تصوير الفنان سيد عبد ربه من أقدم الحرف والمهن المصرية التى تتحدي التطور الزائف حتى تنتهى الى الزوال وتصير مجرد حرفة تذكر فى كتب التاريخ التى قد لايقرأها الكثيرين . شارع النحاسين أو منطقة النحاسين احدى معالم شارع المعز لدين الله فى القاهرة الفاطمية والتى تضم عديد من الأماكن الأثرية تلك المنطقة التى تزخر بأهم الحرف اليدوية والتى من أشهرها حرفة النحاسين التى تضائل عدد الصناع والعاملين بها والذى تجمعهم الهموم والمخاوف من اندثارتلك الحرفة التارخية فى ظل عدم اهتمام من المسئولين بتلك الصناعة الهامة التى ترتبط بالتاريخ والتى تحتاج الى من ينقذها من الإنقراض في خان الخليلي وتحديداً في "رَبع السلحدار" لن يكون صعبا أن تعثر على ورشة الحاج " محسن فهمى العربى " والتي يجلس بها ليمارس مهنة والده "النقش على النحاس" حتى لا تنقرض هذه المهنة . أقدم نحاس بالحي حي النحاسين الذي يمكن التعرف إليه قبل رؤيته من خلال أصوات المطارق التي تنبعث من الورش المنتشرة فيه والتي لا تكف عن الطرق من الصباح حتى المساء وكأنها في عزف مستمرعلى أسطح النحاس المختلفة. • في البداية نود أن نقترب منك لنتعرف على شخصيتك ؟ - من داخل الورشة الشهيرة حدثنا الحاج - محسن قائلاً: "أنا تعلمت النقش على النحاس والفضة من والدي وورثتها منه بعد مماته والبداية كانت في أيام الإجازة وأنا تلميذ صغير فى ورشتنا ومع الوقت تعلمت فن النقش على النحاس وتطعيمه بالفضة ورغم كونه فنا صعبا ودقيقا جدا إلا إنه ممتع وفيه إبداع". - لقد ورثت هذه المهنة أبا عن جد ورأيت تطورها أمام عيني وفي جميع الأوقات كانت اليد الماهرة في هذه الحرفة لها تقدير عال وذات سعر مرتفع لما تنتج ولكن رحل معظم صنايعية الورش المجاورة واليوم (الأسطوات) الكبار حريصون على تدريب الشباب حتى لا تنقرض المهنة فلدى الجيل السابق الخبرة والحرفة بينما لدى الجيل الجديد المعرفة وروح الشباب التي يجب أن تعم المكان ليظل صامدا أمام الزمن. • ما الذى تعتمد علية تلك المهنة (النحاس ) ؟ - تعتمد مهنة النحاس على الدقة والمهارة والذوق الرفيع بالإضافة إلى قوة الملاحظة في جميع مراحل التصنيع وتعتبر خامة النحاس سواء المصري أو المستورد مادة لها طواعية في التصنيع وتعطي نتائج مبهرة وجميلة. - وطبيعة مهنة النحاس تعتمد على تشكيل خام النحاس سواء المحلى أو المستورد لاستخدامه فى صناعة الأوانى النحاسية والتحف. وارتبط صناعة النحاس بألأوانى النحاسية التى يحرص الكثيرين على اقتنائها فى المنازل المصرية التى قل الأهتمام بها حاليا لأرتفاع أسعارها وأيضا ما تشهدة الأسواق المصرية من غزو أوانى (الألومنيوم والاستانليس) ومع ذلك فإن العاملين بتلك المهنة لا يزالون متمسكين بها فى ظل إقبال السياح على شراء التحف النحاسية لاستخدامها فى الديكور . • من هم أشهر الزبائن ؟ - ويتذكر حكايات والده عن أشهر زبائنه قديما والذين كانو من البكوات والبشوات وذويهم ومشاهير الفن والسياسة مثل الملك فاروق و الملكة فريدة والوزراء وأيضا ملكة إسبانيا ومادلين أولبرايت وزيرة خارجية أمريكا في عهد بيل كلينتون. وجميعهم كانوا يطلبون اقتناء آيات من القرآن الكريم وصور الزعيم جمال عبد الناصر وكوكب الشرق أم كلثوم والأشكال الفرعونية والخطوط الإسلامية. • ماسبب تسمية المنطقة بأسم حى النحاسيين ؟ - أن "سبب تسمية هذه المنطقة بحي النحاسين هو أن تجار النحاس منذ العصر الفاطمي كانوا يتمركزون فيه لبيع وتصنيع أواني المطبخ والنجف وقدر الفول وصواني الطعام وأباريق المياه ومستلزمات المقاهي والكثير من قطع الديكور المتنوعة ذات الاستخدامات المتعددة في القصور والبيوت ودور العبادة". فأن حي النحاسين يضم عدة أماكن أثرية رائعة قد لا يعرفها كثيرون يشير بيده على بعض خطوات من دكاني تقع مدرسة النحاسين التي سميت على اسم الشارع لشهرته في مصر المحروسة وقتها وإلى غرب الشارع تقع المدرسة الكمالية التي بناها السلطان الكامل عام 622ه وكانت تعد المدرسة الثانية لتدريس الحديث بعد المدرسة التي أنشأها الملك العادل نور الدين زنكي في دمشق وكانت في القدم عبارة عن (بنايتين) بينهما صحن مكشوف إلا أنها هدمت مع مرور الزمن ولم يبق منها إلا المبنى الغربي. وفي منتصف حي النحاسين يقع "سبيل محمد علي" وقد أنشئ كصدقة على روح الخديو إسماعيل وواجهته تعد تحفة فنية بلا منازع فهي مكونة من 4 أضلاع يغطي كلا منها شباك من النحاس المنقوش بدقة وحرفية عالية أما الأضلاع فقد اكتست برخام المرمر المزركش ويعلو كل عمود لوحة منقوشة بالحروف التركية. • ماسبب تراجع هذه المهنة فى الوقت الحالى ؟ - على الرغم من الأهمية الفنية والجمالية لوجود هذه المهنة فإنها تراجعت نتيجة اختلاف نمط حياة المصريين الذين أصبحوا يعتبرون المصنوعات النحاسية لا تعدو كونها قطعا فنية للزينة. - قديما كانت الفتاة تحرص على أن يكون أغلب جهاز عرسها من أواني المطبخ واحتياجات المنزل من النحاس الأصفر لكي تتباهى به أمام أهل الزوج. وكانت تحرص من فترة إلى أخرى على إحضار هذه الأواني إلى مبيّض النحاس لكي يعيد طلائها من الداخل وتلميعها من الخارج فتعود إلى حالتها الأولى. لكن كل هذا اختفى وانقرضت مهنة مبيض النحاس وباتت ذكراه باقية فقط على ألسنة الجدات كذكرى من الزمن الجميل" . • ما أهم المشاكل التى يعانى منها النحاسون ؟ - لعل أهم ما يعانى منه النحاسون مشكلة ارتفاع أسعار الخامات المستخدمة فى صنع التحف النحاسية، حيث يصل سعر طن الخام المستورد إلى 17 ألف جنيه مصرى بعد أن كان 13 ألفا فى العام الماضى ويصل سعره بعد التصنيع 30 ألف جنيه. - وهذا الارتفاع السعرى يجعل قطعة النحاس التى كانت تباع بسعر يتراوح ما بين 5 و20 جنيها تصل اليوم إلى ما بين 200 و300 جنيه وهو ما يقلل من فرص البيع فى الأسواق..وحتى وقت قريب لم يعان صناع النحاس من أزمة ارتفاع الخام المستورد بسبب اعتمادهم على النحاس القديم الذى كان يتم شراؤه من ربات البيوت ولكن الآن يتم الاعتماد على النحاس المستورد. وتبرز مشكلة صناعة وحرفة النحاسين أنها ترتبط بمهنة أخرى اختفت وهى "مبيض النحاس" الذى يقوم بطلاء الأوانى من الداخل عندما تمر عليها فترة طويلة لتعود إلى حالتها الأولى. • هل أختلف الزبون حالياً عن الماضى ؟ - الآن الزبون اختلف تماماً عن الماضي ففي الماضي كان الزبون لديه حس مرهف وذوق عال ويختار الحاجة الغالية ولا يفاصل في ثمنها ولكن زبائن هذه الأيام عدد قليل منهم هو الذي يفهم في النحاس ويقدر تعب الصنايعي ومجهوده والغالبية تختار المنتجات الرخيصة وتلجأ للمنتجات الصينية وأنا لا أتعامل فيها رغم رواجها فهي عديمة الإحساس وتفقد للمتعة لكن مين يفهم . • هل أثرت المنتجات الصينية ؟ - عن تدهور حال النحاسين والمهنة بشكل عام قائلاً: "إحنا كنا 20 صنايعي تحت يد والدي فى الورشة ودلوقتى مش باقى غيري المهنة بتنقرض ولم يعد أحد يريد العمل بها بسبب المنتجات الصيني حيث اختفى العاملون بالمهنة بعد عدم شراء الأواني النحاسية وبعد أصبحت الأوانى الفضية (الألومنيوم والاستانلس) هى البديل". ويذكر أنه لو قام بعمل صينية عليها نقوشات إسلامية أو فرعونية يتكلف سعرها بين 700 و1500 جنيه، فكيلو النحاس حاليا يزيد على 60 جنيها، بعد أن كان يباع الكيلو منه بعشرة قروش فى الستينيات بمعنى أن هناك ارتفاعا في أسعار الخامات المستخدمة فى صنع التحف النحاسية "فمن اليوم يستطع شراء صينية نحاسية بهذا السعر غير الهواة والفنانين واللي مقدرين النقوشات النحاسية، كله بيسترخص الصينى والمقلد". • هل يحرصون السياح على أقتناء المشغولات النحاسية ؟ - أن مشغولات النحاس من السلع الرائجة لدى السياح الذين يحرصون على اقتنائها.. فهي من روائح الشرق وسمة خاصة بالصناعات المصرية . • هل فقدت الامل وسلمت بالامر الواقع لانقراض هذه المهنة ؟ - لم أتعود قط على فقدان الأمل والتسليم للواقع بل المثابرة والعمل الدؤوب فالأواني النحاسية ظلت صامدة في وجه الزمن وعلى الرغم من كل هذه المدنية التي حلت في البيوت نجد أرقى المنازل تتخللها ديكورات النحاس. كما أننا نقوم بتصنيع قطع نحاسية متطورة لتساير العصر الحديث وتتناسب مع البيت الحديث ولكنها تضيف على الأماكن فخامة وأناقة بيوت الأجداد. • هل تقوم بتوريث مهنتك ؟ - أولادي لم يأتوا إلى ربع السلحدار إلا قليلا وليست لديهم الرغبة في تعلم المهنة وعندهم حق ومع ذلك لا أستطيع ترك ورشة والدي أو مهنة النحاس أو أن أعتمد على وزراة الثقافة لإحيائها لأنها "مبتعملش حاجة تمنع الصينين من استغلال تراثنا" ولو إحنا تركناها للصين واليابان يبقى عليه العوض فى تاريخنا". ويختم كلامه معربا عن الأمل بالمستقبل مع أنه لا يوجد اليوم في حي النحاسين عدد الورش التي كانت موجودة في الماضي إلا أن هذا العدد القليل المتبقي صامد ضد غزو الزمن وما زال يجود ويحسن في الصنعة حتى يظل محل إبهار الزائر المصري أو الأجنبي.