فى أكتوبر عام 1976 عزم الطلّاب فى جامعة القاهرة على إقامة أسبوع كامل تحت عنوان «أسبوع الجامعة والمجتمع»، وأقيم هذا الأسبوع لمواجهة كل أشكال الخراب الوطنى والاقتصادى والاجتماعى والسياسى الذى خيّم على البلاد، من أقصاها إلى أقصاها، بعد إعلان سياسة «الانفتاح الاقتصادى»، والتراخى السياسى نحو تعقد القضية الوطنية، ومفاوضات الكيلو (101)، والتى أدت فى ما بعد إلى معاهدة كامب ديفيد عام 1978، وكذلك الديمقراطية الساداتية ذات الأنياب الحادة، والتى كانت تتستر تحت عباءات عديدة وكثيفة. وشاركت فى هذا الأسبوع جماعات وأسر ورموز طلابية على المستوى الوطنى والتقدمى من جميع جامعات مصر، منهم نادى الفكر الاشتراكى بقيادة أحمد بهاء الدين شعبان، وجماعة الصحافة من حقوق عين شمس ومقررها أمير سالم، وأسرة عبد المجيد مرسى من «زراعة القاهرة»، ومقررها فريد زهران، ونزار سمك، وأسرة عبد الحكم الجراحى من اقتصاد وعلوم سياسية ومقررها على ما أذكر عبد الخالق فاروق بعد أنس مصطفى كامل ثم سامى عزيز ثم محسن عوض، وكذلك جماعة أنصار الثورة من «هندسة القاهرة»، وكان ممثلها إبراهيم عزام وصبرى فوزى، وهناك آخرون جاؤوا من كل حدب وصوب مثل تيمور الملوانى من هندسة إسكندرية، وأحمد صديق من خدمة اجتماعية وغيرهما، هذا عدا عناصر غير طلابية مثل محمد إبراهيم مبروك وسلوى بكر ومحمود مدحت. ومن بين هؤلاء كان رضوان الكاشف ورفيقه سمير حسنى، من أبرز شباب الجامعة الثائر، وكانت أسرة مصر «آداب القاهرة» من أنشط الأسر الطلابية، وهذا لتنوع الثقافات التى كان ينتمى إليها أعضاؤها، هذا فضلًا عن البعد اليسارى الواضح والراديكالى، وكان شائعًا عن هذا التيار اليسارى تعبير «الأسياخ» لدرجة أن هذا التعبير كان يتماهى مع «أسياخ» الهند، وكان الرفيقان حسنى والكاشف يديران أعمال الأسرة بحماس منقطع النظير، وكانت مجلة الحائط الخاصة بأسرة مصر تصل إلى مسافات فريدة، لأنها كانت تنطوى على مقالات تحليلية ونوعية، لقراءة المشهد السياسى والديمقراطى المعقد آنذاك، وكانت مساهمات رضوان ذات منحى فكرى واضح، وليست مقالات سياسية عابرة، وكانت هذه المقالات تثير جدلًا واسعًا وكبيرًا يدور أمام مجلة الحائط هذه. فى تلك الأيام رأيت رضوان الكاشف، وكانت له طريقة فى الكلام مميزة، وحادة، وكان يؤكد ما يقوله بطرق متعددة، لدرجة أنه كان يعيد ما قاله، وربما بنفس الصياغة، وهذا للتأكد من وصول المعلومة، وإبراز محوريتها فى المناقشة، ولفت نظرى أنه لم يكن يتوقف عند القضايا السياسية، على اعتبار أنها أحداث عابرة، ولكنه دوما كان يؤصل حديثه برؤية فكرية عميقة، مدعومة بثقافة واسعة، وكان يدهشنى هذا الإبحار الملحوظ فى مجالات ثقافية وفكرية كثيرة، والأكثر لفتًا لنظرى هو اهتمامه المبكر بالسينما، وكنت أندهش من ولعه العظيم بالسينما وتطورها، وكنت مذهولًا من هذا الربط المبكر عند رضوان بين الأفكار السياسية التى كان ينتمى إليها ويتبناها، وبين فن السينما، الذى اشتهر به وانتمى إليه تمامًا، دون أن يفقد رؤيته الفكرية والسياسية والفريدة لتثوير الواقع كله. هذا الشاب والرفيق الذى كان يقف ثائرًا بين جموع الطلاب فى جامعة القاهرة وشوارعها، هو ذاته الذى صنع مجدًا كبيرًا فى السينما المصرية، وجعلنا نحن رفاقه نزهو بأننا من جيل رضوان الكاشف، وانتظرنا منه أن يقدم الكثير والكثير فى هذا المجال، كما عبر عن ذلك صديقه وابن حى «المنيل» المخرج الكبير مجدى أحمد على فى مقال له عن فيلم «ليه يا بنفسج»، كتب مجدى يقول: «منذ بدء تصوير فيلم (ليه يا بنفسج)، وحتى مراحل تشطيبه وخروجه للعرض وجمهور النقاد والفنانين ينتظرون بفرح عرض الفيلم، فرضوان الكاشف منذ مشروع تخرجه فى المعهد العالى للسينما -الجنوبية- والجميع يتشوقون لرؤية أول أفلامه التى تأتى بعد دراسته للفلسفة وتخرجه فى المعهد، وعمله كمساعد ليوسف شاهين ورأفت الميهى». إذن لسنا نحن الذين كنا ننتظر رضوان الكاشف وجديده، ولكن النقاد كانوا كذلك، فما فعله رضوان فى أفلامه، يستحق أن نصطلح عليه بكل جدارة «سينما رضوان الكاشف»، هذه السينما التى تجرح ولا تدغدغ ولا تثير أنواع «الطبطبة» المعهودة فى السينما المصرية، سينما تقول الحقيقة من بابها الواضح، لا من بابها الملغز والرمزى والغامض، ففى ثلاثيته العظيمة «ليه يا بنفسج» و«عرق البلح» و«الساحر»، بأفلامه الأخرى القصيرة، استطاع رضوان أن يبدع «جدارية» فنية تطاول جداريات فنية مصرية، مثل ثلاثية نجيب محفوظ، ومومياء شادى عبد السلام، ومصير يوسف شاهين ومسرحيات صلاح عبد الصبور وأشعاره، وكعكة أمل دنقل الحجرية، وطوق يحيى الطاهر عبد الله وأسورته، وأرض عبد الرحمن الأبنودى وعيالها، استطاع أن يضع اسمه وإبداعه فى قلب الإبداعات المصرية العظيمة. ورغم ذلك حوربت أفلامه، خصوصًا فيلمه الأعظم «عرق البلح»، وقال عنه البعض بأنه فيلم فولكلورى، وهو مصنوع للأجانب، وأنه يسىء إلى سمعة مصر، هذه الأغنية الرديئة، والأسطوانة المشروخة، والتى ما زالت تعمل حتى الآن، وكأن هناك بعض الناس يحتفظون بتوكيل خاص من «مصر» دون البعض الآخر، والأكثر مرارة أن الفيلم تم رفعه من السينما بعد أسبوع واحد، بما يشبه المؤامرة، ولكنه ككل فن عظيم، حصل الفيلم على أعلى الجوائز العالمية، ليضع اسم رضوان الكاشف بين أعظم المخرجين فى مصر والعالم العربى، ومن أعظم أبناء جيلنا، نتذكره وهو الحاضر دائمًا معنا فى يوم رحيله 5 يونيو 2002.