محافظ أسيوط : المعلم هو أساس بناء الإنسان وصانع الأمل في مستقبل الوطن    بتكلفة 34 مليون جنيه.. محافظ الغربية يفتتح مدرسة الفرستق الإبتدائية    بدء أعمال لجنة الكشف الطبي للمتقدمين لعضوية مجلس النواب بسوهاج    رئيس اقتصادية قناة السويس يشهد توقيع عقد مشروع شركة للتكنولوجيا الطبية    توقيع بروتوكول تعاون بين "صندوق الإسكان الاجتماعي ودعم التمويل العقاري" و"بنك نكست"    وزير العمل و "هواوي مصر" يبحثان التحول الرقمي و تنظيم ملتقى توظيفي    11 شهيدًا في قصف إسرائيلي على غزة.. وتصعيد عسكري رغم الدعوات الأمريكية    الحكومة السودانية: استهداف الدعم السريع «الأبيض» بالمسيرات انتهاك خطير    القاهرة تعوّل على اجتماع الإثنين لتنفيذ خطة ترامب وإنهاء الحرب في غزة    بعد تسليم نفسه.. رحلة فضل شاكر المتأرجحة بين العنف والغناء    بعد الفوز كهرباء الإسماعيلية.. الأهلي راحة «3 أيام»    موعد مباراة برشلونة أمام إشبيلية في الدوري الإسباني.. والقنوات الناقلة    تشواميني: ألعب في أفضل فريق بالعالم منذ 4 سنوات وأتمنى الاستمرار    محافظة الجيزة ترفع الاشغالات بطريق المريوطية واللبيني بحي الهرم    محافظ المنوفية يلتقى المتضررين جراء ارتفاع منسوب مياه النيل لحل مشاكلهم    ضياء الميرغني يتلقى التكريم متكئًا على زملائه.. ويكشف عن معاناته    بيومي فؤاد ينضم لأبطال مسلسل من أول وجديد بطولة عمرو سعد    أمين المجلس الأعلى للجامعات يشارك في احتفالية اليوم العالمي لسلامة المريض    انخفاض طفيف بأسعار الأسماك في أسواق المنيا وسط تذبذب في بعض الأصناف اليوم الأحد 5 أكتوبر 2025    الأهلي: الشحات لا ينتظر حديث أي شخص.. وهذه كواليس تألقه في القمة    3 عقبات تعرقل إقالة يانيك فيريرا المدير الفني للزمالك .. تعرف عليها    "الجمهور زهق".. أحمد شوبير يشن هجوم ناري على الزمالك    وزيرة البيئة تبحث مع محافظ الفيوم الموقف التنفيذي للمشروعات التنموية والخدمية    جرّوها من شعرها وفعلوا بها كل ما يمكن تخيله.. كيف عذّبت إسرائيل الناشطة جريتا ثونبرج بعد احتجازها؟    وفد من الوزارة لمناقشة ما يخص مدارس التعليم الفني لتطوير البرامج الدراسية    طفل يقود سيارة برعونة في الجيزة.. والأمن يضبط الواقعة ووالده المقاول    اللجنة المصرية بغزة: المخيم التاسع لإيواء النازحين يعد الأكبر على مستوى القطاع    الأوقاف تعقد 673 مجلسا فقهيا حول أحكام التعدي اللفظي والبدني والتحرش    قصور الثقافة في الأقصر وأسوان وقنا والبحر الأحمر تحتفل بذكرى نصر أكتوبر المجيد    مواقيت الصلاة اليوم السبت 4-10-2025 في محافظة الشرقية    هل قصّ الأظافر ينقض الوضوء؟.. أمين الفتوى يوضح الحكم الشرعي    واعظة بالأوقاف توضح كيفية التعامل مع «مشكلة الخيانة الزوجية»    سعر صرف العملة الخضراء.. أسعار الدولار مقابل الجنيه اليوم الأحد 5-10-2025    تشكيل مانشستر سيتي المتوقع أمام بيرنتفورد.. غياب مرموش    فاتن حمامة تهتم بالصورة وسعاد حسني بالتعبير.. سامح سليم يكشف سر النجمات أمام الكاميرا    بعد توليه رئاسة تحرير مجلة «الفكر المعاصر»: د. مصطفى النشار: أقتفى خطى زكى نجيب محمود    نجوم المشروع الوطني للقراءة يضيئون معرض دمنهور الثامن للكتاب    نائب وزير الصحة يشيد بخدمات «جراحات اليوم الواحد» وموقع مستشفى دمياط التخصصي    بالتعاون مع «الصحة».. مطار القاهرة الدولي يطلق خدمة لتعزيز الجاهزية الطبية    موعد مباراة يوفنتوس ضد ميلان والقناة الناقلة    أسعار مواد البناء اليوم الأحد 5 أكتوبر 2025    الخميس المقبل إجازة للعاملين بالقطاع الخاص بمناسبة ذكرى 6 أكتوبر    «تعليم القاهرة» تهنئ المعلمين في اليوم العالمى للمعلم    بدء أول انتخابات لاختيار أعضاء مجلس الشعب في سوريا منذ سقوط نظام الأسد    تركت رسالة وانتحرت.. التصريح بدفن عروس أنهت حياتها بالفيوم    إصابة 9 فتيات في حادث تصادم بطريق بني سويف – الفيوم    تاجيل طعن إبراهيم سعيد لجلسة 19 أكتوبر    مسئول فلسطيني: إسرائيل تصادق على مخطط استيطاني جديد شرق قلقيلية    رئيس مجلس الأعمال المصرى الكندى يلتقى بالوفد السودانى لبحث فرص الاستثمار    عودة إصدار مجلة القصر لكلية طب قصر العيني    صحة الأقصر... بدء حملة التطعيم المدرسي للعام الدراسي 2024 / 2025    أيقونات نصر أكتوبر    136 يومًا تفصلنا عن رمضان 2026.. أول أيام الشهر الكريم فلكيًا الخميس 19 فبراير    "فيها إيه يعني" يكتسح السينمات.. وماجد الكدواني يتصدر الإيرادات ويحقق 14 مليون جنيه في 4 أيام فقط    اليوم.. محاكمة 5 متهمين في قضية «خلية النزهة الإرهابية» أمام جنايات أمن الدولة    السيسي يضع إكليل الزهور على قبري ناصر والسادات    أذكار النوم اليومية: كيف تحمي المسلم وتمنحه السكينة النفسية والجسدية    أبواب جديدة ستفتح لك.. حظ برج الدلو اليوم 5 أكتوبر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصعيدى الذى هده التعب فنام أبدا
نشر في صباح الخير يوم 02 - 06 - 2015

نحلم طوال حياتنا وربما نسرف أغلب عمرنا فى الأحلام، ثم يأتى القدر ليباغتنا بعكس ما نحلم تماما، فى يوم لم تحتفل به السماء ولم تزغرد له النجوم ولم تتهلل له أسارير وجه القمر، يوم عادى من أيام قرية الكرنك «الأقصر» بأهلها البسطاء الذين يطويهم الليل، فى سطع النهار يوم 30 إبريل 1938، وُلد الطفل يحيى الطاهر عبدالله، لم يكن البكرى، فهو الابن الثانى وأتى بعده 6 إخوة، وكان والده شيخا معمما يقوم بالتدريس فى إحدى المدارس الابتدائية بالقرية، وكان لوالده تأثير كبير عليه فى حب اللغة العربية، بالإضافة إلى أنه كان مهتما بكتابات العقاد والمازنى.

كنا شقايق على البعد
وع القرب شأن الشقايق
أنا كنت راسم على بعد
وخانتنى فيك الدقايق
من قصيدة عدودة تحت نعش يحيى الطاهر عبد الله ل«عبد الرحمن الأبنودى»
• رقيق وبركان يقذف بالحمم
إنسان رقيق مهذب، كأنه منسوج من حرير، وفى الوقت نفسه بركان ثائر يقذف بالحمم من دون توقُّف، فهو طفولى لكن تمتزج عبقريته بحب شديد للملاعبات والمداعبات. عيناه حمراوان كأنه شرب لتوه برميل روم، سبابة يمناه طويلة، ومستعدة لتنغرس فى عين كل من يقول كلمة ضد الأستاذ عباس محمود العقاد. إنه يحيى الطاهر عبدالله.
• الطاهر والعقاد
للعقاد مع يحيى الطاهر قصة، فقد كان ليحيى خال شاعر وأديب وأحد حراس ثروة العقاد اسمه الحسانى حسن عبدالله، من هؤلاء الذين إذا انتقدت أو ناقشت فكرة ما للأستاذ العقاد، تجده انتفض وتبدلت ملامحه فى الحال ليصير الوجه عصابيا يختلف تماما عن وجه صاحبه. نقل الحسانى عدوى التحزب العقَّادى فى تلك البيئة الضيقة بقرية الكرنك إلى يحيى الطاهر الذى جاء محصنا بدرعه ممتشقا سيف «الحزب العقادى»، وحين جاء «الطاهر» ليلتقى رفيقى العمر «الأبنودى» و«دنقل»، اتهماه بالانغلاق وأنه يحفظ «صما» ما لقنه إياه العقاديون، وأن الواجب أن يقرأ الحكيم ومحفوظ وطه حسين كما يقرأ العقاد، أما أمل دنقل فقد انطلق فى وجه يحيى الطاهر قائلا: «إذن.. ما دمت تعرف كل شىء، وما دام العقاد حشا فمك بكل ذلك الكلام الجاهز فلا أمل فيك، وعليك أن تعود الآن إلى الكرنك لتجد شابا صغيرا نقيا تلقِّنه ما لقنك إياه خالك الحسانى، لا تضيف إليه ولا تُنقِص، لتخرج إلى الحياة مثل والدك ووالدى ووالد عبدالرحمن الأبنودى مستريحا تماما إلى ما أجهد الآخرون أنفسهم فى تحصيله لتتلقفه أنت بعقل جامد وتسلمه إلى غيرك بنفس الجمود والبرود»، بينما قال له الأبنودى: «لقد قرأنا العقاد يا أخى قراءة جماعية واستفدنا من وعيه بالعلم والفلسفة وعلم النفس وحتى بالاقتصاد ناهيك عن التاريخ، لكننا فى الوقت نفسه قرأنا من طه حسين إلى أنيس منصور»، واحتار يحيى الطاهر حيرة شديدة بين ما سمعه من أمل وعبدالرحمن، وما حفظه وشبَّ عليه طوال حياته، لكنه حسم أمره، وهضم كل رأى، فصارت له ذائقة نادرة، يرى مواضع الجمال الخفية ويكتشف مَواطن الضعف. هكذا ظل يحيى الطاهر مذ أول مرة رآه فيها الخال عبدالرحمن الأبنودى. حينذاك دَقَّ الباب. قالت فاطمة قنديل: «عاوز إيه؟» قال: «عاوز عبدالرحمن»، سألته: «أنت مين؟» قال: «جوليله يحيى الطاهر عبدالله»، فشدَّت فاطمة قنديل «السُّقاطة» ليدخل! ومر يحيى الطاهر من الباب، واستقر فى إحدى الغرف، فدخل وجلس وأشعل سيجارة، وقرر ألا يغادر هذا البيت أبدا دون أن يدعوه أحد أو يستأذن من أحد. وجلس يحيى الطاهر، وحصل على حقوق لم يحصل عليها عبدالرحمن ذاته، لدرجة أنه كان يدخل فى نقاشات عنيفة مع أبناء الشيخ الأبنودى الكبار، وينتقدهم علنا حتى ضاقوا به، لكنه لم يكن يحس ذلك، فقد كان يعتقد أنه يرى الحقيقة، وعلى الجميع أن يروا ما يراه وإلا كانوا متخاذلين لا يبغون تطوير أنفسهم، وذهبت محاولات الخال لإسكاته سُدى، بل إنه كان يتعجب حين يقول له الأبنودى إنه يجب أن يتصرف باعتباره ضيفا سوف يرحل آجلًا أم عاجلًا. وكان يردّ على الأبنودى بهدوء شديد قائلا: مَن قال إننى سوف أرحل؟ ثم إن إخوتك لا يملكون الحق فى الضيق بى لأننى فى هذا البيت أسلك فى إطار حقوقك أنت، إذ إننى أنت، وإذا لم يكن يعجب أبناء الشيخ وجودى بينهم فليرحلوا! راقبه أبناء الشيخ الأبنودى أياما ثم قرروا أنه مجنون، وأنه ليس من الطبيعى لرجل لا نعرف عنه شيئا أن يصبح عضوا دائما فى البيت يعرف أسراره، ويحضر الشجارات ويتدخل فيها وينحاز إلى جانب ضد جانب، ويفعل ما يشاء وقتما يشاء. هكذا أقام يحيى الطاهر فى بيت الشيخ، كأنه نزل إليهم بالبراشوت لينزرع فى قلب أمل وعبدالرحمن من دون سابق معرفة أو إنذار، كأنه يحيا بينهم منذ ولادتهم. يحيى الطاهر شخصية بديعة ومبدعة لكنه أيضا - مثل أفذاذ كثيرين - به مَس من جنون، فذات يوم قرر أن يترك عمله، ويتفرغ للقراءة! وذهب إلى أمل دنقل وعبدالرحمن الأبنودى ليبلغهما القرار، حينها ثار أمل فى وجهه ثورة عنيفة. وإذا بيحيى يقول: «طب وفيها إيه يا أمل؟ فيها إيه يا خيّى؟ أنا جيت من الكرنك عشان أشوفكم أنتو ولا عشان الوظيفة؟ يقطع الوظيفة واللى يعوز الوظيفة» قال أمل: «وكيف تأكل وتشرب وتدخن هذا الكم من السجائر التى لا ندخنها مجتمعين»؟ ويرد يحيى: «اهدا بس يا خيّى.. الأكل والشرب عند الحاجة أم عبدالرحمن، الأكل فى بيت الشيخ الأبنودى يكفى قَبيلة، أما عن الدخان فمتآخذنيش ده أنت أبو الكرم، مثلا علبة السجاير دى جابها لى مصطفى الشريف». ويصرخ أمل قائلا: «وكمان عرفت مصطفى الشريف؟ إمتى وفين؟». يقول يحيى الطاهر: «لقيته فى الندوة واتكلمت معاه، وكلمة من هنا وكلمة من هناك لقيت الراجل حبّنى وراح اشترالى علبتين سجاير». المدهش أن يحيى الطاهر كان قد ترك عمله قبل أن يحزم حقائبه ويحملها إلى قنا، لكن كان يدرك أن هذا القرار سيتسبب فى ثورة ضده لذلك كتمه فى قلبه، ولم يبلغ به أحدا، بل ادَّعى أنه انتقل للعمل من وزارة الزراعة فى الأقصر إلى قنا حتى يقتنع الجميع بما فعله. مذ ذلك الوقت صار عبدالرحمن وأمل وثالثهم يحيى الطاهر لا يفترقون أبدا يأكلون ويشربون ويسهرون معا إلى أن رحل يحيى.
• الطاهر والقراءة
وكان أينما يذهب تمشى الشجارات والمشاكل بين أقدامه.
كان «الطاهر» شديد النهم للقراءة واطلاعاته الأدبية واسعة جدا، ربما لأنه أتيح له أن يقرأ فى مكتبة عمه، وكان ينتمى إلى الثقافة ويدافع عن آرائه حتى الموت بحميمية وصدق، مما يدل على أنه اتخذ الثقافة أهلا ومنهج حياة ودارا وعائلة ويتحزب تحزبا مصيريا لما يعتقده، كان قد استقال لفوره من عمله فى مديرية زراعة الأقصر، فقط ليأتى إلى «الأبنودى» و«دنقل»، كان يعانى من مشاكل رهيبة مع زوجة أبيه التى هرب بعض أبنائها من هيمنتها الرهيبة الى الوادى الجديد وغيره وترك بقية إخوته تحت سطوتها وجاء يحتمى بالأبنودى ودنقل.
لم يكن أمل دنقل كما يعرف معظم من عرفه رقيقا مع يحيى وإنما كثيرا ما كان يترجم حبه له فى شكل إثارة وشجارات ومعارك لاشك أفادتنا كثيرا إذ كانت تكشف عن مساحات رائعة فى ثقافة يحيى وخيالاته الجنونية الجامحة التى لا حد لحريتها، كذلك كان سلوكه «كارثيا» إذ كان يطبق نفس هذا الخيال الجامح على الحياة الواقعية للبشر، وفيما بعد حين كتب القصة كان يستعمل بسطاء الناس والمغفلين والمندهشين موضوعات يكتبها بصوت عالٍ ويمارس عليهم ألاعيبه الخارقة التى هى مزيج من العبقرية والعبث الواعى والجنون.
فى عام 1962 غادر «الأبنودى» إلى القاهرة بعد أن استقال من عمله بمحكمة قنا وتلا ذلك استقالة أمل واتجاهه إلى القاهرة مثله وهكذا فرغ الكون حول يحيى فى قنا وإن كان استمر مقيما فى بيت الشيخ الأبنودى عاما آخر بدون «الأبنودى»، وقد توثقت علاقته بأهل البيت واعتبر ابنا سابعا للشيخ الأبنودى وفاطمة قنديل التى كانت تحبه بشدة وتعطف عليه ويخيل لها يوميا أنه سيموت فى اليوم المقبل، فقد كان يحيى يجيد التمارض واستحلاب عواطف الآخرين، وكان بارعا فى ذلك ومعظم ممارساته فى ذلك الشأن كانت مقصودة.
• يحيى ينتقل للقاهرة
بعد عام جاء يحيى إلى القاهرة مصطحبا كمال الأبنودى الأخ الأصغر «للأبنودى» وانتقلوا جميعا إلى شقة حقيرة مليئة بالأسرة فى بولاق الدكرور وهى الشقة التى كانت أشبه بالملكية العامة والتى كان يتردد عليها أصدقاؤه من أمثال طارق عبد الحكيم، وأحمد فؤاد نجم فى ذلك الوقت إلى كمال الطويل.
كان يحيى الطاهر مدخنا بطريقة مفرطة، وزائدة عن الحد، وكان يشترى الكتب من سور الأزبكية.
كتب رائعته الأولى «محبوب الشمس» قصته الأولى التى نشرها له يوسف إدريس بمجلة «الكاتب»، ثم توالت أقاصيصه العجيبة عن عالمه الأعجب وبدأ يحيى الطاهر شيئا فشيئا يكتشف لغته الساحرة التى مازالت محط أنظار كل القصاصين الكبار والصغار وحلمهم فى أن يمتلكوها وقد شابهوها وقلدوها.
• جبير والطاهر
يقول الكاتب الروائى الكبير «عبده جبير»:
«الصدفة جعلتنى أشهد يحيى الطاهر عبد الله وهو فى أسوأ حالاته على الإطلاق، حيث استضفته بالبانسيون الذى كنت أعيش فيه بمصر الجديدة، بعد أن تعرض لموقف فى غاية الصعوبة حيث ترك المكان الذى كان يعيش فيه وأصبح بلا مأوى تماما فأخذته معى بالبانسيون وطردنا بعدها نحن الاثنان وأصبحنا بلا مأوى، وكنا نعلم أن هناك مجموعة مقالات كتبها الشاعر صلاح عبدالصبور بجريدة الأخبار عن الكاتب جمال الغيطانى و«الطاهر» فنزلنا الشارع مبكرا لنأتى بالجريدة التى نشر فيها «عبدالصبور» أول مقالات هذه السلسلة، وفوجئنا بالعنوان الذى أثار غضب «الطاهر» إلى أبعد مدى وهو «كاتب ومشروع كاتب» وغيره من المقالات التى تسىء ل«الطاهر» ككاتب، وكل هذا بسبب موقف حدث من أيام قليلة قبلها وهو أن «الطاهر» كان له رواية بهيئة الكتاب وتأخر طبعها وهى «الطوق والأسورة»، فاقتحم «الطاهر» مكتب «عبدالصبور» وكان رئيس هيئة الكتاب وقتها، وتهجم عليه فى مكتبه وسبه بطريقة لا تليق بأى منهما فراح بعدها «عبدالصبور» يتغزل فى «الغيطانى» وينهر «الطاهر».
فوجئت يومها بشخص آخر غير يحيى الطاهر عبدالله الذى أعرفه، شخص منهار تماما يبكى ويصرخ، استغربته يومها وقلت له هذا رأى صلاح عبدالصبور والقراء سوف يحكمون بعقولهم والمقال بالنهاية سوف يمر، فقال لى إن «عبدالصبور» مسموع الكلمة من المحيط للخليج، وهذا سوف يضربنى ضربة قاصمة ربما لا أقوم منها على خير.
من الممكن أن أقول عن هذه اللحظة إنها الأكثر إيلاماً فى حياة يحيى الطاهر عبدالله الذى عرفته منذ 1966 حتى لحظة وفاته.
• أسماء يحيى الطاهر
التقيت بالدكتورة أسماء يحيى الطاهر عبدالله ابنته الكبرى وكان لى معها هذا الحوار:
• ماذا تذكرين عن ذكرياتك مع المبدع يحيى الطاهر عبدالله، وهل تذكرين 9 إبريل 1981.. أين كنت وقتها وكيف استقبلت الأسرة بالكامل خبر الوفاة؟
- للأسف ليس لديّ ذكريات كثيرة عنه، فقد توفى وأنا أكاد أتم الخامسة من عمرى، وهو عمر لا يسمح بالكثير من الذكريات.. معظم ما أعرفه عن أبى عرفته من أصدقائه وأحبائه عبر السنين.
أنا كنت أرافقه فى السيارة بل كنت أجلس معه على المقعد الأمامى قبيل الحادثة بفترة قصيرة، أذكر جسده الملقى على الرمال فى هدوء وهو ينزف من أنفه، وأذكر وهو فى المستشفى بعد أن تأكدت وفاته، لا أذكر أكثر من ذلك. كنت أصغر من أن أعرف ردود أفعال الجميع على الوفاة، ولكنى أرى الدموع فى عيون أصدقائه الذين التقيهم لأول مرة عند سماعهم اسمى واسم يحيى الطاهر حتى الآن، فقد تكرر معى هذا مرات عديدة.
• كيف عشت حياتك بعد وفاته؟ وكم كان عمرك؟
- كنت أقترب من الخامسة من العمر، حدث أن جاءت إلى بيت أبى المخرجة عطيات الأبنودى، صديقة أبى وزوجة الشاعر عبدالرحمن الأبنودى آنذاك، لكى تلملم أوراق أبى ومخطوطاته خوفا من ضياعها فرأتنى وقالت لى إننى قد أمسكت بها ولم أرغب فى تركها فسألت إن كان من الممكن أن تقوم بتربيتى هى والشاعر الأبنودى وكانت الإجابة نعم، فانتقلت للعيش معهما وأتى كل أصدقاء أبى لزيارتنا، وحتى بعد انفصالهما ظللت أعيش مع أمى «عطيات الأبنودى» إلى يومنا هذا.
• متى بدأت قراءة أعمال «الطاهر»؟
- أحب القراءة منذ صغرى وبدأت فى سن مبكرة محاولات قراءة أعمال أبى، ولكن لم أكن أفهمها فهى مليئة بالرموز ولغتها كانت صعبة نسبة لسنى الصغيرة، ثم أعدت قراءتها أكثر من مرة فى فترات عمرية مختلفة، وفى كل مرة أستكشف بها جوانب لم أكن ألتفت إليها سابقًا.
• رسالة الماجيستير الخاصة بك كانت عن فن الرواية عند يحيى الطاهر عبد الله.. فما هو تقييمك لأعماله كناقدة؟
- رسالة الماجستير كانت عن مسرحة الرواية فى المسرح المصرى وكانت رواية الطوق والإسورة واحدة من النماذج التى استعنت بها فى الدراسة، حيث أعدها دراميًا الدكتور سامح مهران وأخرجها للمسرح ناصر عبدالمنعم وحصل على جائزة أفضل مخرج فى مهرجان القاهرة للمسرح التجريبى عام 1996، وكان تركيزى منصبًا على التقنيات المستخدمة لتحويل نص روائى سردى إلى نص مسرحى قائم على الفعل والتجسيد.
أنا لست ناقدة أدبية بكل حال، ولكن تخصصى الدراما والنقد المسرحى، ولم أتعامل مع أعمال أبى بعين نقدية بل تعاملى معها كان أشبه بالبحث عنه وسط كلماته وتعابيره لرسم صورة عنه.
• عندما تذهبين بمخيلتك إلى سؤال «ماذا لو أطال الله فى عمر يحيى الطاهر عبد الله».. ماذا تشاهدين بالحياة الأدبية وبحياتك الشخصية؟
- حاولت أتخيل، بالتأكيد حياتى الشخصية كانت ستتغير حيث إن التجارب والأحداث والأشخاص الذين يقابلهم الشخص فى حياته تؤثر بالضرورة على سير الحياة وعلى تشكيل شخصيته، فبكل تأكيد لم أكن لأكون نفس الشخص الذى أنا عليه الآن، لا أعلم إن كنت سأكون أفضل أم لا لكن بالتأكيد كنت سأصبح شخصًا مختلفًا.
أما على المستوى الأدبى فهذا من الصعب التكهن به، فيمكن لأبى أن يكون قد هجر الكتابة مثلا بسبب عدم رضاه عما يحدث حوله، أو ربما غير أسلوبه تماشيًا مع متغيرات المجتمع رغم أنى أشك فى ذلك. الشىء المؤكد هو أنه حاضر فى المشهد الأدبى رغم غيابه.
• ما أكثر لحظاتك التى شعرت فيها بضرورة وجود الأب يحيى الطاهر عبد الله بحياتك؟.. ومتى تشعرين بفقدانك له؟
- فى فترة المراهقة بشكل كبير وخصوصا مع تنقلاتى الحياتية ما بين العيش مع أب وأم (عطيات وعبدالرحمن الأبنودى) إلى العيش مع عبدالرحمن الأبنودى لفترة بعد انفصالهما ثم الانتقال للعيش مع أمى عطيات الأبنودى فى السويس ثم الانتقال إلى القاهرة. كل هذه التنقلات وما يصاحبها من تغيرات نفسية كانت نتيجتها اللجوء إلى عالم خيالى، حيث أحاول الحديث مع أبى والاشتياق إلى وجوده حتى يتحقق لى الاستقرار النفسى.
• ماذا تقولين له الآن بعد مرور 34 سنة على وفاته؟
- وحشتنى، نفسى ترجع ولو لخمس دقايق أتعرف على ملامحك من قرب وأسمع صوتك وأشوف تعبيراتك وأحس بحضنك.
أديك مت ولا عدت تحيا
والدنيا «طفله ومومس»
غريب مت كما مات «يحيى»
لا طال نجد ولا طال تونس
غربا وجينا النواحي
الكل للكل شاهد
ننام وانت اللى صاحي
انت اللى مجموع وواحد
الحمل فوق الكتاف مال
من قصيدة عدودة تحت نعش يحيى الطاهر عبد الله ل«عبدالرحمن الأبنودى».
• عنانى يخلد «الطاهر» فى ابنه
يقول الفنان التشكيلى الدكتور صلاح عنانى فى غمار تذكره ل«الطاهر» الذى لا ينسى:
علاقتى ب «يحيى الطاهر عبد الله» علاقة استثنائية للغاية، حيث كنا معا يوميا لا نفارق بعضًا إطلاقا وكان تأثيره عليّ أقوى بكثير من كل الأصدقاء، كان «الطاهر» يكبرنى ب 16عاما وكان أخًا أكبر لى بكل ما تحمل الكلمة من معنى كان عنده مهارة فى ملاحظة الوجود والعلاقات الاجتماعية بشكل كبير، وقدراته على التقاط التفاصيل دقيقة جدا، وهناك مؤلفان تقريبا يصوران ما كانت عليه يومياتنا سويا وهما «تصاوير من الماء والشمس، والحقائق القديمة مازالت صالحة لإثارة الدهشة»، كان الطاهر مميزا جدا فى كتاباته كان يكتب بلغة لم تسبق من قبل تجمع بين الشعر وصوره الخيالية البديعة والرواية بسردها الشيق، بالإضافة إلى أنه كان يحفظ قصصه عن ظهر قلب ويؤلف ما بين الصحيان والنوم وذات مرة كنا بسهرة طويلة فى منزل أحد الأصدقاء بالوراق ومكثنا حتى الصباح وراح «الطاهر» فى ثبات عميق وإذا به يستيقظ من نومه ليقول لى «حكاية للبحر» فقلت له: «هو أنت مش كنت نايم إمتى كتبتها دى يا يحيى؟» فقال لى «وأنا نايم.. إيه رأيك يا عنانى؟».
لم يكن الطاهر محض كاتب عادى ولا مبدع عادي، وإنما ثورة بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
أنجبت ابنى الأول بعد وفاة يحيى الطاهر عبدالله وأصررت على أن أسميه على اسمه «الطاهر» كما كنت أدعوه دائما، كنا نجلس على المقهى قبل وفاته بيومين وأخبرنى أنه سيذهب بعد غد إلى الواحات وأبديت له قلقى من هذه الرحلة وعدم فائدتها بالنسبة له، ولكنه أصر على أن يذهب وكانت المرة الأخيرة التى أراه فيها».
رحل «الطاهر» وروحه الخالدة لم ترحل وكان عدد الثلاثاء 14 أبريل 1981 بصورة الغلاف للكاتب يحيى الطاهر عبدالله ورسم الفنان صلاح عنانى، حيث ذهب الكاتب يوسف إدريس لمكتب لويس جريس وكان رئيس تحرير صباح الخير وقتها يقول له: «هو لازم الواحد يموت عشان تكتبوا عنه»؟
مات «الطاهر» وعاش فى قلوبنا أمد الدهر بما ترك لنا. •


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.