"الحلوة دي قامت تعجن في البدرية والديك بيدن كوكو كوكو في الفجرية".. هل تذكرون تلك "الطقطوقة" الغنائية للفنان المبدع سيد درويش والتي تعبر ببساطة وتلقائية عن رحلة الشقاء التي تقطعها المرأة المصرية ذهابا وإيابا كل يوم ومع طلعة كل صباح في خدمة أهلها من إعداد الطعام وتنظيف المنزل بل إلى جانب ذلك الخروج للعمل. ودائما ما نقرأ عناوين جذابة ومثيرة حول الدور الذي تلعبه المرأة، ومن عينة ذلك "دور المرأة في الوعي السياسي" وفي ثورة 1919 ومن بعدها في ثورة يناير 2011، كما تقرأ عن دورها في حرب أكتوبر وفي المظاهرات وفي إعداد النشء انطلاقا من مبدأ "الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق". لكن الملاحظ أن أحدا من هذه العناوين لم يركز جديا على الدور الجهادي والكفاحي ل"المرأة المعيلة" التي تفرض عليها الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية أن تقوم بجميع المهام الملقاة على عاتق أي ربة منزل، إلى جانب كونها المصدر الوحيد لجلب لقمة العيش لأسرتها. وذلك لعدة أسباب منها على سبيل المثال لا الحصر عجز الزوج أو وفاته، وكذلك الطلاق وهجر بعض الأزواج الأنذال لعائلاتهم بل وأحيانا تمتد للارتباط برجل لا يدرك أدنى معاني قوامة الرجل على المرأة إلا من خلال القوة الجسدية وتسخيرها كماكينة ضخ أموال وهو جالس على المقهى. ليموزين أم نحمده ومن بين هذه المآسي كانت للست "أم نحمده" التي أراها صباح كل يوم تمتطي حمارها "الليموزين" وتمر على بيوت حي فيصل، بمحافظة الجيزة، لتبيع الخضروات وتنادي بأعلى صوتها "معايا الملوخية الطازة، والبامية الويكة، والطماطم البلح.. ياللا يازباين هانشطب".. حتى أنها باتت أشبه بعادة شبه يومية أن ألتقيها لدى ذهابي للعمل. في البداية وجهت لها التحية على كفاحها المشرف وسألتها عن حجم المشقة التي تلاقيها جراء قيامها بهذا العمل الشاق، فلمن لم يجرب مسألة ركوب الحمار ولمدة طويلة أمر شاق جدا وغاية في الصعوبة سواء على الراكب أو الضحية الحمار، فقالت لي بكل أريحية وسلاسة ورضا بالمقسوم: الحمد لله إني بارجع لأولادي آخر اليوم "مجبورة الخاطر" بعد أن تركهم أبوهم لي "لحمة حمرا" وتزوج وترك البلد بحالها و"هج" برة. أم نحمده..رغم كفاحها المشرف تتحرج من ظهور وجهها..! طبعا لم نملك إلا الانحناء أمام كفاحها المشرف وحين طلبنا التقاط صورة لها رفضت ظهور وجهها معلنة عدم ممانعتها في التصوير من الخلف، وبذلك فهي وإن كانت تتحرج من ظهور وجهها على موضوع مشرف مثل هذا إلا أنها أوحت لنا ربما دون أن تدري بأن هذا الكادر الخلفي أروع كثيرا، فإن كان الوجه يعني التخصيص فإن الظهر ومن دون شك يشير إلى التعميم، فاحترمنا رغبتها وظفرنا بالصورة التي بين أيدينا. وبرسيم بدرية أما الست بدرية، بائعة البرسيم، فلم يكن لديها أي مانع لظهور وجهها أمام القراء فهي كما تقول لا تفعل شيئا تخجل منه بل على العكس تفتخر به، فهي امرأة شابة كانت تعيش حياة ناعمة في ظل أسرتها المكونة من الزوج والأبناء الأربعة، إلى أن شاءت الأقدار وتوفي زوجها بعد صراع مؤلم مع المرض التهم ما بين أيديهم وما خلفهم من مال، ولم يكن أمامها سوى مواجهة الحياة لتستمر وتصل بأبنائها إلى بر الأمان لكي تقر عينها وتكون قد أدت الأمانة التي في عنقها وليرقد شريك حياتها مرتاحا في حياته الآخرة. وبين الست أم نحمده والست بدرية يقف العقل عاجزا عن تصور حجم الصعوبات التي يواجهنها، وكيف يملكن القدرة على الجمع بين تربية الأبناء وهي مهمة شاقة لا يعلم مداها سوى من اقترب منها وبين خوض الحرب اليومية للحصول على لقمة العيش.. فهن لم ينتظرن إعانة حكومية ولم يمددن أيديهن لسؤال الناس بل آثرن الشقاء على التسول.. فعلا نماذج مشرفة يجب أن ننحني أمامها إجلالا لها.