير لإناء الماء وما قد تريده من لبن أو فاكهة هذا غير وعاء الغسيل النظيف اللطيف .. تخيلوا ذلك كان فى الخمسينيات وتخيل أن هذا القطار وصله الإنجليز وقطعه مبارك والأمل فى مرسى أن يعيده، للأسف الشديد اختفى هذا القطار ولم تعد هناك وسيلة لنقل الناس برا إلى السودان غير مركب أو صندل قديم متهالك تابع لهيئة وادي النيل وهي هيئة مشتركة بين مصر والسودان يتناوب البلدان على رئاسة مجلس إدارتها تتحمل مسئولية نقل الركاب والبضائع بين مصر والسودان عبر ميناء أسوانوحلفا، أرجوك لا تستغرب إذا كنت أحدثك عن السودان وفى هذا التوقيت بالذات، فأنا أعرف أنك ستلومنى قائلا:«والنبى أنت رايق» هل هذا وقت السودان؟ هل هذا وقت تتحدث فيه عن بلد يعانى من مشاكل اقتصادية واضطرابات سياسية وغلاء أسعار ومظاهرات بل وكما يقولون بلد على "وش" ثورة وربيع عربى وتبدل أحواله وأوضاعه .... بدون تردد أجيبك: نعم هذا هو الوقت المناسب للرجوع إليه .. فقد تستغرب أنه عندما تأتى إلى الخرطوم وبمجرد أن تتجول فى ولايات السودان بين ولاياته ومساحاته الزراعية الشاسعة .. سيلفت انتباهك هذه المساحات الواسعة الشاسعة المهجورة من الأراضى الخصبة المحملة بالخير والغذاء والكساء .. وكنت واحدا من الذين انتبهوا بل تألموا كلما مررت بهذه الأراضى المهجورة والمياه تلفها، كنت اسمع صوتها وهى تنادى من يعمرها ويزرعها ويخضرها وينقذها من هذا الهجر .. قال لى مرافقى وهو يتألم شرودى وحزنى: أعرف أنك تسأل نفسك الآن اسأل مالذى ينقص هذه الأرض حتى يتم زراعتها؟ الذى ينقص هذه الأرض أنتم حضوركم خبرتكم .. إناس وبشر يأتون إلى هنا يستوطنون ويقيمون لزراعتها، وأنتم أيها المصريون الأقدر والأفضل والأحق بشراكتنا وكلانا سينقذ الآخر .... وقتها فقط ستتحسن أحوالنا ومعيشتنا نحن الاثنين .. فلا أمن غذائى لمصر بدون السودان ولا أمن للسودان بدون مصر لن تجد كل هذه الأزمات التى تلاحقنا فى المعيشة والغذاء فى مصر والسودان. لا أعرف كيف يغمض جفن للرئيس مرسى عندما يعرف أنه على الحدود المصرية - السودانية مساحة نحو مليوني فدان منها 1.3 مليون على الجانب السوداني و700 ألف في الأراضي المصرية، من أخصب وأجود الأراضى الزراعية يمكن استثمارها وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب، ومواجهة ارتفاع أسعار الحبوب عالميا .. لا أعرف ماذا سيفعل؟ وكيف سيكون تصرفه عندما يعلم أنه فى أعقاب ثورة 25 يناير؟ كان هناك اتفاق مبدئى على تخصيص مليون فدان فى السودان لمصر، ويتم التنفيذ عبر وزارتي الخارجية والزراعة، وكل ما تم الاتفاق عليه فى عهد حكومة عصام شرف، هو عمل مزرعة تجريبية حوالي 1000 فدان وعندما أعلن السودان عن رغبته فى قيام مصر والمملكة العربية السعودية باستلام الأراضى المخصصة لهما، قامت المملكة بالاستسلام، أما مصر فلم ترسل أحدا، الأمر الذى آثار حفيظة النائب محمد العمدة من أسوان، وتقدم بطلب إحاطة عاجل لرئيس الوزراء كمال الجنزورى، حول تقاعس الحكومة المصرية وعدم تسلمها للأراضي التى خصصتها الحكومة السودانية لمصر، ولكن رضا إسماعيل، وزير الزراعة واستصلاح الأراضى، أكد أن كل شركات الاستصلاح حصلت على أراض فى السودان، ستقوم برى هذه المساحة، التى تقدر ببليونى فدان، خصماً من حصة مصر من مياه نهر النيل، وهذا الأمر لا نعرف حقيقته ولم يحسمه أحد لنا، وتفاصيل أخرى غير واضحة وغير معلنة، فهناك سيناريوهات كثيرة، كلها لا تقول إلا شيئا واحدا إن هناك طابورا خامسا يهمه إلا يكون هناك توحد وشراكة مصرية حقيقة مع السودان، ومع ذلك مازال هناك من يتفاءل ويؤكد أن مصر آتية للسودان شاء هذا اللهو الخفى أم أبى، نظرا لكون السودان الحل لأى مشكلة اختناق لمصر.. السودان فى حاجة إلى 5 آلاف فلاح مصري لزراعة ملايين الأفدنة، بعدها ستعرفون قيمة ماتكلمنا فيه وتحدثنا.