عندما تتوغل في قلب القاهرة الفاطمية، وتأخذك قدماك إلى حي الجمالية، وتحديدا إلى درب الزاوية بالمبيضة، ستجده في ورشته الصغيرة مسجيا أمامه قطعة من النحاس يرسم وينقش عليها بأنامله، ودون عناد تطاوعه القطعة النحاسية مستسلمة لأدواته التي يوظفها بمهارة فائقة، ليخرج في النهاية تحفة فنية تنبض بالجمال، كعادته دائما منذ 51 عاما. منذ ذلك الزمان، وفي هذا المكان، يعمل بيومي محمد تهامي، الشهير ب "الشيخ بيومي النقاش"، في حرفة الرسم والنقش على النحاس، التي حجز لنفسه مكانة مميزة بين أبنائها، توجت بحصوله على ثلاثة ألقاب هي: خبير وفنان وسفير لمصر في مجال الحفر على النحاس. من داخل ورشته يقول الشيخ بيومي -63 سنة- : "بدأت العمل في حرفة النقش على النحاس وعمري 12 سنة، ورغم أنني التحقت بالمدرسة في صغري فإنني لم أتعلم القراءة والكتابة، وطوال ست سنوات لم أتواجد سوى في فناء المدرسة لكي أمارس هوايتي في الرسم فقط". ويضيف: "في إحدى المرات وأنا أتجول في حي الجمالية مررت بأحد الأسطوات يرسم وينقش على النحاس، أعجبت به، فقلت له إنني أستطيع الرسم مثله تماما، فتركني لأجرب، وبالفعل نجحت رغم أنها كانت أول مرة أرسم فيها على النحاس، ليكون ذلك أول طريقي في هذه الحرفة، حيث التحقت للعمل بورشته، وليكون الأسطى حسن المجنون هو معلمي". ومن نفس المكان الذي بدأ فيه خطواته الأولى وبعد أن آل إليه بعد ذلك بسنوات، يتابع الرجل الستيني: "وجدت نفسي في الرسم الفرعوني على النحاس، وخلال شهر واحد بدأت النقش، ورغم صغر سني كانت يدي حساسة ودقيقة، وما هي إلا أيام قليلة إلا وبدأ أسطوات المهنة يعرفونني ويطلبونني، ونظرا لموهبتي التي حباني الله بها أطلقوا علي لقب الشيخ، ومنذ ذلك الوقت وأنا أعتز بهذا اللقب الذي أجد فيه مسحة روحانية". رغم عدم ذهاب "الشيخ" الشاب إلى أي مناطق سياحية فإنه أخذ على عاتقه تطوير الرسومات التقليدية المتعارف عليها في الأعمال النحاسية، خاصة الرسومات الفرعونية، حيث ابتكر أشكالا من وحي خياله، كما عمل على التوسع في استخدام اللغة الهيروغليفية التي يتقن حروفها، ولم تقتصر موهبته على النحاس حيث امتدت للنقش على الفضة والذهب وكافة المعادن، وأيضا الرسم الفرعوني والقبطي والإسلامي إلا أنه يفضل دائما الرسومات الفرعونية التي يجد نفسه بها. مع تعدد منتجاته كان اشتراك الشيخ بيومي بأحد المعارض الفنية في تسعينيات القرن الماضي، والتي زارها الرئيس المصري السابق حسني مبارك، الذي توقف أمام منتجاته، ومع إعجابه بها، أوصى وزير السياحة وقتها بأن يشارك بمنتجاته في المعارض الدولية الخارجية التي تشترك بها مصر. يقول "الشيخ": "الشهرة الحقيقية لي كانت في هذه المعارض التي تستضيف الحرف اليدوية والتقليدية، حيث بدأت السفر إلى دول العالم لعرض منتجاتي التي تعد واجهة لمصر، ذهبت أولا إلى إيطاليا، عرضت منتجاتي وجلست ممسكا بقلم الحفر الحديدي ومطرقتي لأنفذ ما يريده زوار المعرض أمام أعينهم، والذين انبهروا من دقة ما أصنع، ومع زيارة عمدة مدينة ميلانو للمعرض أعجبته معروضاتي، فعرض علي الإقامة في إيطاليا لتعليم شبابها حرفة النقش على النحاس نظير أي مبلغ أحدده مع إقامة مزاد على كل عمل أنتهي منه، ولكنني رفضت تلك الإغراءات لأنني أريد أن أعلم شباب مصر لأنهم أولى بذلك". نفس الأمر تكرر في معرض بإسبانيا، حيث طلبت ملكة إسبانيا إقامة «الشيخ» لديهم لتعليم الشباب حرفة النقش، كونها أحد الفنون التي لها بريقا خاصا، ولكنه كرر الرفض لنفس الرغبة لديه في تعليم أبناء جلدته المهنة باعتبار ذلك صدقة جارية. ومع المعارض المتتالية للشيخ بيومي في دول أوروبا والدول العربية، وإقبال السائحين الأجانب والعرب في مصر على بضاعته، وكذلك البازارات والفنادق والمؤسسات ورجال الأعمال، استحق درجة خبير وفنان وسفير لمصر في مجال الحفر على النحاس من الجهات الحكومية في مصر. لا تقتصر مشغولات الحفر لدى الشيخ بيومي على نوع واحد، حيث تنتج ورشته منتجات كثيرة ذات نقوش غائرة أو بارزة تستخدم للديكور والزينة، فهناك الفازات والأطباق والصواني والأكواب، والأبريق والمبخرة والدلاية والطفاية والسبرتاية والعطارة والشمعدان، والسكرية والملاحة، والعلب المختلفة الأحجام والأشكال والاستخدام، إلى جانب الأساور والميداليات ومفتاح الحياة، وجميعها ذات نقوش فرعونية أو إسلامية مستلهمة من البيئة، أضافت إليها أيدي الشيخ بيومي رسومات جمالية وتصاميم زخرفية بألوان مختلفة، عملت على تحديث الأشكال التقليدية المعروفة لهذه المنتجات لكي تتلاءم وجميع الأذواق في مصر أو خارجها كما يعتز الرجل أيضا بما صممه في أمريكا لصالح أحد المصريين، حيث قام بعمل هرم من النحاس بطول 6 أمتار، ومكون من بابين، ويتم فكه وتركيبه، مما أعجب كل من يراه. ورغم كل مساهماته الفنية وتطويره فإن الشيخ بيومي يحزن لحال حرفته، فهو يأسف من ناحية لعدم وجود نقاشين مهرة في الوقت الراهن بعد أن اختفوا من الورش، ويقول: "لا يوجد الآن من يحفر، وأمام الميكنة والزنكوغراف التي لجأ إليها الصناع لتلبية الطلبات المنهالة عليهم، يخشى الشيخ بيومي على مهنته من الانقراض، ويقول بحزن وأسف: "لا أحد من المسئولين يقدر الحرف اليدوية بشكل عام وحرفة النقش على النحاس بشكل خاص، لذلك أطالب بعمل معارض دائمة للشباب لتعليمهم وتسويق بضاعتهم". ** نقلاً عن جريدة الشرق الأوسط