لدى العوام عقيدة راسخة تجعلهم يؤمنون بفكرة الحاكم المستبد العادل. هذه العقيدة التي روج لها قادة الحكم العسكري، بعد ثورة يوليو 1952، وجدت قبولا لدى أكثرية من الناس في الشارع المصري والعربي بصفة عامة، بعد أن ساهم رجال الدين في تأييدها، بل وتأصيل أفكارها وجذورها من الناحية الشرعية. واستغل هؤلاء سذاجة الناس وعدم معرفتهم بحياة قائد قوي مثل الخليفة عمر بن الخطاب أو خالد بن الوليد ومن على شاكلتهما من الصحابة والقادة العظام، وامكانية نجاح تجربة هؤلاء في احراز النصر في المعارك وقيادة الأمة إلى دولة العدل والإيمان. ولم تتوقف هذه الدعاوى، التي لا تفهم الفرق بين قوة إيمان أمير المؤمنين عمر ورجال العصر الحالي، عن المناداة بضرورة التسليم بأن الشعوب تحتاج إلى حاكم عادل ولو كان مستبدا. كنت أحسب أن تلك الدعوات التي يغذيها بعض رجال الدين ممن تأخروا في دعم الثورة المصرية، أو العوام الذين يخشون حالة الانفلات الأمني، وانتشار عصابات الفوضى في البلاد، وحركات سياسية لا تفرق بين ضرب العدو وحرق الوطن، فإذا بها تخرج من تيارات سياسية تقدم نفسها على أنها راعية الحريات والديمقراطية من أوسع أبوابها. فلم تتوقف كلمات الناس عند مطالبة المجلس العسكري، الذي انتهي دوره رسميا منذ تنصيب رئيس الجمهورية، بأن يعود لحكم البلاد، بزعم مواجهة الفوضي الأمنية واستعادة الأمن، بل تخطاه إلى جمع توكيلات رسمية من أفراد الشعب، تخول لوزير الدفاع تسلم السلطة في البلاد. كان أولى بهؤلاء الذين استخدموا فكرة التوكيلات أن يقرءوا التاريخ جيدا. فالشعب المصري الذي ابتدع هذه الفكرة في القرن الماضي، كان يعكس قمة العبقرية السياسية، عندما رفض المندوب السامي البريطاني سفر الوفد المصري المطالب باستقلال البلاد، إلى لندن، عقب انتهاء الحرب العالمية الأولي لمطالبة بريطانيا العظمي بأن تنفذ ما وعدت به قبل الحرب، وترحل عن مصر، لتصبح حرة مستقلة. وولدت فكرة التوكيل في التو واللحظة عندما قال المندوب السامي الإنجليزي لسعد باشا زغلول ورفاقه الذين شكلوا « الوفد المصري»: من أنتم؟.. فإذا بهم يقولون نحن وكلاء الشعب المصري، وعندما تعجرف ردوا عليه بأنهم سيأتون إليه بهذه التوكيلات. وانتشر مندوبو الوفد في أنحاء البلاد، لتجميع التوكيلات التي كانت تستهدف مواجهة المحتل المتغطرس واثبات شرعية شعبية أقوى من سلطة الاحتلال، وسلطان حاكم لا تربطه بالشعب أية علاقة غير أنه ورث الحكم من أسرة لا تنتمي إلى طين هذا الأرض ويعتمد على المحتل في تثبيت مقعده المهتز. كان الوفد المصري عبقريا عندما استخدم التوكيلات، التي جعلت كل مصري وقع على أوراقها يشعر بأنه جندي في المعركة ضد المحتل، وصانع للاستقلال الذي نالته مصر جزئيا عام 1922، بعد ثورة شعبية مجيدة. هذه الثورة التي خلدها التاريخ حاول الحكم العسكري بعد ثورة يوليو 1952، أن يدفنها في التراب لأنه وضع نفسه في خصومه مع حقبتها وزعمائها، أمثال مصطفى باشا النحاس، وغيرهم من أبناء الشعب الذين ظلوا على قيد الحياة في تلك الفترة. وتوقفت سجلات الثورة في التراث المصري، الذي صنعه النظام حيئذ عند ما كتبه الأديب الراحل نجيب محفوظ في ثلاثيته، عن « السيد عبد الجواد» ذلك التاجر مزودج الشخصية، العفيف الشريف الأسد في بيته، الداعر السكير والعربيد مع الغواني في المساء، والذي تحول إلى رجل وطني بعد أن ضربه جندي الاحتلال على رأسه، أثناء عودته من بيت عشيقته، بينما كان يرفض أن يشارك ابنه كمال في المظاهرات ضد المحتل، باعتبار ذلك العمل رجساً من عمل الشيطان. هناك بون شاسع بين توكيلات الأمس واليوم. ومن حق إعلام الفلول الذي يقوده أراجوزات العهد البائد أن يتعلموا من التاريخ، ويدرسوا الماضي جيدا، لأن التوكيلات صدرت عن الشعب في الماضي، كانت من أجل مصر وحريتها واستقلالها، أما اليوم فهي نوع من الالتفاف على إرادته بعد أن اختار رئيسه في استفتاء عام. فإذا كنا غاضبين على الرئيس لسوء أداء إدارته، وعدم وفائه بالعهود التي التزم بها في برنامجه الانتخابي، فإن ذلك لا يسلبه حقه في الاستمرار في منصبه، إلى أن يختار الشعب بإرادته الحرة وبنفس الآليات التي جاء بها، رئيساً مصرياً آخر. فلا يحق لجهة أو قوى سياسية صغيرة أو كبيرة، رافضة للرئيس الحالي أو تتمنى زواله من فوق الأرض أن تحصل على توكيلات شعبية لإزاحته لأنها بذلك تخرج على قواعد الممارسة الديمقراطية التي نريد ارساءها، واعترفت بها كافة الأحزاب العريقة في الدولة. ولا يمكن أن نثق في كتلة سياسية مهما ادعت الليبرالية، بعد أن طلبت من الناس توكيلات تمنح لوزير الدفاع أو الجيش أو غيره الانقلاب على السلطة، وأن يقود العسكر البلاد لحكم لسنوات قادمة. وكم كنت أتمنى أن يفرق هؤلاء بين حبهم للجيش وثقتنا فيه لأنه عبر بالبلاد من مرحلة خطيرة، وقاسى الأمرين بعد الثورة، حتى يسلم السلطة للقيادة الشرعية، وبين رغبتهم في أن ينقض على الحكم. يجب ألا نغفل وسط الأحداث المتلاحقة أن ما فعله المشير طنطاوي كان معجزة بشرية، لأنه نفذ ما تعهد به أمام الناس، وسلم السلطة في موعدها. فأمثال هذا الرجل يعلمون أن الجيش دوره في خدمة الشرعية، وأداة تنفيذية في يد الرئيس والشعب لضمان سيادة الدولة وصيانة الدستور والقانون. نعلم أن الدول الكبرى حاليا ترفض أن يستولى العسكريون على السلطة بالقوة، ويرفض الغرب عادة أن يتعامل مع قادة الانقلابات، ولكن المؤكد أن هؤلاء لا يريدون أن تحيا بلادنا في أجواء ديمقراطية جيدة. فخبرة السنوات تؤكد أن الفرنسيين الذين صدروا شعارات الثورة إلى أنحاء العالم، أول من داسوها بالأقدام، في المستعمرات التابعة لهم، وخاصة بالجزائر. والأمريكان الذين قامت بلادهم على مبادئ الحرية كانوا أكثر من ساعدوا حكم العسكر في أمريكا الجنوبية والوسطى، بل تخطوا الأمر إلى تنصيب حكام تجار مخدرات وسلاح، ولم تعرف تلك الشعوب الحرية إلا التي غزلوا مبادئها بدمائهم وأرواحهم. يعتقد البعض أن تولي العسكريين السلطة هو الحل الأمثل للبلاد حاليا، دون أن يدروا أن المصائب التي نمر بها الآن، بعد 60 عاما، من حكمهم،نسى فيه الناس قيمة الاختلاف السياسي والتمرس على حياة ديمقراطية سليمة. قد يكون هذا الحل مطلوبا من الخارج، فإسرائيل وأمريكا وغيرهما يريدون التعامل مع مصر التي تدار من خلال رجل واحد وصوت واحد، كما كانت تتعامل في عصر الرئيس المخلوع. فإدارة الأمر بهذا الشكل يوفر لهم الكثير من المتاعب، بدلا من أن تضطر الآن إلى مقابلة ممثلي القوى السياسية والفكرية قبل أن تتصرف في أمر يخص البلاد أو المنطقة. لذا علينا أن ننتبه إلى أن الداعين لحكم العسكر ليسوا سواء فمنهم غافل عن المستقبل وكثرة هم الذين يريدون تغيير عقيدة الجيش المصري، بأن يتحول إلى مصدر للقلاقل في الدولة، أو يحول سلاحه إلى الشعب. حينئذ سينفذ الجيش مطلب أحد الساسة الكبار الذي يريد أن يغير الجيش عقيدته العسكرية من مواجهة الخطر الإسرائيلي ليصبح عربة إطفاء الإرهاب الدولي وحرب الشوارع ومواجهة الميليشيات.