هناك في أحضان شارع المعز لدين الله الفاطمي العريق في «القاهرة» توجد بعض المهن والحرف التي تعد جزءاً من الفنون الإسلامية التي هي أعظم ما عرفته يد البشرية، وفي وسط هذا الشارع ذي الطراز الإسلامي، يوجد أحد المحال التي تتميز بحرفة النقش على النحاس التي تعد من أبرز الفنون الشرقية والإسلامية والتي مازالت تحتفظ ببريقها الخاص، فالنحاس له عشاقه ومحبوه، فهو لا يزال يتأثر بالظروف الجوية كثيراً، ويعود تاريخ هذه الزخرفة إلى بداية ازدهار الحضارة الإسلامية والعربية، حيث ترى في تزيين مباني المساجد والمدارس والقصور والتي عرفت بالفنون الزخرفية، وهذه المهنة وهي «النقش على النحاس» توارثها الأبناء من آبائهم وأجدادهم، لتبدع أنامل الفنانين أجمل الفنون الزخرفية من النحاس. الحرفة في الماضي ومن هؤلاء الذين توارثوا هذه المهنة أباً عن جد هو الحاج جمال شوشة صاحب «فضيات المعز» الذي تتجلى إبداعاته من خلال معرضه بشارع المعز لدين الله الفاطمي أشهر شارع سياحي في مصر الذي يقول إن هذه المهنة – النقش على النحاس – توارثتها أباً عن جد منذ زمن بعيد، وقد كانت هذه الصنعة في الماضي في عهد الدولة الإسلامية يصنع منها العملات والصواني أو الأواني النحاسية أو أطقم الشاي والمباخر القديمة والتي لا تزال من أهم المعروضات في سوق خان الخليلي، وقد طرأ على هذه الحرفة تطور وتغير كبير، في الأشكال والألوان وطريقة الصنعة والطلاءات بالذهب والفضة وتزايد الآن الحفر الكيميائي باستخدام الماكينات، وبدأنا نطور فيها وندخل أشكالاً أخرى الآن مثل حافظة المصاحف والآيات واللوح القرآنية وأطباق منشورة بآيات قرآنية أو أشغال عربية، وعمل أشكال للمباخر والساعات جديدة وأوان نحاسية وعلب الملبس والشيكولاتة والأطباق الفرعونية والتي ينقش عليها الحرفي المناظر العديدة مثل الأهرام وأبو الهول وتوت عنخ آمون وعربة رمسيس الحربية وصيادي السمك والطيور، ومن أشهر الذين امتهنوا هذه المهنة الحاج «أحمد درستاوي» والحاج «عوض السروجي» و«عزمي جاد» وغيرهم الكثيرون من محترفي النقش على النحاس والتي استمدوا أفكارها من الأشكال والأماكن الأثرية والفرعونية كتلك الموجودة على المعابد والإسلامية كالزخارف الموجودة على جدران المساجد والفاطمية. خامات وأنواع النحاس المستخدم ويضيف الحاج «شوشة» أن النحاس المستخدم في هذه الصنعة ليس نوعاً واحداً، فهناك النحاس الأصفر والأبيض والأحمر، إلا أنه لم يعد هناك إلا نوعان فقط هما الأصفر والأحمر، ويكثر العمل بهما الآن، لكن النحاس الأحمر يعد هو الأغلى لنقائه بعيداً عن الشوائب والسهولة الحفرية عليه بدقة لأنه طري، ويأتي النحاس المستورد من الخارج في صدارة أنواع النحاس التي يتم استخدامها من قبل محترفي هذه المهنة لخلوه من الشوائب، خاصة أن بعض الناس يجمعون النحاس القديم ويعيدون تصنيعه عن طريق تسخينه وصهره، إلا أنه يكون مليئاً بالشوائب، أما النحاس الأحمر المستورد فهو مستخلص من باطن الأرض، وتتم «درفلته» وفرده عكس النحاس الأصفر، ولذلك فأسعار النحاس تتزايد كثيراً، فقد ارتفع سعره من ثلاثة جنيهات إلى (17 جنيهاً) إلى أن وصل اليوم 60 جنيهاً، ولذلك كل قطعة تختلف عن الأخري في أسعارها. مراحل الصناعة وعن مراحل هذه الحرفة يتحدث سيف الدين محمد (نقاش على النحاس) قائلاً: في البداية نختار قطعة النحاس التي يراد صنعها وتشكيلها ثم نقوم بتقسيط قطعة النحاس، بمعنى مساواة جميع أجزائها بالمطرقة والسندان، ثم يتم مسحها وتطويقها جيداً، ثم يقوم الفنان (الرسام) بالرسم عليها بواسطة قلم رصاص، لكن ليس من الضروري أن من يعمل في النقش أن يكون خطاطاً، فهناك الكثير من أصحاب الورش الذين يستعينون بخطاطين على درجة كبيرة من الاحتراف لكتابة أية جمل وخطوط وآيات مطلوب حفرها، ثم نبدأ بعدها عملية «تبكير الخانات» التي تم رسمها بمعنى ابتكار كل خانة مثل الأخرى بالضبط، وذلك باستخدام البرجل والقلم ثم نستخدم قلم النقش «الحفر» وبالدق عليه بالشاكوش، وهناك العديد من الأقلام التي تستخدم في هذه الحرفة منها أقلام «الجوهارسة» وهي التي يتم بواسطتها نقش دوائر صغيرة فوق قطع النحاس وهناك أيضاً أقلام «الزنبة» ومهمتها عمل النقاط المطلوبة في الرسم على النحاس، وهناك أقلام «الترمبل» وهي التي تلزم لجعل الأرضية في النحاس شبيهة بالرمل، وهناك أقلام «المقطع، وهي التي تخصص للتفريغ، وتتم عملية نقش النحاس أو «زخرفته، بثلاث طرق أولاها النقش أو الحفر، وتتم بأدوات يدوية دون استخدام أي تقنية عالية عن طريق الأزميل والمطرقة الحديدية وثانيتها هي طريقة الحفر البارز أو النقر، وتأتي في الدرجة الثانية من النقش من حيث الدقة وثالثتها فهي طريقة صب الفضة على النحاس وهي طريقة لا يعرف سرها إلا المهرة القلائل، وتتم عملية الحفر عن طريق المرور على الشكل المرسوم أو الآيات المكتوبة على قطعة النحاس، وبعد الانتهاء من عملية الحفر تذهب قطعة النحاس للمخرطة لرسم الشكل الذي نريد إخراجه إذا كان دائريا أو مستطيلاً وإلى ذلك، ثم تأتي مرحلة الذهاب للفرشاة للتلميع وتتم مرحلة الطلاء بالألوان والطلاء بالذهب والفضة والبرونز، وربما يدخل في القطعة أربعة ألوان إلا أن هناك البعض يطلبها صفراء فقط. التطيعم بالفضة ويضيف «سيف الدين» أن هناك طريقة للتطيعم بالفضة وذلك عن طريق عزل قطعة النحاس المراد تطيعمها بالفضة بمادة شمعية لا تتأثر بالأحماض، ثم يقوم النقاش بالرسم بواسطة أقلام النقش الفولاذية بمساعدة المطرقة والسندان، ثم يتم تحديد الشكل المطلوب حتي يسمح بوصول الأحماض إلى داخل جسم المعدن فوق الرسم المصمم، وتغطيسه في حمض الأزوت الممدد، وتركه لمدة ثم نقوم بإخراج قطعة النحاس من الأحماض ونغسلها ويتم تنشيفها ثم بعد ذلك يتم تركيب خيوط الفضة في هذه الشقوق التي تم حفرها، وذلك عن طريق الطرق الخفيف عليه، وهناك طريقة ثانية، وهي الضغط على النحاس من خلال حفر الشكل الخارجي للزخرفة الموجودة على قطعة النحاس حتي يبرز الجزء الداخلي للزخرفة ويتم ذلك عن طريق استخدام النحاس السميك وليس النحاس الرقيق. أهم مشكلات هذه الصناعة وعن أهم المشكلات التي تعوق هذه الصناعة يقول أحد أصحاب ورش النقش على النحاس: من أهم هذه المشكلات تزايد أسعار النحاس بشكل كبير خلال هذه الفترة، مما أدى لهروب الكثيرين من أبناء هذه المهنة إلى مهن أخرى لقلة الربح، وأدى ذلك إلى تغيير نشاط كثير من الورش الكبيرة التي كانت تعمل في النحاس للعمل في الصاج، بالإضافة إلى قلة صبر الأجيال الجديدة الذين لا يعرفون قيمة ذلك الفن الرفيع، أضف إلى ذلك استيراد الكثيرين منتجات النحاس من الصين والذي يعتمد على الشكل الخارجي فقط، فألوانه تمحى بعد فترة قصيرة من الزمن وجودته ضعيفة جداً، بالإضافة إلى أن رخص أسعارها يجعل الكثيرين يقبلون عليها، وبالإضافة لذلك فهناك بعض المصانع والورش التي تعتمد على الحفر الكيميائي للنحاس مما أضعف من مهنة النقش على النحاس اليدوية بصورة كبيرة الآن وهددها بالانقراض إلا أنه بالرغم من ذلك تبقى هذه المهنة هي الأكثر عراقة وبراعة تدل على الفنون الإسلامية.