« بيبه/ عمى حمادة بيبه/ جابلى طبق بيبه/ مليان نبق بيبه / قالى كلي بيبه / قلتله ماكولش بيبه / وديه لأُمك بيبه / أُمى بعيد بيبه / آخر الصعيد» (القاهرة 2021) الساعة الآن التاسعة صباحًا، حيث أقف فى محطة السكة الحديد، فى طريقى إلى مدينة سوهاججنوب مصر (تبعد عن القاهرة 465كم) لزيارة قبر المخرج (الجنوبي) رضوان الكاشف الذى دفن فيه- أى فى الجنوب- بعدما عاش طفولته المبكرة، يلهو بين دروبه، ويسمع أوجاع ناسه، ومواويل حراسه، وينام بين دهاليز فقره، وقهره، وضجيجه، وسكوته، ونهاره الطويل، وليلهُ الحزين، وجبله البعيد، وقمحُه الأسمرانى، ونخله الأولانى على ضفاف النيل. ومن أجل الجنوب قدم فيلمه الأول «الجنوبية» الذى تناول قصة حياة المرأة الصعيدية وما تعانيه، ثم طرح قضية قرى الصعيد كله، من خلال حكايات الرجال الذين تركوا قراهم، لأطفالهم الصغار فى فيلم «عرق البلح» إنتاج 1999 وهو فيلمه الروائى الثالث بعد فيلمه «ليه يا بنفسج»– إنتاج 1993– الذى حصد عشرات الجوائز المحلية والدولية. «فالجنوبى يا سيدى يشتهى أن يكون الذى لم يكنه يشتهى أن يلاقى اثنتين: الحقيقة والأوجه الغائبة» ومن خلال فيلمه «ليه يابنفسج» قدم لنا وبمرارة شديدة عالم المهمشين فى قاع المدينة داخل الحارة المصرية قبل أن يبحث، ويفتش عن البهجة بين أطلال الحزن المحيط بنا من كل جانب وأنا بطبعى أحب البهجة واسمى منصور بهجت فى فيلم «الساحر» الذى عرض عام 2001. عندما بدأ القطار يمرق ويطلق صفارته المزعجة، نحو طريقه إلى الجنوب، وجدتنى أسأل نفسى.. من هو (الجنوبي) الذى أنا فى طريقى إليه؟ وظل السؤال معلقًا فى شنطة سفرى إلى أن حملها عنى صديقى الذى كان فى انتظارى، ووضعها فى سيارته، وجلسنا سويا نستعد لمغادرة الميدان إلى قبر رضوان الكاشف. درجة الحرارة مرتفعة، والأهالى (الجنوبيين) يتزاحمون لدخول محطة السفر إلى القاهرة. أراهم من بعيد يتسابقون فى خطوات مسرعة، ووجوه عابثة، وحناجر صامتة، ربما هربًا من أيام مسروقة، وأحلام مخنوقة، بحثًا عن (كسرة) خبز معجونة بطعم الصبر. قال لى الصديق عندما كررت السؤال: «أمل دنقل.. جنوبي! ويحيى الطاهر عبدالله.. جنوبي! وعبدالرحمن الأبنودى.. جنوبي!.. ورضوان الكاشف.. جنوبي!.. ثم أشار بيده ناحية فلاح يشعُل سيجارته وهو يمتطى حماره ويمشى موازيًا لنا: «وهذا أيضًا.. جنوبي»! «ليه يا بنفسج، بتبهج، وإنتَ زهر حزين حسنك، بكونك، بلونك، بتبهج المقهور اللى يضيره، ضميره، بالظلام مغمور ليه يا بنفسج؟» (سوهاج قرية كوم أشقاو) إلى هنا جئت يا (كاشف) أزورك وأقف أمام قبرك فى ذكرى رحيلك- الموافق 5 يوينو- 2002 هذا الرحيل المباغت والمفاجئ والمؤلم لنا جميعًا. وتركت خلفى هناك فى الحارة، وسط القاهرة، الصابرة (الست شوقية وطفلها على– والبنت نور– والولد حمودة– وسيد عصب– وريكو).. فاكر ريكو يا عم رضوان: (عادى فى المعادى. وكذلك فى الزمالك وبنات مصر القديمة / دى جميلة وقيمة وسيما والبنات شديدة / فى مصر الجديدة والبنات حلوين / فى المهندسين) نعم.. فاكر يا «ساحر»! لكن دعنى أقل لك إن هذه القرية التى تزورها الآن- وكل القرى- ستجد فيها ما يبهجُ وهو حزين! إلى هذه القرية جئتُ مع أسرتى بعدما كبرت فى شوارع «حى السيدة زينب» الذى وُلدتُ فيه يوم 6 أغسطس عام 1952. هنا تربيت، وكبرت، وامتزج خيالى، وثقافتى، وأحاسيسى بأرضها، وناسها، وحيطانها المائلة، ولياليها المظلمة، وحكاياتها المبهرة. فالجنوب مليء بالقصص والحكايات، الكثيرة والمثيرة، التى لم يُعلن ولم يُكشف عنها حتى اليوم. ومن هنا كانت قضيتى الأولى والأخيرة.. قضية الدفاع عن مصر كلها وليس عن الجنوب فقط. ففى فيلم «عرق البلح» كانت قضيتى هى الدفاع عن الإنسانية كلها، حيث خرجت من فكرة «الجنوب» إلى فكرة «الكونية» بحثًا عن حياة إنسانية تليق بالبشر. ومن ضمن الأشياء التى جعلتنى أدافع عن الصعيد، هو الطرح الساذج السيئ لثقافتنا على شاشات السينما، وإعلاء ثقافة العاصمة علينا، وإصرار المخرجين على إظهار الصعيدى على أنه إما إنسان ساذج أو إنسان عبيط! اسمح لى يا عم رضوان.. أقول لك الحقيقة (مرة واحد صعيدي)! ليست هذه هى الحقيقة يا منصور.. اسمع قبل أن تكمل كلامك.. فى فيلم «الساحر» الذى لعبت أنت بطولته حاولت أن أقدم نظرية البهجة بالنسبة لبسطاء المدينة، ردًا على من حاولوا- ومازال يحاولون- تقديمهم على أنهم مجموعة من الوحوش الكاسرة، وآكلى لحوم البشر.. فى هذا الفيلم الذى كتبه معى صديقى سامى السيوى كنت أدافع عن الناس المهمشين الذين تعاملت معهم السينما على إنهم مغتصبون، ومذنبون، وقتلة، وسفاحون! لذلك أرجو منك ألا تردد كلماتهم الجوفاء، البلهاء، التى تقول: «مرة واحد صعيدي»! هم لا يعرفون من هو الصعيدي! وكذلك لا يعرفون ما هو الصعيد أصلًا! الصعيد.. الحقيقى.. يا صديقى.. تعرفه جدتى التى نامت على حصيرته، ويعرفه جدى الذى خبّأه فى عمامته. وتعرفه أُمى التى خرجت من وراء عتمته. أُمى كانت تحب الصعيد جدًا، وتكره مغادرته جدًا، وترفض جدًا جدًا الابتعاد عنه، وحتى إذا ما استدعت ظروف أبى الإقامة فى القاهرة كانت ترفض بشدة. هنا علمتنى أُمى الحكى، فقد كانت حكاءة من طراز نادر وفريد- وكانت مثلك يا منصور يا بهجت- تحب البهجة والفرحة، ودمها خفيف، لكنها ماتت.. نعم ماتت وعمرها لم يصل إلى سن الأربعين. وأبى كان مثلها يرفض- رغم إقامتنا فى القاهرة- أن يبيع قيراطًا من أرضنا؛ فالأرض كما كان يقول وكما كانت تقول: «الأرض.. عرض يا ولدي»! ( القاهرة 1970 ) إن موت أُمى المبكر أحدث بداخلى شرخًا مرعبًا، وظل فراقها يؤلمنى كثيرًا. أذكر أننى كنت، وأنا أسير فى شوارع «حى المنيل» الهادئ الذى انتقلنا إليه، كنت أجد صورتها الجميلة تداهمنى فى الصباح وفى المساء. ومن هذا الحى المزدحم بدور السينما خرج مجدى أحمد على وسامى هلال وجلال جميعى وكنا نسمع صوت الأفلام ونحن نسير فى الشوارع، نسمعها من وراء شبابيك وأبواب منازلنا. نعم رحلت أُمى، وظل حزنى على فقدها يكبُر ويتسع بداخلى حتى بعد انتهائى من دراستى الجامعية التى اتجهت فيها إلى دراسة الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة. فى الجامعة تكوّنت ثقافتى التى أُدين فيها بالفضل إلى (أمل دنقل) و(يحيى الطاهر عبدالله) و(سيّد حجاب)، حيث كنا نقرأ الكتاب الواحد فى مجموعة، وكأننا فى درس خصوصى. هذه الفترة تُعد فترة تشكيلى الفنى والثقافى. فنحن جيل الهزيمة الذى دفع الثمن وما زال يدفعه كل يوم من أجل الحصول (كسرة) خبز أو فرصة عمل أو سكن يليق بنا فى الحياة. نحن جيل لم يعبر عنا أحد حتى الآن، حيث كنا نعمل وسط ظروف طاحنة فى محاولة للتواجد حتى نستطيع أن نمر وأن تستمر بنا الحياة. لقد تحطمت أحلامنا بعدما تحطم حلم جمال عبد الناصر. وأنا لا أشك– ولا أشكك– فى وطنية عبد الناصر، لكن المسألة هى بناء وطن، وهذا هو ما فشل فيه عبدالناصر. وهذا أيضًا الذى جعل جيلنا يقول إنه رغم كل إنجازات «ثورة يوليو» وما قدمته للمجتمع المصرى والأمة العربية، ورغم كل النوايا الحسنة، فإن هزيمة 67 وعلينا أن نعترف ونقر بذلك هى التى أدت بنا إلى (الخراب) الذى نعيشه حتى اليوم. اسمع يا عم رضوان.. أنا هنا بين الأموات صحيح.. لكننى أقولها صريحة ومدوية بين الأموات وبين الأحياء. أقول إننى أحب عبدالناصر.. آه.. الحقيقة التى بداخلى أحب أن أقولها واضحة وصريحة! الحقيقة..!! وهل نسيت يا «ساحر» ما قاله (أمل دنقل) عن «الجنوبي»، وبحثه الدائم عن الحقيقة؟.. والحقيقة: أنا مثلك أحب عبدالناصر.. لكن القضية أعظم! والقضية أخطر! والقضية أكبر! من حبنا للأشخاص.. القضية يا عزيزى هى قضية الأوطان وليست قضية الأشخاص.. وقضيتنا كانت ومازالت هى الجرح الفلسطينى النازف مرار، منذ النكبة وحتى النكسة. «ليه يا بنفسج بتِبهِج وأنتَ زهر حزين والعين تتابعك وطبعَكْ محتشم ورزين.. ليه يا بنفسج»؟! ( القاهرة 1977 ) فى ذلك العام، ومن قبله بأعوام، أثناء دراستى الجامعية انخرطت فى العمل السياسى الطلابى قبل تخرجى وقبل التحاقى، عام 1980، بمعهد السينما الذى رفضه والدى فى البداية لأن الجامعة حسب قوله عبارة عن حياة واسعة، ورحبة، واكتشفت بعد ذلك صدق قوله. فى فترة وجودى بالجامعة كانت الحركة الطلابية فى قمتها وتعلمت فيها القراءة السياسية وانفتحت على كل التيارات الثقافية والسياسية، وبعد اندلاع مظاهرات الخبز الشهيرة التى وصفها الرئيس السادات ب«انتفاضة الحرامية» وضُع اسمى فى قائمة الاعتقالات. وذات يوم فوجئت، وأنا عائد من الجامعة للبيت، بالبوليس يقتحم المنزل. على الفور قفزت من الشباك وهربت لمدة سنة تقريبًا قبل أن أغير موقفى، وأُسلم نفسى للبوليس الذى قام بواجبه، ورحلنى إلى «سجن أبوزعبل». فى السجن قاموا بالواجب، حيث استقبلونى ب(علقة) ساخنة لا أنساها! «يا فلسطينية والغربة طالت كفاية والصحرا أنّت م اللاجئين الضحايا والأرض حنّت للفلاحين والسقاية والثورة غاية والنصر أول خطاكو» (المقابر بعد مرور 30 دقيقة) آه.. بمناسبة فلسطين.. أنا مازلت أذكر كلامك قبل 20 عامًا ونحن نصور فيلم (الساحر) عندما تحدثنا سويًا عن القضية. يومها- وكأنك تقرأ المستقبل- قلت لي: «اسمع يا منصور: ما يحدث الآن على أرض فلسطين ما هو إلاّ حلقة من مسلسل متعدد الأجزاء، وهناك ضغوط يواجهها الشعب إيمانًا منه بأن فلسطين دولتهم اليوم وغدًا. وما يحدث الآن فى القدس أراه يبشر بانهيارات، وتوترات داخل إسرائيل نفسها».. نعم هذا ما قلته وقتها بالفعل.. وأنا أذكر الآن أننى قبل موت أمى كنت أحضر فيلمى الأول «أجمل رجل غريق فى العالم» وكان عن فلسطين، لكننى أجلت العمل فيه بعد موت أُمى المفاجئ وقدمت لها وعنها فيلمى الروائى القصير «الجنوبية» الذى حصد عدة جوائز من مصر والوطن العربى، ثم دارت دوامة الحياة بى، ورحلت عن الدنيا وتركت لكم فيها «أجمل رجل غريق فى العالم» شاهدًا على على قبح، وظلم، واختلال معايير، هذا العالم، الذى تعيشون فيه! لذلك أرجو منك أن تجتهد كثيرًا وتشع بهجتك ولو بقدر ما على ربوع هذا العالم البائس التعيس! ( المقابر بعد مرور 40 دقيقة ) «إن طائرًا صغيرًا مغردًا يمكنه أن يجعلك ترفع رأسك على أرض البؤس.. وما أكثر أن تتكشف الأحلام عن مجرد أوهام».. هذه كانت كلماتك التى قلتها أوائل التسعينيات.. هل تذكرها يا عم رضوان؟ - نعم.. أذكرها ولا أنساها.. وكنت– فى حياتى وأعمالي– أتمنى ألا تتسع مساحة البؤس، والشقاء، للبشر، وألا تصبح أحلامنا أوهامًا نعيش فيها! هل تسمعنى يا منصور؟ هل تسمعنى يا «ساحر»؟ إن كنت تسمعنى، فأرجوك أن تعود إلى (الحارة) لترسم على وجوه أهلها الطيبين الفقراء، مرة جديدة، البهجة، والفرحة، والسعادة، وتنشر بين دروبها الأمل والأحلام.. ألا يكفيهم ما عاشوه من يأس، وبؤس، وأوهام؟! (محطة القطار– بعد 60 دقيقة) ... نم سعيدًا فى مرقدك يا «جنوبي».. فأنا عائد للحارة.. عائد للحارة.. عائد للحارة! فهى الأصل، وهى الفصل.. فيها أحيا وفيها أموت.. وفيها– رغم ما فيها– حسن الختام! حضر الزيارة: خيرى حسن الأحداث حقيقية.. وسيناريو المقال من خيال الكاتب. الصورة بعدسة: الأشعار الغنائية المصاحبة للكتابة: بيرم التونسي عبدالرحمن الأبنودي أمل دنقل أحمد فؤاد نجم شكرى محمود / خالد البوهي المصادر: كتاب الأعمال الكاملة– أمل دنقل– طبعة 1997. شاعر تكدير الرأى العام– صلاح عيسى– طبعة الشروق–2002. الصحف: الوفد / الأهرام / الأهالى / الأسبوع / السياسة الكويتية. المجلات: أكتوبر / نصف الدنيا / الكواكب / الإذاعة والتليفزيون.