رأيته ينزف على الرمال.. دون أن أعرف أنه مات سمعت صوته لأول مرة من كاسيت قديم وعمرى 21 عاماً تركت البيت بعد وفاته ب3 أيام.. وتربيت مع «ماما عطيات» الأبنودى كان شخصية صعبة ومعقدة.. وأمى تعاملت معه على أنه «قدر لا مفر منه»! على باب شقتها بحى جاردن سيتى بوسط القاهرة، وقفت الفنانة القديرة «نادية لطفى»، تودع الأديب الشاب «يحيى الطاهر عبدالله». الأسانسير وصل. وضع يده على بابه حتى ينتهى من كلامه معها. - مع السلامة يا يحيى. - الله يسلمك. فى المرة القادمة سنواصل الكلام على ملامح سيناريو الفيلم الذى يدور فى ذهنى، والذى أراكِ أنت البطلة فيه. - تبتسم وهى تقول: اتفقنا، ثم تغيب البسمة على ملامح جهها قليلاً وتكمل كلامها: بمناسبة الحلم الذى رأيته، أنا أقول لك إنه لن يتحقق. أعتقد يا صديقى العزيز أن الموت أذكى من أن يخطف أمثالك. أما عن حادث السيارة الذى رأيته فى حلمك، فهو -من الآخر- مجرد حلم؛ فلا تفكر فيه كثيراً، كانت نجمة ذلك الزمان، وما قبله، وفاتنة أجيال كاملة، وحلمهم الأسطورى، تتحدث إلى الشاب الصعيدى الواقف أمامها والذى جاء للقاهرة قبل سنوات حاملاً معه إبداعه وعبقريته وتفرده فى كتابة القصة القصيرة وهو يهز رأسه، ويضغط بيده على باب الأسانسير حتى لا يهرب منه. وقلبه يهفو إلى حديثها، وصوتها الدافئ. أما عقله فقد استسلم تماماً، دون أدنى مقاومة لفكرة الموت. - عموماً.. أعمار! - ردت: هل سأراك الأسبوع القادم، لنكمل معاً العمل على مشروع الفيلم. - قال بعدما وضع قدمه الأولى فى الأسانسير: لا أظن، ثم ألقى بنظرة حزينة عليها قائلاً: وداعاً! - مع السلامة يا يحيى. *** - بعد دقائق كان يخرج من باب العمارة إلى الشارع وفى يده علبة سجائره وقلمه وفى ذهنه اليقظ «الحلم» -أو الكابوس- الذى حكاه لصديقته النجمة «نادية لطفى» منذ دقائق، والذى يرى فيه نفسه «يموت» فى حادث سيارة. أيام تمر ويتحول الحلم إلى واقع، فبعد 15 يوماً تقريباً -كما ذكرت نادية لطفى بنفسها وهى تتحدث عن ذلك الحلم الحزين المؤلم، يسافر يحيى ومعه الباحث -وقتها- الدكتور عبدالحميد حواس وزوجته الدكتورة ألفت الروبى وباحثة إنجليزية، وابنته «أسماء» ذات الأعوام الخمسة فى رحلة بحث عن التراث والفلكلور فى صحراء الواحات. السيارة تسير بسرعتها العادية عائدة بهم، فى الخلف يجلس الدكتور «حواس» وزوجته. الباحثة الإنجليزية تقود السيارة، وبجوارها يجلس «يحيى». والطفلة تلهو فى المقعد الخلفى، بعد دقائق يستدعيها أبوها لتجلس بجواره، يفك حزام الأمان من فوق جسده، ويلفه حولها، يضع يده على الشباك بعدما أنزل زجاجه بعض الشىء. الصمت يخيم عليهم جميعاً، بعد سلسلة من النقاشات عن التراث والإبداع والفلكلور، «يحيى» ينظر لطفلته بعمق، وكأنه يعلم أنها النظرة الأخيرة، نظرة الوداع، الباحثة تزداد تركيزاً فى القيادة، الطفلة تضع رأسها على كتف أبيها. الدقائق تمر، السرعة عادية فى المتوسط، وفجأة تنقلب السيارة، وتطير فوق الرمال القاسية، إطار السيارة انفجر! بعد دقائق يفيق الجميع من الصدمة. الكل يحاول الاطمئنان على نفسه، ثم يطمئن على الكل. الكل عاد للحياة سالماً من الحادث، إلا شخص واحد، رفضت رمال الواحات أن تتركه يعود للحياة، وكأنها كانت فى حاجة شديدة لسلب حياته، ليمنحها هو الحياة، يحيى الطاهر عبدالله مات! وعاشت رمال الواحات! *** - ليت «أسماء» تعرف أن أباها صَعَدْ - لم يمت. - هل يموت الذى كان يحيا - كأن الحياة أبدْ! - وكأن الشراب نفدْ! كانت هذه الكلمات التى كتبها الشاعر الراحل «أمل دنقل» ثالث ثلاثة (يحيى الطاهر عبدالله وأمل دنقل وعبدالرحمن الأبنودى) ، وهو ينعيه ويبكيه فى قصيدته الشهيرة «الجنوبى» مثلما نعاه «الأبنودى» فى قصيدته «عدودة تحت نعش يحيى»، تأخذنى كلماتها إلى عالم هؤلاء «النبلاء» الثلاثة، الذين هاجروا من الجنوب إلى الشمال، فى رحلة البحث عن الإبداع والحياة. فى سلسلة حوارات «أبى.. الذى لا يعرفه أحد»، ذهبت إلى عالم ذلك «الجنوبى»، ساحر وشاعر القصة القصيرة يحيى الطاهر عبدالله. تواصلت مع ابنته «أسماء» التى تركها على رمال الواحات طفلة عمرها 5 سنوات، حصلت على الدكتوراة فى مسرحة الرواية من جامعة حلوان منذ أسابيع قليلة، حتى أحاول معها أن أعرف ما لا نعرفه عن هذا العبقرى الذى غاب عنا وهوى سريعاً. المفاجأة التى عرفتها أن د. أسماء عندما طرحت عليها فكرة الحوار، ردت وهى تضحك قائلة: فكرتك جيدة. نعم أنت تريد أن تعرف منى ما لا يعرفه الناس عن أبى.. يحيى الطاهر عبدالله.. أليس كذلك؟ قلت: نعم. قالت: دعنى أقول لك إننى -أيضاً- مثلك ومثل القراء ما زلت أبحث عن أبى حتى أعرفه. *** - غُرَّبا وجينا النواحى - الكل للكل شاهد - ننام وإنت اللى صاحى - إنت اللى مجموع وواحد قلت لها: إذن فلنتفق أن نذهب معاً فى رحلة بحث جديدة عنه بداخلك وفى روحك وفى ملامحك. قالت: اتفقنا، فى الموعد المحدد بيننا التقينا. الحجرة التى جلسنا فيها بسيطة. واضح فيها اهتمامها بالفن والثقافة والمسرح. صورة لأبيها وهى فوق كتفه معلقة أمامنا، ملامحها تنطبق -إذا ما نظرت لصورته المعلقة- وكأنها هى الأصل وهو الصورة. أنظر للصورة وهى تضع لنا الشاى وأقول لها هذا المشهد الذى أراه (أب يحمل ابنته فوق أكتافه) معتاد فى الصعيد والريف المصرى.. ومن النادر أن نراه فى المدن خاصة العاصمة. قالت بعدما أعطتنى فنجان الشاى: أنت تريد أن تقول إن يحيى الطاهر عبدالله فيما يبدو لم يتخلص من عاداته وموروثاته التى عاشها وتربى عليها وعايشها فى الجنوب؟ قلت: نعم. قالت: فى رحلة بحثى عن أبى وأنا أحاول أن أجمع حكاية جنب حكاية، وكلمة بجوار كلمة وقصة بجوار قصة، وفى كل مرة أجد نفسى أمام إنسان لم يتغير ولم يتحول، ظل كما هو بكل مكوناته ومفرداته، وأحلامه وأفكاره وإبداعه وحكاياته. أجد نفسى أمام شخصية خيالية أسطورية، تعيش الواقع وكأنه خيال. وتعيش الخيال وكأنه واقع. فأنا -ربما لسبب يدخل فى الخيال أيضاً، فقد ارتبط بى جداً، فكان يحملنى معه على كتفه طوال الوقت، وهو يتنقل على مقاهى وسط البلد وفى الندوات، وعند أصدقائه وفى سفرياته وترحاله. قلت: ومنها رحلة «الواحات» الأخيرة له فى الحياة. قالت: نعم. كنا فى شهر أبريل وبالتحديد يوم الخميس 9 أبريل 1981، حيث كانت بالقاهرة صديقة له باحثة إنجليزية كانت مهتمة بالفلكلور. وأبى كان مهتماً بهذا الجانب. واتفقا ومعهما د. عبدالحميد حواس وزوجته وكانا فى بداية عملهما الأكاديمى والبحثى فى هذا المجال. أخذنى معه مثلما كان يفعل فى أيامه الأخيرة، فلا يتركنى، إلا وأنا فوق كتفه. قلت: ألم تعترض الأم، خاصة وأنت طفلة صغيرة؟ قالت: تقصد أمى البيلوجية؟ قلت: وهل لك أم غيرها؟ قالت: نعم.. لى أمى «ماما عطيات»، عطيات الأبنودى مخرجة الأفلام التسجيلية، والزوجة الأولى للأبنودى -التى أخذتنى وعمرى 5 سنوات بعد ثلاثة أيام من الحادث وتربيت ونشأت وتعلمت على يديها. قلت: أقصد ماما مديحة. قالت: أعتقد أنها -كزوجة- أدركت مبكراً جداً أنه ليس شخصية عادية، لتتعامل معه مثلما تتعامل الزوجات مع أزواجهن، وبالتالى هى لا تستطيع أن تقول له افعل هذا أو لا تفعل هذا. كان شخصية صعبة جداً على المستوى الإنسانى. وأنا حتى اليوم التقى بنوعين من البشر كانا يعرفان أبى، النوع الأول: وهم كثر، إذا ما عرفوا أننى ابنته تبكى عيونهم حزناً عليه. والنوع الثانى: تتحجر الدموع فى عيونهم كرهاً فيه! فهو إن أحبك، أحبك بعنف، وإذا كرهك، كرهك بعنف. ليس عنده منطقة وسطى ما بين الحب والكراهية، البعض كان يعتقد أن سبب ذلك نشأته فى الصعيد «الجوانى»، حيث قسوة الحياة، بكل مفرداتها الحياتية، لكننى لا أعتقد أن هذا هو السبب، خاصة وهناك من كان مثله فى النشأ والتكوين، لكنه استطاع أن يوازى ما بين هذا أو ذاك، ثم سكتت بعض الشىء وهى ترتشف ما تبقى فى فنجان الشاى الذى فى يدها، ثم قالت: أعتقد أن تركيبته الشخصية هى التى كانت كذلك، ولا علاقة بالنشأة والتكوين بذلك. وترجمة هذا عندى -وأنا أبحث عن شخصيته- أنه كان صعب المراس! *** ولد عبدالفتاح يحيى (اسمه الأول مركب) الطاهر محمد عبدالله فى 3 أبريل 1938 بقرية الكرنك، التابعة لمدينة الأقصر بجنوب مصر من أسرة بسيطة. كان أبوه شيخاً معمماً، ظل بقريته حتى حصل على دبلوم الزراعة المتوسطة. عمل فى إدارة تتبع وزارة الزراعة فترة قصيرة، ثم انتقل عام 1959 إلى قنا. التقى هناك بالشاعرين «عبدالرحمن الأبنودى» و«أمل دنقل»، كانت هذه بداية صداقة عميقة بينهم الثلاثة. فى عام 1962 كتب أولى قصصه القصيرة «محبوب الشمس» وتزوج فى مارس 1975. اعتقل مع مجموعة من الكتاب والفنانين وأطلق سراحه فى أبريل 1967 قبل هزيمة يونيه بشهرين. أنجب أسماء وهالة ومحمد. والأخير مات فى حياته وعمره عام ونصف العام. توفيت أمه فقامت على تربيته «خالته» التى أصبحت فيما بعد زوجة أبيه، وكانت سبباً -حسب رواية الأبنودى نفسه- فى أن تجعله يهرب من البيت ويعيش لمدة عامين فى بيت الأبنودى فى قنا مع «فاطمة قنديل» والدة الأبنودى التى كانت تقول عنه كل يوم «الولد ده هيموت بكره»، وكأن الموت يطارده مبكراً، كانت تعتبره أحد أولادها حتى بعد سفر الأبنودى للقاهرة، كان يعيش فى بيت الشيخ محمود الأبنودى بعدما ترك بيت الأسرة قبل أن يترك قنا كلها ويأتى للقاهرة لينضم إلى رفيقى دربه «عبدالرحمن الأبنودى»، الذى سحرته القاهرة وعالمها الثقافى والفنى، والثانى «أمل دنقل» الذى جذبته أمواج الإسكندرية ليعيش هناك سنوات طويلة. *** - ليت «أسماء» تعرف أن أباها الذى.. - حفظ الحب والأصدقاء تصاويره - وهو يضحك - وهو يفكر - وهو يفتش عما يقيم الأود - ليت «أسماء» تعرف أن البنات الجميلات - خبأنه بين أوراقهن، - وعلمنه أن يسير.. ولا يلتقى بأحد! عدت من الجنوب مع «الجنوبى» كما صوره لنا «أمل دنقل» إلى الابنة وقلت لها: كيف تعرف على والدتك؟ قالت: أبى لم يكن يعترف بأى مؤسسة، حتى مؤسسة الزواج، هو فى الأصل لم يكن يريد أن يتزوج. وذات يوم جاء وحضر الندوة التى كان يقيمها -خالى الراحل- د. عبدالمنعم تليمة، وندوة وراء الأخرى شعر د. عبدالمنعم تليمة أنه أمام أديب متفرد ومتميز، فوقع فى غرامه وقرر أن يزوجه أخته الصغرى «ماما مديحة»، وكانت أيضاً تعمل مدرسة للغة العربية، وقريبة بصورة أو بأخرى من الثقافة، وبالفعل سارت الأمور نحو زواجه رغم شعوره أنه غير محب لفكرة الزواج من الأساس، والدليل على ذلك أنه جاء متأخراً ليلة زفافه، حيث جلست أمى -مديحة- فى الكوشة بمفردها لفترة، هو لا أحد يعلم عنه شيئاً، فقرر صديقه -الأبنودى إنقاذاً للموقف أمام العروس والمعازيم أن يصعد ويجلس بجوارها وكأنه هو العريس. وبعد فترة من الوقت لا تقل عن ساعتين جاء وفى يده طفل من أطفال الشوارع، فيما يبدو التقاه وهو قادم للفرح، فوقف معه، يتحدث إليه، ويحنو عليه. ويستمع لمعاناته. قلت: والفرح والعروسة والمعازيم والزفة؟ قالت ونحن نضحك معاً: هذه أشياء بسيطة لا تهمه كثيراً! وهل من المنطق والعقل -من وجهة نظره- أن يترك هذا الطفل البائس الفقير لحال سبيله ويأتى للفرح؟! ، ثم أكملت: وعندما جاء سألوه: أين كنت؟ ولماذا تأخرت؟ ومن هذا؟ قال: هذا طفل من أطفال الشوارع، رأيت أن يأتى معى ليأكل قطعة «جاتوه». هنا ترك «الأبنودى» مقعده بجوار العروس، وطلب منه أن يصعد مكانه بجوار العروس. وقد كان! قلت: لكن هذه التركيبة الإنسانية الغريبة والعجيبة والمتمردة والمتفردة حتى فى تفاصيل حياتها اليومية.. كيف تعاملت معها والدتك «مديحة» كزوجة؟ قالت: أتصور أنها تعاملت مع الأمر على أنه قدر لابد منه. ويجب التعامل مع الأمر على الصورة التى عليه. وأظن أن باقى أفراد أسرتها -باستثناء خالى الراحل د. عبدالمنعم تليمة- كانوا غير قادرين على التجاوب معه، وتستطيع أن تقول إنهم من الأساس كانوا رافضين الزواج أصلاً. ولكن الأخ د. تليمة وقتها كان قد وقع فى غرام هذه الشخصية، وكان عنده بُعد نظر لمستقبل هذا الشاب رغم صعوبة تركيبته الإنسانية. وكان هذا هو السبب الوحيد فى استكمال مشروع الزواج نفسه. والحقيقة يبدو أن ماما «مديحة» تعرضت لثلاث صدامات متتالية ومتتابعة فى فترة زمنية قصيرة، الصدمة الأولى هى تلك الشخصية التى ارتبطت بها، والثانية هو فقدانها طفلها الوحيد وعمره شهور، وكان اسمه محمد»، والثالثة كانت مفاجأة الحادث، خاصة أن الحادثة وقعت وكان خالى د. عبدالمنعم تليمة فى بعثته باليابان، وبالتالى غاب السند الذى كانت تستند إليه وقت الشدة. *** قلت لها وفوق هذه الصدامات أنت -كابنة- تركت البيت وعمرك 5 سنوات للعيش مع والدتك الثانية -أو الأولى- عطيات الأبنودى؟ أليس كذلك؟ ردت: بالفعل.. هذا حدث. فقد غادرت البيت بعد ثلاثة أيام من الحادث.. وأذكر هذا اليوم، حيث كنت فى الشارع مع أطفال فى مثل سنى، ومن بعيد لمحتنى ماما عطيات التى كانت قادمة لمنزلنا لتفتش على أوراق وكتابات أبى، لتحتفظ بها، ولولا هذا الذى فعلته ما كنا استطعنا الاستمتاع بآخر ما كتبه «يحيى الطاهر عبدالله»، يومها نظرت لى جيداً، حيث لم تكن قد رأتنى إلا مرات قليلة من قبل، ثم احتضنتى، ووقتها قررت أن أكون ابنتها التى لم تنجبها، وأنا ارتميت فى حضنها ولم أتركها منذ ذلك اليوم، وأظن أن هذا اللقاء غيَّر حياتى تماماً، فمن الوارد أن حياتى -بعيداً عن ماما عطيات- كانت ربما تذهب إلى اتجاهات أخرى. قلت من الواضح أن الأستاذة عطيات الأبنودى كانت من القلائل فى ذلك الوقت الذين عرفوا قدر وقيمة هذه الشخصية؟ ردت وعلى وجهها ابتسامة: نعم.. ولا تنس أن أبى هو الذى وافق على زواجها من الأستاذ الأبنودى، ثم تتحول الابتسامة إلى ضحكة وهى تقول: يوم أن قرر الأستاذ الأبنودى الارتباط ب«ماما عطيات» قال لها حتى نتزوج يجب أن يوافق يحيى. ولذلك يجب أن تجلسى معه. قالت له: ولكننى سأتزوجك أنت وليس «يحيى»؟ رد: وأنا لن أتزوج إلا إذا وافق هو عليك كزوجة لى. وبالفعل جلست معه وفى نهاية اللقاء قال لها: أمامك اختياران، إما تتزوجى عبدالرحمن وإما تتزوجينى أنا. وانتهت الجلسة بضحكات وفرح وصداقة وأخوة امتدت حتى رحيله، لتصبح هى الضلع الرابع فى مربع الإبداع الذى كان يضم «الأبنودى» و«دنقل» و«يحيى»، ثم جاءت هى بالزواج من الأبنودى. وظل أبى يتعايش معهما «مع الأبنودى وماما عطيات» على أنها أخته التى تزوجها صديقه، ومن ثم ظلت لسنوات تقوم على شئون حياته، فقد كان شبه مقيم معهما فى الشقة. *** - يا يحيى يا عجبان يا مليح - يا رقصة.. يا زغرودة - إتمكن الموت من الريح - وفرغت الحدوتة - آخر حروف الأبجدية - أول حروف اسم يحيى - للموت كمان عبقرية - تموت لو الاسم يحيى. عدت للابنة وسألتها: «إذا ما حاولت أن تكتبى له رسالة.. ماذا تكتبين فيها؟ «أقول له كنت أتمني أن أرك اليوم لترانى. أشعر اليوم أننى فى حاجة شديدة ليرانى أكثر من قبل. كنت أتمنى أن أسمع صوته، فأنا لم أسمعه إلا من خلال حكايات الأصدقاء. وأول مرة سمعت صوته كان عمرى فوق العشرين عبر شريط كاسيت قديم كان أحد الأصدقاء محتفظاً به. قلت لها: ألم تعرفى حتى اليوم كيف مات؟ ردت وفى عينيها دمعة حائرة: لا أذكر تفاصيل الحادث غير أنه كان راقداً على الرمال وبعض الدم يتساقط من فمه، ثم حملونا إلى مستشفى الهرم.. بعدها ذهبنا إلى البيت وذهب هو إلى العالم الآخر. وحاولت كثيراً مع د. عبدالحميد حواس رفيق الرحلة أن أعرف منه كيف مات؟ رفض بشدة، وقال لن أتحدث فى هذا الأمر ما حييت، ومات منذ فترة هو أيضاً ومات معه السر. هل قفز من باب السيارة قبل ارتطامها؟ هل ارتطم بالأرض؟ هل بسقف السيارة؟ أكثر من سؤال ليس له إجابة.. غير أن النتيجة والحقيقة هو فى النهاية.. مات! *** لملمت أوراقى وألقيت نظرة سريعة على صورته المعلقة أمامنا، وغادرت الشقة مترجلاً على سلالم العمارة وفى أذنى كلمات الراحل الكبير يوسف إدريس وهو ينعى رحيله فى الأهرام تحت عنوان «النجم الذى هوى» قائلاً: يا شعبنا المصرى الطيب.. يؤسفنى أن أنعى لكم واحداً من أنبغ كتابنا، ربما لم تعرفوه إلى الآن كثيراً، ربما لم يكن حديث الناس كنجوم السينما، ولكنى متأكد أنه سيخلد فى تاريخ أدبنا.. خلود لغتنا وحياتنا. *** وكم من نجم فى سمائنا هوى، ولكن -رغم الغياب- يبقى الخلود عنواناً لمثل هؤلاء الصادقين الموهوبين والمؤمنين بهذا الوطن، والمعجونين بطيبة ونقاء أهله، ومنهم يحيي الطاهر عبدالله. ويأتى يوم الخميس 9 أبريل 1981 ليوقف الجمَّال جمله على رمال الواحات، وينزل حمولته الثقيلة. فى ذلك اليوم مات يحيى الطاهر عبدالله، فكتب صديقه الأبنودى: - الحمل فوق الكتاف مال - والدم نازل قنايه - يا جمل ما يوم خزمه جمَّال - ولا قتله عشق الصبايا!