هناك نظرتان للصحافة في مصر أخيب من بعض وربما لهذا فهما أكثر انتشاراً هذه الأيام: النظرة الأولي مفادها أن تراجع الأحزاب السياسية وضعفها وهشاشتها أدت إلي أن الصحافة (والفضائيات) أخذت دور الأحزاب (المعارضة)، فالصحف تلعب بقوة علي الساحة كأنها أحزاب ذات موقف وحضور وتشاغب الدولة ويمثل رجالها أدوار البطولة والزعامة بديلا عن قيادات الأحزاب المفقودة (أو المفتقدة) وهذه النظرة يتبناها دكتور علي الدين هلال - أمين الإعلام في الحزب الوطني - ويروج لها بحماس مهلل أحمد عز - أمين تنظيم الحزب نفسه - ويكاد يعممها علي قيادات الحزب وأعضائه. النظرة الثانية تري أن الصحافة يجب أن تكون محايدة ولا تلتزم بأي موقف وعليها أن تبقي مهنية يقتصر أداؤها علي «صرح وأكد والجدير بالذكر»، وتحاول هذه النظرة أن تدعي الحكمة والتعقل ورغم أنها تسمي الميوعة حيادا وتعتبر غياب الرؤية وهزال الموقف مهنية وتتصور أن الجبن والخوف عقلانية وتعتبر الانتهازية استقلالا مهنيا، فإنها - برغم ذلك أو بسبب ذلك - تجد البعض داخل الساحة السياسية والصحفية يؤيدها ويسوقها فخورا بالمياعة واللاموقف! كل طرف ممن يروج هذه النظرة (لاحظ أنني لا أقول نظرية) ينطلق من مصلحته في تبرير عجزه (السياسي أو الفكري) وينتقص من منافسه أو خصمه (السياسي أو المهني) ويفسر لمالكه (رئيسه الحزبي أو صاحب الجورنال أو المحطة) سبب نجاح الآخرين وإزعاجهم المصالح السائدة وقدرتهم علي تحديد أجندة اهتمام المجتمع! الطريف هنا أن كلتا النظرتين لا أصل لها ولا فصل في التاريخ المهني والسياسي، وإذا كان دكتور علي الدين هلال وهو أستاذ (وكان أستاذنا... كذلك) في السياسة يتجاهل التاريخ والأسس والأصول فهذا لهدفه الحزبي ربما، فلا يمكن أن يكون نسيانا بل تناسيا! ففي قمة حضور الأحزاب وقوتها في الشارع المصري قبل يوليو 52 كانت صحف الوفد والوطني والإخوان وحركة مصر الفتاة والشيوعيين تلعب دورا هائلا في الحياة السياسية والوطنية رغم كل الصخب الذي امتلأ به الشارع المصري وقتها، والثابت أن الصحافة في العالم الديمقراطي تقود الجماهير للتنوير وللتغيير مع هذا الحضور الواسع والعميق للأحزاب والتنظيمات السياسية في هذه الدول! أما أصحاب نظرة الصحافة المحايدة فحداثة الخبرة أو طفولة الثقافة ونعومة العقل وجنوح الطموح تبرر لهم هذا الاعتقاد الصادق بمثل هذا الكلام الفارغ! نعم كلتا النظرتين أوهام مطلقة ومحلقة رغم حالة التفاخر المضحك لأصحابهما والدليل يأتي من هناك.. من إنجلترا وهي - إذا كان عند أحد شك فليعلنه - منبع الصحافة الصافي وأصل الديمقراطية النقية - وهي بالمناسبة مخترعة كرة القدم وأمها الرؤوم الرؤوف - إذن عندما تكون إنجلترا مرجعاً وما يحدث فيها حالا والآن دليل فأظن أن هذا يغني عن اللجج واللدد! لكن أرجو هنا ألا يخيل عليك كلام البعض حين يثرثرون عن حق القارئ في المعلومة الصحيحة والخبر الصادق، فهذا أمر طبيعي وبدهي ولا يجوز أصلا النقاش فيه أو حوله لكن في مصر التي تمنح الموظف الذي يرفض الرشوة جائزة ومكافأة كأن رفض الرشوة عمل استثنائي أسطوري يستحق المكافأة يصبح الكلام عن البدهيات أمراً مطلوبا، المهم نفرق إذن بين المعلومة والخبر - وهي حق أصيل - من جهة والمعالجة والموقف والرؤية من جهة أخري، هنا تعال نتأمل الدروس القادمة لنا من إنجلترا، حيث انتخابات برلمانية حادة وحماسية وحيث لا يمكن أن تسمع كلمة نزيهة فيها أبداً فلا الحكومة تطلق وعودا بنزاهتها ولا المعارضة تطالب بنزاهتها لسبب بسيط أن النزاهة موضوع مفروغ منه بينما عندنا في مصر حكومة مزورة ومزيفة وشعب يعرف أن انتخاباته مزورة ومزيفة ومعارضة تشكو من أن الانتخابات مزورة ومزيفة ولا تسمع إلا كلمة «نزيهة»! يقول جون لويد - المحرر المخضرم الذي يعمل لدي صحيفة «فاينينشيال تايمز» - في تصريحات ل «واشنطن بوست»: إن «الصحف البريطانية تنحاز حزبيا وبشكل واضح أكثر من نظيرتها الأمريكية»، مضيفاً أن الصحف الشعبية (تابلويد) تنحاز بشكل واضح سياسيا وحزبيا، وهذا الانحياز لا يقتصر علي الصحف الشعبية، لكنه يبدو جليا أيضا عند الصحف الرزينة، فتري «الجارديان» تنحاز لصالح اليسار، وفي مقابل ذلك تنحاز «التايمز» و«الديلي تليجراف» إلي اليمين. إذن انحياز «أهوه» من أول لحظة، لا سمعنا أوهاماً عن الحيادية ولا عن الميوعة الرقيعة بدعوي المهنية المحترفة، أعتمد هنا علي معلومات وردت في تقارير تفصيلية نشرتها الصحف العالمية خلال الأيام الماضية، وأهمها تقرير بارز كتبه الزميل عبداللطيف جابر في جريدة «الشرق الأوسط»، ونفهم من هذه التقارير: أن الصحافة البريطانية تنحاز سياسيا في مواقفها ليس فقط في مجمل تراكمها السياسي وتوجهاتها أو من خلال معالجتها الأمور المحلية والدولية، وإنما من خلال ما تكتبه وبشكل واضح لصالح هذا الحزب أو ذاك أو هذه القضية أو تلك وفي فترات سياسية واضحة مثل الانتخابات البرلمانية. وقد أفصحت بعض الصحف، مثل «الصن» و«الديلي تليجراف»، عن أنها ستدعم حزب المحافظين في الحملة الانتخابية البرلمانية. الصحف المحسوبة علي «اليسار» مثل «الجارديان» أعلنت عن انحيازها الكامل لنيك كليج زعيم الحزب الليبرالي في هذه المعركة وطالبت بانتخابه. في الوقت نفسه أعلنت مجلة ال«إيكونوميست» المؤثرة دعمها حزب المحافظين في الانتخابات العامة، وأعطت حزب المعارضة الذي يتزعمه ديفيد كاميرون دفعة قبل الانتخابات التي ستجري يوم الخميس المقبل. وحولت المجلة دعمها لحزب العمال، قائلة: إن المحافظين يبدون الأكثر التزاما في خفض حجم القطاع العام. وكتبت المجلة الأسبوعية في افتتاحية: «تشكل الحكومة الآن أكثر من نصف الاقتصاد، ويرتفع ذلك إلي 70% في أيرلندا الشمالية. لكي تزدهر بريطانيا لا بد من التعامل مع هذا التنين المدمر للحرية». وأضافت: «المحافظون علي الرغم من كل عيوبهم هم الأحرص علي عمل ذلك.. وهذا هو السبب الرئيسي في أننا سنعطيهم صوتنا». قراءة عناوين الصحف كذلك بعد مناظرة بين زعماء الأحزاب الثلاثة (كاميرون زعيم المحافظين - كليج زعيم الليبراليين - براون زعيم العمال) كاشفة عن توجه وانحياز كل جريدة. - الديلي ميل: كاميرون يشن هجوماً مضاداً. - «التايمز» اليمينية أيضاً: كاميرون يتقدم علي كليج، براون الثالث. - «الإندبندنت» الليبرالية قالت: إن ديفيد كاميرون وجوردون براون ركزا علي الحملات الشخصية، ولكن كليج أحسن الدفاع عن نفسه. - «الجارديان» الليبرالية اليسارية: كليج يتحمل العاصفة. - «التليجراف» اليمينية: كاميرون يرد مهاجماً. هذه هي مانشتات الصحف التي علّمت العالم معني الصحافة تعبر عن توجهها ورؤيتها وانحيازها بوضوح المعني والعنوان، لا أحد قال لها: عيب وهذه ليست صحافة وإنكم عاملين فيها مناضلين، ولا اتهموها بأنها منشورات أو صحف سوداء أو حمراء أو صفراء! أما هنا في مصر فنتحمل جهلا مهنيا وحيلا سياسية تستهدف سحب مواقف الصحافة وتحويلها إلي وعاء للمصالح أو سوبر ماركت للتسلية أو ناد للثرثرة وعقد الصفقات، بينما الصحافة الحقيقية سواء كانت تناضل ضد ديكتاتورية في مصر أو تونس أو السودان أو كوريا الشمالية، أو كانت تعمل في أجواء حرية مطلقة في السويد والنرويج وكندا، أو في واقع شرس من تحكم المال وشركات السلاح ونفوذ المليارديرات في أمريكا، فهي تمارس الدور الوحيد الذي يجب أن تمارسه (كشف الحقيقة وترسيخ الحرية) وهي تعلن عن مواقفها وانحيازاتها ورؤيتها للعالم ولمجتمعها دون أن تتستر وراء ميوعة تقول عنها حيادا، أو تفاهة تقول عنها استقلالا، أو ذعرا تقول عنه تعقلا، أو ضبابية ومراوحة ومراوغة تقول عنها مهنية! لا حياد في الصحافة هل كانت الصحافة الأمريكية مطالبة بالحياد مع جورج بوش وهو يعادي العالم ويغزو بمواطنيه شعوباً في حروب قذرة؟ هل كان من المفترض أن تكون الصحافة محايدة مع بينوشيه - ديكتاتور شيلي -، وكذلك مع الحكومات العسكرية أو الديكتاتورية وقت سيطرتها علي أمريكا اللاتينية أم تناضل ضدهم وتحاربهم وتكشف عن جرائمهم وتخوض أعظم حملات الشرف لهذه المهنة؟ هل المفروض أن تكون صحف بغداد في عهد صدام حسين أو في مرحلة نوري المالكي محايدة تسكت عن الاستبداد والتزوير والتعذيب؟ هل من المفروض أن تكون الصحافة المصرية محايدة مع حكم مستبد يزوّر الانتخابات ويحتكر السلطة ويقمع المظاهرات ويفسد في الأرض ويبيع ثروة البلد ويلوث الزرع والماء؟ أي صحافة تعلمها هؤلاء فعلاً؟ مشكلة هؤلاء المرجفين المروجين لهذه النوعية المطلوبة حكومياً من الصحافة أن بعضهم: - تربية مربين من فترة تأميم الصحافة التي اعتادت صحافتها أن تكون في خدمة السلطة والسلطان. - تربوا مهنيا في صحف الخليج والسعودية التي تقدم لحكامها وأميرها أو مليكها فروض الولاء والطاعة صباح كل نهار! وكان الله في عون الجميع.