مثل حقل الألغام تبدو مصر الآن جاهزة للانفجار في أي لحظة تجبر من يديرها ويسير العمل فيها علي الدخول في المناطق الشائكة وادارة معارك سياسية وأن يبحر ضد التيار والعواصف من أجل إصلاح ما أفسده نظام مبارك الذي حول البلد إلي مستنقعات من الفساد والتجاوزات والبلطجة، ولكن من امتلكوا مفاتيح الإدارة الآن يقفون عند نقطة فاصلة لا يصلون من خلالها إلي المناطق الشائكة ولا يقتربون من الناس فقط اختاروا الوقوف في منطقة آمنة تحميهم من الانفجارات السياسية التي يمكن أن تحدث ويمسكون بأيديهم المرتعشة عصا ضعيفة غير قادرة علي صد أي هجوم مضاد يتعرض له المجتمع فالكل اختار الاختباء خلف بضعة تصريحات تحمي ماء وجههم وتقدم للمجتمع حلولا باهتة لأزمات مزمنة تحتاج إلي أسلحة قوية لنسفها. فالعقول المرتعشة التي تدير مصر الآن لا تستطيع تقديم أفكار ورؤي لبناء المستقبل فقط تقدم حلولاً مشوشة وترسم للحاضر صورة باهتة بلا معالم وتحاول اقناع الجميع بمدي صحتها، رغم ان هناك العديد من التفاصيل الغائبة التي يمكن أن تغير ملامح الصورة إلي النقيض تماما، ولكن تلك التفاصيل تحتاج إلي جرأة يفتقدها العديد من الوزراء والمسئولين الذين يكتفون الآن بدور المتفرج في مسرحية الفترة الانتقالية. فالحرائق التي تحيط بالمشهد السياسي سببها نظام مبارك الذي حاول قبل 25 يناير أن يحيط الحياة السياسية بأسلاك شائكة وان يزرع قنابل موقوتة لتنفجر في لحظة معينة لتزيل كل ما هو موجود في البلد ليتسلمه الوريث بلا حياة ولا معارضين ولا أي معالم للدولة، ولكن تلك القنابل انفجرت في وجهه وأزالت نظامه من الحياة السياسية في عملية أشبه بالمعادلة التفاعلية المعقدة. فنظام مبارك حول مصر إلي برك فساد بعد أن صار منهجا تسير عليه كل مؤسسات الدولة، ولم يكن غريبا أن نجد زكريا عزمي صاحب أشهر عبارة عن الفساد بوصفه في إحدي جلسات مجلس الشعب بأنه وصل إلي الركب متورطاً في قضايا فساد عديدة ووصل فساده هو إلي الركب وتعداه بمراحل، وكذلك لم يكن غريبا أن نجد وزراء الحكومات المتعاقبة الذين رددوا تيمة تصريحات واحدة عن اهتمامهم بالمواطن ومحاربتهم الفساد غرقوا في مستنقعات التجاوزات ونهبوا أموال الشعب حتي أن بعضهم حسب وصف الأطباء النفسيين مرضي بداء السرقة ومبارك نفسه الذي ظل طوال فترات حكمه يوهمنا بأنه الملاك الحارس علي أمننا وأموالنا نجده في النهاية أحد أعضاء عصابة نهب مصر. وهذا الفساد الممنهج الذي وضعه وأسسه مبارك كان يحتاج الي أيد فولاذية تقتلعه من الأرض ولكنه نجح إلي الآن في وقف زحف حملات التطهير التي اندلعت يوم 25 يناير وقصرها علي افراد بعينهم من رموز النظام وبقي راسخا في المؤسسات خاصة أن الأيدي التي تواجهه مرتعشة ولا تقوي علي توجيه ضربة قوية له ويكفي اعتراف الدكتور عصام شرف رئيس مجلس الوزراء بأن الفساد أصبح ثقافة عامة وعرفا سائدا في المؤسسات ويحتاج إلي جهود كبيرة للقضاء عليه لبيان مدي الكارثة التي تعيشها مصر الآن. وغدا تمر 100 يوم بالتمام والكمال علي تولي حكومة الدكتور عصام شرف مسئولية إدارة البلاد والمحصلة النهائية هي مزيد من الانتكاسات وسوء الأوضاع السياسية والاقتصادية وتغليب للبلطجة علي القانون الذي أصبح الغائب الحاضر في معركة التطهير وتحول إلي ما يشبه البندقية بلا طلقات فشرف ووزراؤه يتعاملون علي أنهم حكومة تسيير أعمال ليس من مهامهم وضع سياسات ورسم صورة للمستقبل ولكنهم في الحقيقة تحولت سياساتهم إلي مطبات في طريق تسيير الأعمال فتعطلت وأصبحت غائبة. فعصام شرف رئيس الوزراء حقق فشلا ذريعا في كل الأزمات التي واجهته فهو كما وصفه نائبه الدكتور يحيي الجمل في أحد البرامج الحوارية "راجل طيب "، وبالإضافة إلي ذلك فهو نظيف اليد ومتواضع، ولكن كل تلك ليست مقومات لمواجهة بلطجية وفلول وطني يحاولون تخريب البلد. ومشكلة عصام شرف أنه استمد شرعيته من ميدان التحرير، وكان ذلك كافيا لأن تغفر له بعض أخطاء وأن يضرب بيد من حديد ويطبق القانون، ولكنه لم يستغل تلك الدفعة المعنوية وتعامل مع المظاهرات التي اندلعت منذ أول يوم لتوليه منصبه الوزاري أمام مكتبه بنعومة زائدة عن الحد وسعي إلي إرضاء الثوار أكثر من سعيه لتطبيق القانون حتي أصبح لقمة سائغة أمام الرأي العام وطمع فيه الشباب الذين تعاملوا معه بسياسة الأمر والنهي وعليه أن يستجيب بلا تردد خاصة أنه أعلن من أول يوم له نظره في جميع الطلبات التي تقدم له فأندفعت المظاهرات الفئوية باتجاه مكتبه تقدم له مظالمها، وكان كثيرا ما يستجيب لهم. وجاءت أزمة محافظ قنا لتزيد من صورة الرجل اهتزازا لدي الرأي العام فقد حاول الرجل أن يبقي علي اختياره، ولكنه فشل فقرر أن ينزل بنفسه إلي أهالي قنا متصورا أن رصيد الحب يشفع له عند المتظاهرين، ولكنه عاد بخفي حنين ووجد نفسه مضطرا لأن يهرب من الموقف بتجميد عمل محافظ قنا إلي 3 أشهر في موقف انتقص من رصيد الثقة عند الناس حتي أنه بعد ذلك عند صياغة قانون للبلطجة خرج ليدافع عنه ويحذر من أعمال البلطجة لكنه لم يكن مقنعا بالحد الكافي إلي الدرجة التي جعلته لا يطبقه في أحيان كثيرة وأصبح كما لو كان دفن في أدراج مكاتبه ولم يشهره كسلاح في وجه البلطجية الذين خرجوا من جحورهم ليشيعوا الرعب بين الناس فانتشرت أعمال السرقة والنهب والقتل في كل أنحاء الجمهورية. المشهد الذي بدا فيه شرف غير مقنع أيضا حينما قام بالعدول عن قراره بإلغاء وزارة الآثار عقب اندلاع مظاهرات تطالب بعودة زاهي حواس مرة أخري فأصدر في اليوم الثاني قراراً بتولي حواس وزارة الآثار وهو موقف ضاعف من رصيد عدم الثقة فيه فخرج السلفيون من القمقم في مظاهرات تطالب بعودة كاميليا شحاتة ثم عبير فتاة إمبابة وأندلعت بسبب تلك المواقف الضعيفة حوادث عنف طائفي في أماكن عديدة. وبدلا من أن يواجه شرف السلفيين بحزم فتح قلبه لهم واستقبلهم ورحب بمطالبهم ووعد بحلها في الوقت الذي لم يعرف فيه أحد حقيقة كاميليا قبل أن تظهر لتعلن موقفها في القناة القبطية وسرعان ما انتهت قضية كاميليا حتي فجر السلفيون فتنة عبير ومن بعدها جاكلين فتاة العاشر وكله بسبب مواقف شرف المرتعشة. شرف فشل أيضا في مواجهة أزمات عديدة انفجرت بعد توليه رئاسة الوزراء منها أزمة السولار التي مازالت مشتعلة إلي الآن وأنابيب البوتاجاز وفي الوقت نفسه انشغل بجلسات الحوار الوطني والوفاق القومي لإرضاء الشباب والسياسيين فهم الذين أمدوه شرعيته ورد الجميل لهم واجب حتي لو وصلت مطالب شباب الثورة إلي حد مناقشته في جميع القرارات التي يتخذها وعرضها عليهم أولا مثلما حدث، وهو مطلب جيد بشرط أن تكون هناك سيادة للدولة ولكن شرف في كل أسبوع يبدي تخوفه غير المعلن من مليونية التحرير التي أصبحت تؤثر علي قراراته بشكل كبير. حتي زيارات شرف إلي سيناء لم تؤت بثمارها فاهتم خلال جلسته مع القبائل باظهار تواضعه وحسن أخلاقه بدلا من أن يهتم بوضع سياسات تحد من حالة الاحتقان الموجودة عند بدو سيناء وتحدث عن العيش والملح وحاول كسب ود أهالي سيناء بالنعومة وكان رسالته الواضحة الذي يريد توصيلها أن الحكومة تضع مشاكل البدو في الاعتبار وتهتم بها دون أن يقدم آلية واضحة لحلها أو حتي يتخذ سياسات واضحة فزادت شعبيته في سيناء علي حساب هيبة الدولة، حيث لم يتحدث شرف مع أهالي سيناء عن ضرورة احترامهم للقانون والتزامهم به فكانت نتائج الزيارة سلبية ومزيداً من محاولات الهروب من السجون وتهريب المساجين منها وأعمال عنف أخري. والأمر نفسه ينطبق علي زيارات رئيس الوزراء الخارجية والتي كان هدفها في الأساس إزالة الشوائب التي تراكمت في علاقة مصر ببعض الدول العربية بعد محاكمة مبارك، ولكنه لم ينجح سوي في جمع بعض التبرعات من دول الخليج وإن بقيت الشوائب موجودة إلي الآن، وظهر ذلك واضحا في قرارات الحكومة السعودية بتحديد مدة إقامة العمالة المصرية بست سنوات وهو القرار الذي ظهرت فيه السعودية، كما لو كانت تحاكم مصر علي حبس مبارك. باختصار شرف لم ينجح في اتخاذ أي قرار جريء يثبت من خلاله أن دولة القانون لابد أن تسود حتي أن القرار الذي اتخذه إجباريا، ويمكن ان يكون في ظاهره جرأة هو استئناف العمل بالبورصة مرة أخري وهو قرار جاء بعد التهديد بشطب البورصة المصرية، كما أنه في المطلب الذي ينتظره الجميع وهو حل المجالس المحلية وهو المطلب الذي وعد شرف بتنفيذه، ولكنه عاد بعد ذلك بعد أن هدأت المطالب بالحل ليؤكد أن الأمر يحتاج إلي حكم قضائي وهو مبرر غير صحيح بدليل إلغاء مجلسي الشعب والشوري دون أي حكم قضائي كما يردد وغير ذلك لم يثبت شرف أنه رئيس وزراء من العيار الثقيل، ولكنه بفضل سياساته واهتمامه الزائد بالمظاهرات الفئوية تحول إلي وزير تطييب الخواطر في محاولة منه لزيادة شعبيته بين الناس علي حساب هيبة الدولة التي انتقصت كثيرا علي يديه وهي مهمة لم تعد تجدي بعد الثورة التي يلزمها قرارات تصحيح للمحافظة عليها. حاله الضعف والنعومة السياسية انتقلت من شرف إلي وزراء حكومته فهناك العديد من الوزراء مازالوا غير قادرين علي التوقيع علي أي قرار أو سياسة ويكتفون بتجميد الأوضاع الحالية مثل وزير الصناعة والتجارة سمير الصياد الذي اكتفي بتجميد وزارته ولم يمرر أي قرار خوفا من مساءلة والدليل هو تجميده لرخص الحديد الصادرة في 17 يناير الماضي لصالح العديد من شركات وهو ما يضيع علي مصر استثمارات بقيمة 2 مليار جنيه يضخها المستثمرون الذين أبدوا استعدادهم لتقديم أي ضمانات تطلبها الحكومة لكن الوزير اكتفي بتحويل الأمر إلي لجنة الفتوي بوزارته. الأمر نفسه ينطبق علي وزير الأوقاف الذي ترك المساجد في قبضة السلفيين والجماعات الإسلامية الذين قاموا بطرد الأئمة المعينين من قبل الوزارة من أجل أن يسيطروا علي المنابر الدينية حتي إن الوزارة فشلت في علاج مشكلة مسجد النور بالعباسية والتي اندلعت عقب قيام الشيخ حافظ سلامة أحد رموز المقاومة الشعبية بالسويس وعدد من أعضاء جمعية الهداية الإسلامية بالاعتكاف في مسجد النور بعد صلاة الجمعة الماضية للمطالبة بضم المسجد وملحقاته إلي جمعية الهداية الإسلامية ولم تنته الأزمة إلا بعد تدخل الجيش مباشرة حتي أن معركة كلامية اندلعت بين حافظ سلامة ووزير الأوقاف لم تنته إلا بعد فض الاعتكاف. وزير الداخلية اللواء منصور العيسوي أيضا من اكثر الوزراء الذي يوجه لهم انتقادات دائمة فالرجل جاء إلي الوزارة بعد خروجه علي المعاش ب 15 عاما وكان يعلق الشعب عليه آمالاً عريضة في إعادة الانضباط إلي الشارع، ولكن تلك الآمال تلاشت تدريجيا خاصة أن الوزير لم يكف يوما عن اطلاق التصريحات بقرب عودة الأمن إلي الشارع، ولكن ذلك لم يحدث وصحيح أن الوضع الأمني تحسن قليلا عن فترة ما قبل الوزير ولكنه تحسن بطئ جدا لا يحقق الأمان والدليل أن الوزير إلي الآن مازال يردد أن هناك صعوبة أمنية في محاكمة مبارك ونجليه في محكمة بالقاهره كما أن هناك فوضي مرورية في الشوارع ملحوظة بشكل كبير وتبقي إقالة العيسوي مطلباً جديداً من مطالب الثوار الذين طالبوا بضخ دماء جديدة في الوزارة وتولي قيادة شابة قادرة علي ضبط الأمن. وزير المالية الدكتور سمير رضوان اهتم فقط بالتصريحات العنترية التي تؤكد أن جميع مطالب الشعب سوف تجاب، فالرجل شعر بالخوف من أول مظاهرة للعمال المؤقتين فقام بتعيينهم دون دراسة مدي الحاجة إليهم من عدمه، كما أنه ظل يردد أن الحد الأدني للأجور سوف يحقق طوحات أبناء الشعب إلي أن جاء مخيبا للآمال التي كانت معقودة عليه بشكل كبير ولم يصارح الشعب بحقيقة ما يجري فتورط في حد أدني هزيل لا يحقق طموحات أحد علي الاطلاق ومازال الرجل يصرح بأن الحياة وردي ولا توجد مشاكل ولكن الواقع عكس ذلك بالمرة فالرجل يصرح بما لا يملك ولا ينفذ سياسات. أما الدكتور عمر عزت سلامة وزير التعليم العالي فترك الموسم الدراسي ينفض بين اعتصامات وإضرابات واعتراض من الطلبة علي أساتذتهم دون أن يتدخل وتكفي أزمة كلية الإعلام التي ظلت أسابيع بسبب تعنت الوزير في إيجاد وسيلة مناسبة للحل وترك الدراسة معطلة في بعض الجامعات دون أن يتدخل لفض الاشتباك بين الطلبة والأساتذة وكان الحل دائما في يد المجلس العسكري. ولكن أزمة حكومة شرف الحقيقيه أنها حكومة بلا حماية وبلا رقابة فلا توجد جهة بعينها الآن تراقب أداء الحكومة وتتابع تنفيذ سياساتها بعد حل مجلسي الشعب والشوري لذلك ارتفع سقف تصريحات الوزراء بما لا يتناسب مع إمكانيات وزاراتهم فرئيس الحكومة مهتم بجلسات الحوار الوطني ويهتم بجلسات المكلمات أكثر من اهتمامه بوضع سياسات محددة ومراقبة الوزراء، لذلك تحول همهم الأول والأوحد الآن إلي عدم ارتكاب أخطاء وليس المهم إدارة أعمال الوزارة أو حتي تسيير أعمالها، ولكن المهم هو الخروج بأقل الخسائر وهي سياسة ستدفع مصر إلي مزيد من الخراب والانتكاسة السياسية والاقتصادية لذلك بعد مرور 100 يوم علي الوزارة التي لم تحرك شيئا إلي الأمام أصبحت إقالتها مطلباً عاجلاً.