المسافة بين ذاكرة التاريخ ومزبلته، هي ذاتها المسافة بين لحظة جلوسه على العرش، ولحظة خلعه بإرادة شعب، 30 عاما هي عمر رحلته من القصر إلى السجن، كرس خلالها ل نظرية «الحاكم الإله» مستعينا ب«عناده» الذي تضاءلت أمامه أحلام المصريين في حياة كريمة «منزوعة» التنكيل والبطش، وممهورة «طبقا لتوجيهات السيد الرئيس» ب«الفقر والجهل والمرض».. «الوطن» في سنوات حكمه مصطلح يتلخص في «مباراة كرة قدم» للمنتخب المصري، والانتماء يقف على أعتاب «ستاد القاهرة» منتظرا«نهائي» بطولة كأس الأمم الإفريقية، بينما لدى المصريين يعرف «الوطن» بأنه أطلال ل«الكرامة» بعيدة الفكرة، قريبة الوجود في عهود مضت. قاسية لحظات رحيله عن «قصر العروبة»، تشبه قسوتها سنوات حكمه على المصريين، وبين خطابين انحسرت فترة ولايته -الأول في عام 1981 –أعلن خلاله عن تصميمه على قيادة الوطن نحو عهد جديد في عبارات مقتضبة «لن أقطع على نفسي عهدا لا أستطيع تنفيذه، لن أخفي الحقيقة عن الشعب، ولن أتهاون مع الفساد أو الفوضى وانتهاك القانون»، والأخير من مقر إقامته وقتئذ ب«شرم الشيخ» -دون أن يطل بوجهه «العابث» على شعب قاده إلى الرحيل، يعرب فيه عن ألمه مما –أسماه –حملات ظالمة وادعاءات باطلة تستهدف الإساءة لسمعته، والطعن على نزاهته وموقفه التاريخية والعسكرية والسياسية.. يتمتع الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك بصفات «سيكولوجية» حصرية عجلت بنهايته، أبرزها وفقا لرؤية المحللين، الغموض، والعناد، والتأخر في رد الفعل، أراد الرجل عبر ربع قرن وزد عليه قليلا، أن يصدر للمصريين صلابة نظامه وقوته عبر ترسانة من القوانين المكبلة للحريات، والتنكيل بمعارضيه حسبما يسمح «الابن الشرعي» لفترة حكمه –المعروف ب«قانون الطوارئ»، مستغلا في ذلك أبواقه الإعلامية، والرقباء القادرين على قصف الأقلام الشريفة، وتصفية الإعلاميين الشرفاء، حتى تحولت البلاد إلى مناخ طارد للكفاءات في مناحي الحياة كافة.. سقوط «بن علي» الرئيس التونسي درس تجاهله مبارك مدفوعا بغروره وفساد حاشيته ،إلى القفز فوق إرادة الشعب في 25 يناير، وسقط في ثمانية عشر يوما بعد عبارة «صفوت الشريف» الخالدة « النظام مفيش على رأسه بطحة، ومصر ليست تونس».. الرحلة إلى إسقاط «مبارك»، بدأت مع أول دفقة دم عانقت أرض «ميدان التحرير» فيما عرف ب«جمعة الغضب» 28 يناير، وسقط فعليا مع انسحاب «زبانيته» وكبيرهم –حبيب العادلي –من كافة ربوع الوطن، معلنا سقوط «أسطورة التعذيب» وأعتى ديكتاتوريات العالم.. دبت إرهاصات «رحيله» داخل ميدان التحرير، في أعقاب تواتر أنباء عن هروب عدد من أركان نظامه في مقدمتهم وزير المالية آنذاك، يوسف بطرس غالي، ووزير الصناعة رشيد محمد رشيد، وعدد من الشخصيات، وعندئذ تصاعد سقف المطالبة ب«إسقاطه يدوي في ميدان التحرير»، حيث انتقل الهتاف بين الثوار من الشعب يريد إسقاط النظام إلى «الشعب يريد إسقاط الرئيس».. في خطابه الثاني مساء أول فبراير تصدع الميدان، وانقسم الثوار إلى فريقين: أحدهما تأثر بخطابه العاطفي واستخدامه عبارة « سأموت على أرض هذا الوطن» وطالب ب«فض الميدان» مكتفيا بما تعهد به من حزمة الإصلاحات، وتغيير الوجوه الوزارية وتعيين عمرسليمان نائبا، بينما الفريق الآخر يؤكد أن نبرة الخداع تفوح من بين أحرف خطابه مشددا على ضرورة البقاء لحين إتمام الثورة .. صباح 2 فبراير وضع رجال نظامه المسمار الأخير في نعشه إبان مهاجمة الميدان ب«الخيل والبغال والجمال»، فيما هو معروف إعلاميا ب«موقعة الجمل»، والتي ما إن وضعت أوزارها حتى توحد الميدان مرة أخرى على مطلب «رحيله». في الثالث من فبراير تدفقت الجماهير من كافة أنحاء الوطن لمؤازرة الثوار حتى إعلان مغادرته كرسي الحكم، تزايدت أعداد اللافتات الساخرة المطالبة برحيله، على مدار 9 أيام، أبدع الثوار في ملاحقته ب«الكاريكاتير» الساخر من تمسكه بالسلطة، شارحا بعضهم ظروفه الشخصية التي من شأنها التعجيل ب«الرحيل»، وعودة الثوار إلى منازلهم. تمضي الأيام داخل ميدان التحرير مصحوبة بالاضطراب والقلق من تكرار موقعة أخرى أشد عنفا لإجهاض الثورة وتصريحات تناثرت بأن ضباط الجيش لن يؤدوا التحية ل«رئيس مدني». يتزايد القلق ويلجأ الثوار إلى السماء طالبين تدخلها في إسقاط «رئيس» سام شعبه سوء العذاب، بينما «العائلة» في قصر العروبة حسبما تسرب عقب التنحي، تتشبث ب«كافة الفرص» التي من شأنها الخروج الآمن، إن لم يكن الاستمرار لحين نهاية العام، ويلجأ «مبارك» لمعاونيه، إزاء تزايد الضغوط من المقربين بضرورة التعجيل ب«قرار التنحي».. الاصرار يبلغ مداه داخل الميدان عقب خطاب استفزازي مساء الخميس 10 فبراير، قابله الثوار ب«الأحذية»، ورددوا هتافا مدويا اهتزت له جدران المباني المحيطة بالميدان «ع القصر رايحين.. شهداء بالملايين»، وعقب انتهائه دب في الميدان اتجاه قوي للزحف إلى قصر العروبة فيما عرف وقتها ب «جمعة الرحيل»، بينما فريق من الثوار فضل الاعتصام أمام ماسبيرو، أو اقتحامه إذا تأزمت الأوضاع وعادت الثورة إلى النقطة صفر . عصر الخميس 10 فبراير دعيت إلى لقاء بنقابة الصحفيين مع عدد من الزملاء، تطرق الحديث إلى مدى إمكانية رحيله، أو إجهاض الثورة، قال أحدهم إن الرئيس تنحى بالفعل، وأن الإدارة الآن في يد المجلس العسكري، قطعا لم يكن باستطاعة أحد أن يصدق «تنحي مبارك»، الذي التصق بكرسي الحكم، وعبر عن ذلك بقوله «سأظل أخدم الوطن حتى آخر نفس».. صباح الجمعة كان الزحف إلى قصر العروبة قراراً نهائيا للثوار، يتحول الميدان وقتئذ إلى قبلة للثوار ليؤدوا صلاة الجمعة الأخيرة تحت حكم مبارك وهم لا يشعرون، يصعد خطيب التحرير إلى المنصة الرئيسية، ترتفع الأيادي بالدعاء «اللهم إنا نسألك رحيل مبارك»، يارب يا قوي يا جبار اجعلها آخر جمعة له، عقب الصلاة تتجه موجات بشرية متلاحقة ناحية القصر، هنالك كان الداعون إلى الاستقرار ينتظرون -حاملين لافتات «الاستقرار أو الدمار»، والاستقرار وفقا لمفهومهم هو «منح الرجل فرصة أخيرة، لحين تسليم البلاد بعد 6 أشهر لسلطة منتخبة»، والثوار يهتفون «الشعب يريد إعدام الرئيس»، تمضي الساعات أمام القصر، تحين ساعات غروب الشمس، مصاحبة ل«غروب حكم مبارك»، في الميدان أذاعت الإذاعة الداخلية أن خبرا عاجلا سيعلن عنه قريبا على شاشة التليفزيون، استقبل الثوار الخبر بحالة «لا مبالاة» مضاعفة، إزاء بيانات متكررة لم تشفي صدور قوم ثائرين، وانطلقت التعليقات «هو هيقول إيه يعني، مش هيجيب جديد». فجأة يظهر عمر سليمان نائب الرئيس وقتئذ، يعلن انقضاء حكم المخلوع الذي استمر 30 عاما في بضع ثوان، عبر خطاب محتواه «31 كلمة»، قال فيه «إن الرئيس مبارك تخلى عن منصبه كرئيس للجمهورية، وكلف المجلس العسكري بإدارة شئون البلاد»، ينتفض الميدان وتمتزج الدموع بالزغاريد، ويهتف الثوار «تحيا مصر»، ويخترق صوت الفنانة شادية حالة الذهول التي انتابت أغلبية الميدان، برائعتها «يا بلادي.. يا بلادي.. ويا حبيبتي يا مصر»، كأنها تشدو بها للمرة الأولى، وينطلق هتاف جديد داخل الميدان «الليلة دي ليلة عيد ..متبكيش ياأم الشهيد».. وسط الميدان كان عبدالفتاح محمود والد أحد شهداء جمعة الغضب، منخرطا في نوبة بكاء، ومرددا عبارة لايزال صداها ممتدا «دم ابني مرحش هدر»،يحتضنه الثوار قائلين «متبكيش يا أبو الشهيد «الليلة فرح واحتفال، يرد قائلا: «أنا مببكيش دي دموع فرح حلوة، ويمد يده متذوقا دموعه، شوفوا يا ولاد دي دموع طعمها حلو»، من الشرفات المحيطة يهتف المصريون «يا سوزان قولي لمبارك..الطيارة في انتظارك»، بينما يطوف الشباب داخل الميدان حاملين العلم المصري، مرددين هتاف «ارفع رأسك فوق إنت مصري».. من داخل عمر مكرم تنطلق تكبيرات العيد «الله أكبر. ولله الحمد»..ويهتف الشيوخ «الله وحده أسقط النظام»، وتمتلئ السماء بالألعاب النارية، وعند بوابة طلعت حرب تهتف إحدى الفتيات المسئولة عن اللجان الشعبية، بصحبة زميلاتها «ارحل ارحل وياك عارك.. عمر الشعب في يوم ما اختارك».. و«حسني برة.. مصر حرة».. وصلات احتفالية ظلت تجوب أرجاء الميدان، بينما لا يزال الغموض يكتنف «صيغة البيان» بالنسبة لعدد من الثوار اتفقوا على عدم مغادرة الميدان إلا بعد تحقيق كافة مطالب الثورة، غير أن حالة البهجة غير المسبوقة دفعت أغلبية الثوار إلى مغادرة «التحرير» احتفالا بالتنحي.. عامان على الرحيل ولا يزال الغموض محيطا ب«مبارك المخلوع»، وكواليس تنحيه عن الحكم، مثلما أحاطه إبان فترة توليه منصب الرئاسة، حسبما أفادت الدوائر القريبة من القصر فإن جمال مبارك تدخل في الخطاب الأخير ، وعدله ليظهر في صورته الركيكة التي ضاعفت الغضب، وينطبق عليه المثل القائل «الدبة التي قتلت صاحبها»،ليزداد الضغط على مبارك بقبول التنحي، عبر ثالوث القيادة وقتئذ المشير طنطاوي، واللواء عمر سليمان نائب الرئيس، والفريق أحمد شفيق رئيس الوزراء خلال تلك الفترة، ويقبل «المخلوع» بالقرار عبر اتصال هاتفي، أثناء إقامته بشرم الشيخ دون أن يطلب تعديل نص الخطاب، غير أنه طلب إعلانه عقب وصول ولديه «جمال وعلاء» إلى مقر إقامته خشية تعرضهما للقتل».. «للثورة شعب يحميها» كان تلك العبارة شعار نذكره كلما ضاقت السبل من محاولات إجهاضها.. عامان والثورة لا تزال سائرة في مكانها.. والوطن يهتز أسفل عنوان عريض «سقط مبارك.. وحكمت الفوضى».