«باولا» الحب الفطرى لإيزابيل الليندى، روحها المتجددة، ضميرها المستيقظ، شبابها المتجدد. إن إيزابيل الليندى كاتبة تشيلية ولدت عام 1942 وقدمت للأدب العالمى عدة روايات مبهرة أهلتها أن تظل لأكثر من عقدين على قائمة المرشحين لجائزة نوبل فى الأدب. وفى رواية «باولا» تأخذنا إيزابيل لعالم التغيرات السياسية التى شهدتها بلدها فى حقبة السبعينيات وما عايشه ضمير الكاتبة من مذابح وتعذيب واعتقالات وانتهاك لحرية الرأى. تبدأ الرواية فى ديسمبر 1991 عندما تصاب «باولا» ابنة الكاتبة بمرض خطير ونادر تدخل على أثره المستشفى فى مدريد وتظل عدة شهور ثم يتم تسفيرها إلى كاليفورنيا لتبقى فى سريرها شهوراً أخرى قبل أن تودع الدنيا. طوال تلك الفترة الممتدة إلى ما يقارب العام تسهر إيزابيل إلى جوار ابنتها وتسترسل فى ذكرياتها لتقدم لنا صورة لوطنها الذى كان يتحوّل ويتغيّر كل يوم منذ ولدت ابنتها وحتى رحلت. إنها تحكى لنا عن تشيلى الأربعينيات عندما التقى والداها وتزوجا، وكيف عاشت سنواتها الأولى فى استكشاف معانى الإبداع والجمال، ومتى أحبت وتزوجت وكانت «باولا» هى الثمرة الحلوة لهذا الزواج. تتذكر «إيزابيل» وابنتها لا تنطق ولا تتحرك قصصاً وحكايات مبهرة عن يوم ولادتها، أولى خطواتها على الأرض، بكاءها الأول، حبها البدائى، اختيارها لملابسها، ودراستها للطب النفسى، ثم زواجها بأرنستو بعد قصة حب عاصفة. تستعذب «إيزابيل» هذه المشاهد التى تترجم نمو وترعرع ثمرة روحها يوماً بعد يوم لتربط تلك المشاهد بأحداث عامة شهدتها بلادها. إنها تتذكر جيداً عندما وقع الانقلاب العسكرى فى تشيلى ضد حكم الرئيس المحبوب السلفادور الليندى الذى كان أحد أبرز أفراد عائلاتها. وقتها كان الشاعر بابلو نيرودا قد عاد إلى تشيلى بعد احتفال العالم بحصوله على جائزة نوبل، ودخل عساكر الانقلاب إلى منزله يفتشونه بحثا عن سلاح فقال لهم إن لديه ترسانة من الاسلحة وقادهم إلى مكتبه ليطلعهم على تلك الأسلحة التى لم تكن سوى أقلامه ودفاتره. تتذكر الروائية ما جرى تماماً. فى 11 سبتمبر 1973 تمردت البحرية، وارتدى الرئيس سلفادور الليندى ملابسه وذهب إلى مكتبه، حذرته زوجته فقال لها لا يمكن ان يخرجونى حيا من قصر لامونيدا. تجمع انصاره وأحباؤه من الصحفيين والأدباء واعتصموا بالقصر بينما حاول جنرالات الانقلاب تكثيف الهجوم على القصر الذى غادره الحراس خوفاً. استمر اطلاق الرصاص ساعات حتى طلب الليندى هدنة لإخراج النساء ثم دعا كل من معه إلى الاستسلام، ثم عرض عليه المتمردون طائرة تنقله هو وأسرته إلى المنفى فقال لهم: لقد أخطأتم الرجل أيها الخونة. ووجه الرجل خطابا إلى الشعب التشيلى تنقل الكاتبة أجزاء منه حيث قال: «يا عمال وطنى، إننى مؤمن بتشيلى وقدرها. سيتجاوز أناس آخرون هذه اللحظة الرمادية والمريرة، حيث الخيانة تسعى لفرض نفسها، فاعلموا جميعكم أنه عاجلاً وليس آجلاً ستنفتح دروب فسيحة تحف بها أشجار الحور ليعبر منها الرجال الأحرار من أجل بناء مجتمع أفضل. تحيا تشيلى. يحيا الشعب». بعد ذلك دكت الطائرات قصر الرئاسة بالقنابل، واستسلم ضباطه الأوفياء وتم سحبهم إلى الشارع وطرحوا على بطونهم لتمشى فوقهم الدبابات. ووجد الرئيس مضرجاً فى دمائه وقالت الرواية الرسمية إنه وضع سبطانة السلاح تحت ذقنه وأطلق النار فحطمت الرصاصة رأسه. سادت روح الانتقام، وهرب المبدعون، وتعددت الاعتقالات وجرت عمليات تعذيب واسعة، واضطرت «إيزابيل» إلى المغادرة بعد أن شهدت مصارع كثير من الاصدقاء. مات بابلو نيرودا حزينا على وطنه بعد أن تحول لساحة دماء وبعد أن رفض عروض كثير من الدول باللجوء السياسى. كانت هذه المشاهد أقصى عليها من محنة ابنتها «باولا»، لذا فإنها ستصبر وتتعايش على أمل شفائها إلى أن ترحل فى هدوء. تصف إيزابيل المشهد الأخير فتقول: «توقفت حياتها دون صراع ودون جزع وألم. لم يكن هناك سوى السلام والمحبة المطلقة من كل من يحيطون بها. ماتت فوق حضنى محاطة بأفراد اسرتها وبأفكار الغائبين وأرواح أسلافها الذين هرعوا لمساعدتها».