ارتعدت فرائصي وشعرت بالهلع والفزع وتصببت عرقاً غزيراً حتى لم يفلح كيس المناديل الذي في جيبي في تجفيفه وبدأت ألحظ حالة دهشة وتساؤل على راكبي الميكروباص الذي كنت أستقله الذين تصوروا أنني مصاب بحمى إثر قراءتي في طريق عودتي إلى المنزل مقال الدكتور عبدالمنعم سعيد في «المصري اليوم» بعنوان «الأزمة الأخلاقية» الذي راح يؤكد فيه نقلاً عن «دانتي أليجيري» في «الكوميديا الإلهية» قوله: «إن أسوأ المواقع فى الجحيم هى تلك التى يوجد فيها هؤلاء الذين يقفون على الحياد فى زمن الأزمة الأخلاقية» بعد أن تخيلت نفسي أحد هؤلاء، شعرت بأنني منحل رغم الوهم الذي كنت أعيشه بأنني بيت الفضيلة.. ليس هذا هو المهم فذلك أمر هين ولكن الكارثة أنني سأكون في الدرك الأسفل من النار بعد أن أفنيت الجزء الأكبر من عمري، وقد اشتعل الرأس شيباً، في تلمس طاعة الله أملا في الفوز بجنته.. لا لشيء سوى أنني قد أكون وأمثالي من بعض من يكتبون يحاولون أن يلتزموا رؤي موضوعية في تقييم ما يجري في أرض مصر أو في منظور الدكتور سعيد وأمثاله نحاول أن نكون محايدين! والرجل محدد وواضح.. فمن وجهة نظره «لا يوجد مكان للحياد أو المحايدين الذين سوف يذهبون إلى أسفل السافلين فى جحيم دانتى».. رغم إقراره بحالة الاستقطاب الحاد التي نعيشها وتعقد الأزمة وهو ما يعني في أحد أوجهه تباين الرؤى واختلاف التوجهات سواء كان ذلك يعكس مصالح ذاتية لأصحابها أم رؤى فكرية، وهي الحالة التي دفعت شخصا مثل البرادعي – الذي يعتبره البعض أيقونة الثورة والأب الروحي لها – للاستقالة من منصبه رغم التحفظات الكثيرة التي ترد على مثل هذه الخطوة، وهي تحفظات لا تعني بأي حال إقصاءه من فضائنا السياسي لمجرد الاختلاف معه. كنت حتى فترة غير بعيدة أتصور أن ديكتاتورية الرأى تعتبر حكراً على بعض من نصبوا أنفسهم حماة للدين والتزموا أقصي مواقف التشدد.. فأمثال هؤلاء ليس لديهم وسط رغم أن الإسلام عقيدة وسطية.. لم أتصور ان مفكراً ليبرالياً أو يدعي الليبرالية يمكن أن ينعى على مخالفيه في الرأى محاولة التزامهم الموضوعية في وقت ادلهمت فيه الخطب واختلط الحابل بالنابل.. صحيح أن ذلك بدا في موقف «أبو» الليبرالية الغربية وممثلها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن حينما راح يؤكد إثر أحداث سبتمبر «من ليس معنا فهو ضدنا» غير أن فجاجة بوش، دعت البعض لعدم التعويل كثيراً على مواقفه نظرا لتهافتها وأيديولوجيتها. حين سرحت بخاطري حمدت الله على أني في الدرك الأسفل من جحيم دانتي فذلك شرف ناله من قبل ابن رشد فيلسوف الإسلام الأعظم.. غير أني شعرت بما يثلج صدري أكثر حين تذكرت أن دانتي – بعيداً عن الموقف الأدبي من كوميديته – خصص، في إطار عدائه للإسلام والمسلمين، مكاناً في جحيمه تلك، التي استوحاها من معراج النبي، لرسولنا صلي الله عليه وسلم.. وسألت نفسي: وهل هناك طموح وأمل للمسلم أقصى من أن يكون إلى جوار نبيه؟ لقد بلغت ديكتاتورية الكاتب – سعيد - حداً يصعب تصوره حيث راح ينال من مخالفيه ليس فقط بالإشارة إلى انتقاده لما يعتبره حيادهم بل إلى محاولة طردهم من جنة الحداثة حين راح يعلن رفضه لاستخدام هؤلاء مفاهيم الدولة المدنية والديمقراطية وغيرها التي يبدو أنه يريدها حكراً عليه وعلى أمثاله من الكتاب لكي يرطنوا بها في كتاباتهم وطلاتهم الفضائية.. الأكثر مدعاة للذهول إنكاره على بعض الكتاب الحديث عن حرية التعبير والتظاهر والدولة المدنية غير العسكرية. إذا كان الشىء بالشيء يذكر ف «التقية» التي يتحدث عنها سعيد، التي يرى أنها ربما كانت مبررة من قبل من يتناولهم بالنقد في مرحلة ما قبل ثورة يناير مارسها هو بنفسه بعد هذه الثورة وتكفي مراجعة متأنية لمقالاته للتيقن من هذه الحقيقة، وهو ما أشرنا إليه في مقالة سابقة منذ أكثر من عام.. ولعل أقرب توصيف لموقف سعيد هو أنه «كمن» – كغيره من أنصار النظام الأسبق – في انتظار اللحظة المناسبة للانقضاض على الثورة التي أطاحت بالكثير من امتيازاتهم.. وقد بدا نجاح هذا «الكمون» في تطورات ما بعد يناير، التي نعيش بعض تجلياتها الآن وتبدو واضحة في تحركات بعض هؤلاء.. بفعل العديد من الظروف على رأسها فشل مرسي في تجربة الحكم، الأمر الذي مثل فرصة مواتية لعودة ليس نظام مبارك وإنما لعودة بعض رموزه.. وهم كثر يملأون الساحة ضجيجاً الآن.. يمثلون الطليعة في الصراع على مستقبل الثورة والدفع لإنجاح الثورة المضادة.. حينما انتهيت من قراءة مقال سعيد رحت أدعو بالرحمة للدكتور غالي شكري الذي قدم تنظيرا بالغ الروعة لدور المثقفين في ممالأة السلطة في كتاب من جزئين بعنوان «المثقفون والسلطة في مصر» قد يكون من الحيوية إعادة قراءته في لحظتنا الراهنة.