في »سوق الخميس« ألف دليل إدانة لحكم الرئيس السابق.. ففي هذا السوق الشعبي الواقع بمنطقة الكابلات القريبة من حي المطرية، لا تعرف الوجوه سوي ملامح المعاناة وإرهاق الفقر بفعل سياسات نظام مبارك التي رعت الاحتكارات وأسواق الرفاهية في شرم الشيخ ومارينا، وتركت للغالبية من الفقراء حرية البيع والشراء في سلع أكثرها مستعمل وكلها فاقد لصلاحية الاستهلاك الآدمي. تشعر، إذا لم تكن من بين المترددين علي السوق عادة، بالضجر من شدة الزحام وعفن الرائحة.. تتمشي قليلاً بين بضائع قاربت علي الانتهاء وتم تسريبها من المصانع تحت شعار »اللي يجيي منها أحسن منها«.. كشفت كاميرا زميلنا المصور.. »انتوا صحافة.. اوعوا تكتبوا حاجة مش كويسة عن السوق ولا البضاعة والا...« قالها شاب محذراً.. تذكرنا التحذيرات الكثيرة التي أطلقها أصدقاؤنا من الكشف عن هويتنا الصحفية بسبب سيطرة البلطجية علي الأسواق وغيره من الأسواق. بيع بعض السلع الغذائية التي قاربت علي انتهاء الصلاحية؛ كان يتم في السابق بين جنبات السوق، ولكن في نطاق ضيق خوفاً من البلدية والرقابة الوهمية والإتاوات التي كان يفرضها مسئولو المحليات. تختلف المحلات هنا فكل بضاعة لها طبيعة خاصة في العرض فإذا كانت مفروشات وستائر يكون المحل من ثلاثة جوانب ثم تشكيلها من البضاعة نفسها وعليها سقف قماشي من »الفراشة« أما إذا كانت أدوات منزلية أو كهربائية فإنه يتم فرشها علي الأرض. الخطر يكمن في عرض الأطعمة المختلفة من ملوحة وأسماك وجبن وحلويات وخضروات علي هذه الأرضية أو علي ترابيزة تعلوها شمسية.. »عاشور« الذي يقف علي فرشة لبيع الجبنة يرفض عرض بضاعته علي الأرض قائلاً: »مش ناقصة تراب وعفرة وحد يدوس عليها من الزحمة«.. أسعار الجبنة عند عاشور تكاد تخطف العقل فكيلو الجبن الفيتا لا يتجاوز ال 7 جنيهات في حين أنها لا تباع أقل من 20 جنيهاً في أي مكان آخر، أما الجبنة القشدة فسعرها 5 جنيهات فقط، وبرطمان الجبنة الفاخرة يباع بثلاثة جنيهات في حين أن سعره خارج السوق يتجاوز 15 جنيهاً، وثلاث علب من الجبنة المثلثات تباع بخمسة جنيهات، والجبنة الرومي المخصصة للغلابة ب 16 جنيهاً في حين أنها تصل إلي 45 جنيهاً في المحلات العادية، ولكنها تختلف في الجودة لأنها من بقايا تلك المحليات حسب أم شوقي بائعة الجبن »تعالي حتي تذوقيها يا أبلة دي زي الفل والناس هنا بتحبها ودي أكلة الغلابة أحسن ما يتحرموا منها«. صلاحيات السلع لم تنته بعد.. أخبرنا عاشور الذي شاهدنا نتفحص في تاريخ صلاحية العلبة، وقال: يتبقي لها شهر أو شهران علي الانتهاء، والكثيرون ينكبون علي البضاعة هنا، لكن المشترين رفضوا التحدث إلينا.. هم يقولون إن الفقر يحرجهم أمام أعين الكاميرا.. أطرقنا إلي حديث رجل وابنه أحمد من زبائن السوق »الأب: هانشتري ولا قلقان؟.. الابن: ما هي كويسة يا بابا تاريخ الصلاحية فاضل له شهرين لسه وإحنا هناك لها قبل الشهرين. الأب: أنا متردد وقلقان. الابن: دي فرصة تعرف دي هنا ب 2 جنيه وبتتباع بره ب 8 جنيهات. الأب: خلاص نتوكل علي الله نشتري«. هذا هو مبدأ الفقراء عند شراء الأطعمة والسلع الغذائية هنا فضلاً عن مبدأ الباعة »اشتري وانت مغمض عينيك«، فالمستهلك وحده هو الحكم علي جودة السلعة، وهناك عدة مظاهر تدل علي ذلك بداية من الرائحة وشكل العلبة نفسها إذا كانت منتفخة أو معوجة، حسب الدكتور نبيه عبدالحميد مدير مركز تكنولوجيا الغذاء. طريقة جلب المنتجات في هذا السوق تتلخص في قيام وسيط أو تاجر كبير بشراء السلع التي أوشكت صلاحيتها علي الانتهاء بأسعار قليلة جداً وبالجملة ويقوم بتوزيعها علي الباعة »السريحة« الذين يفترشون كل الأسواق، سوق الخميس في المطرية، والجمعة في البساتين، وسوق المنيب، حسب رواية »سيف« أحد بائعي السوق، والذي قال: نعتمد علي الزبون الطياري: يعني اللي مش هنشوفه تاني الحاجة رخيصة لو منفعتوش هيرميها بس مش هيشوفني تاني. أغرب نداءات ترويج البضاعة تلك التي أطلقها »حسن« صاحب فرشة بيع الملوحة الذي يصرخ في زبائنه »الملوحة الفاسدة دوق وب 40 جنيه بس«.. هو خصص من بضاعته سردينة كبيرة يقتطع منها حتي يتمكن الزبون من التذوق قبل الشراء، وهو مظهر لافت للنظر جعل المشترين ينكبون عليه، وبسماحة وجهه وخفة ظله جذب الانتباه للشراء دون النظر إلي كمية الذباب التي تجمعت علي بضاعته. البضاعة أيضاً كما البشر هنا لها طبيعتها الخاصة وهو ما يجعل الشراء يكون علي مراحل، فأمام فرشة الأحذية بدا شاب رحلة البحث عن حذاء مناسب فكانت المرحلة الأولي البحث عن فردتين متشابهتين بعد عناء وتدخل من البائع، ثم يبدأ في القياس، أما المرحلة الأخيرة فهي رحلة الفصال، الشاب التي تحفظ علي ذكر اسمه يقول »الأسعار هنا بالنص لو قال 40 يبقي أنا هشتري 20 أو 25 جنيهاً علي أقصي تقدير« يعني من الآخر لازم نفاصل معاه، وكذلك الملابس المستعملة من قمصان وبنطلونات يباع الواحد منها ب 15 جنيهاً قبل الفصال يعني ممكن تاخد طقم كامل ب 20 جنيهاً. »الكل في السوق بيسترزق« فبين أرجائه يمكنك أن تلاحظ العديد من باعة العطور وأدوات التجميل الخاصة بالمرأة. والغريب أن هذه الأدوات تحمل ماركات عالمية شهيرة ولكنها بالطبع مزورة أو غير معلومة المصدر وتتراوح أسعارها بين جنيه واحد إلي 10 جنيهات، فيصل سعر علبتي الشامبو من الحجم الكبير إلي 8 جنيهات رغم أن سعر الواحدة منها يبدأ من 12 جنيهاً في الخارج. حينما تتجول في سوق الخميس لابد أن يلفت انتباهك سوق المحمول، الذي تجد فيه أنواعاً مختلفة من الأجهزة لا تشهد زحاماً بسبب رداءة البضاعة. واللافت هو نظرات الريبة والخوف الصادرة من بائعي الموبايلات بما يوحي أن تلك الأجهزة مسروقة، إلا أنك تتأكد من ذلك حينما تسمع أسعار الأجهزة، فالموبايل لا يتجاوز سعره 30 أو 40 جنيهاً، استوقفنا موبايل »30 جنيهاً بس عايز بطارية وبصراحة ضارب شاشة« هكذا بادرنا البائع. السوق يطلق عليه سوق الغلابة، لذا كان لابد أن يخصص به مكان لبيع شيء من اللحوم والدجاج أو بالأحري بقايا الفراخ وهياكلها، ويبلغ سعر الكيلو منها 5 جنيهات، إلا أنها لا تجد إقبالاً عليها فبمجرد أن تقف السيدات أمام البائع وتسأل عن السعر تسرع بالذهاب قائلة »غالية«.. حاولنا التحدث إلي بعضهن، فاطمة واحدة من هؤلاء قالت لنا »الحمد لله الحالة ماشية.. بنشتري الهياكل لما الأمور بتتيسر معانا ولكنها غالية من بعد الأحداث الأخيرة ونضطر للاستغناء عنها«. »كل حاجة هنا لها ثمنها والزبون معروف« يقول عمرو هياكل أحد بائعي الفراخ.. »فبعد غلاء الأسعار كان لازم نرفع السعر لأنه فيه تجار كبار هما اللي بيفرضوا علينا الأسعار«.. وهو يوضح أن سعر كيلو الهياكل التي تضم الصدر والجناح والأرجل بلغ 6 جنيهات بعد أن كان يباع ب 3 أو 4 جنيهات قبل الثورة وكمان الزبون بتاعها بيشتري بشكل أسبوعي، أما الجناح الصافي فيصل سعر الكيلو منه إلي 10 جنيهات والوراك 14 جنيهاً«. هنا لا تتوفر أي وسائل لضمان نظافة أي سلعة، مما يسبب أمراض الكبد والفشل الكلوي وما إلي ذلك نتيجة الترسبات التي يحملها تناول مثل هذه الأغذية، وهو ما جاء علي لسان رئيس جهاز سلامة الغذاء«. وبجوار عمرو افترشت سيدة كبيرة الأرض لتبيع الحلويات »سقط اللحوم« من الفشة والكرشة ولحمة الراس، التي يقبل عليها الفقراء، أما الكوارع والممبار فتشير أسعارهما إلي انتقالهما لطعام الطبقات الغنية.. وهي تتهم النظام السابق بأنه السبب في معاناتهم من غلاء وارتفاع الأسعار ووقف الحال.. تقول: الفشة والكرشة اللي كانت ب 7 جنيهات دلوقتي ب 15 جنيهاً وأضافت إحنا كنا بنشتري الساقط بتاع الدبيحة ب 350 أو 400 جنيه لكن الآن أقل سعر له يوصل 750 جنيهاً. لا مجال هنا للتذكير بأن نوعية الغذاء التي ينكب عليها الفقراء في السوق تحتوي علي جزء عال من الدهون التي تؤدي إلي مصائب صحية ومنها الكوليسترول وانسداد الشرايين، وهو ما أضافه رئيس جهاز سلامة الغذاء. الزبائن - من ناحية أخري - قالوا عن سبب اتجاههم إلي ما يسمونه »أشباه اللحوم« هو رخص سعرها، وعدم القدرة علي شراء اللحوم الحمراء »نكتفي من الحين للآخر بشراء كيلو أو اثنين من أرجل الفراخ ودسها في الطبيخ لتكسبه طعم اللحم حتي لا يشعر الأطفال بالحرمان الدائم منها«. علي رصيف جانبي وضع أحد الباعة بضاعته من رؤوس أسماك المبروكة التي يصل سعرها إلي 3 جنيهات، أما جسم السمكة فيتم بيعه للفنادق ومحلات الأسماك الكبري في سوق العبور. خبراء التغذية يرون أن التلوث الغذائي يصل الغني والفقير علي حد سواء.. الدكتور حسين منصور رئيس جهاز سلامة الغذاء يؤكد تعرض البعض للأمراض المزمنة نتيجة تناولهم هذه المأكولات، ويقول: المشكلة في أنهم غير قادرين علي توفير علاجهم كما يفعل ميسورو الحال، مما يؤدي إلي الوفاة، فضلاً عن أن النتائج السلبية لمثل هذه الميكروبات المتراكمة هو التكاسل عن العمل وفقدان الحيوية التي تؤدي إلي حتمية التسول في النهاية. ومن بين الآثار السلبية التي تتركها هذه الملوثات مادة الرصاص التي تترك أثراً بالغ الخطورة علي المخ يخلف نوعاً من البلادة الذهنية وتباطؤ التحصيل الدراسي، حسب منصور الذي يشير إلي احتياجنا لتغيير ثقافة المجتمع فقيراً كان أو غنياً حتي نتجنب اللوم علي الفقراء فقط، وحل أزمة سلامة الغذاء بدلاً من البحث عن الاكتفاء منه. منصور يؤكد أن فترة صلاحية سلعة ما هي حكم نسبي وانقضاء الأجل لا يعني عدم سلامة السلعة، وأنه من الأفضل إتاحة الفرصة للمستهلك لاختيار الأنسب، مشيراً إلي أن الضوابط التي تفرض عليها تتمثل في تسهيل المراقبة وهي معيار مناسب للحكم عليها من خلال اختبارات حسية ومكروبية، حيث من المؤسف في مصر أنه لا يوجد ما يجبر التجار في القانون علي عرض السلع وخاصة الألبان في ظروف مناخية مناسبة، فالحكومة نفسها تصنع ذلك، حين تلجأ لعرض اللحوم في شوادر كبيرة دون رقابة صحية تذكر.