كانت ثورة يناير ثورة «شابة» صنعها شباب مصر حين وقفوا في وجه ظلم دام ثلاثين عاماً لم يجدوا فيه متنفساً لأحلامهم.. وأهدرت خلاله أحلي سنين العمري هباء علي المقاهي وسنوات تعليم شاقة وطويلة انتهت إلي رصيف يحتله الملايين من العاطلين. كانت أعين الثوار علي أطفالنا ومستقبل مصر، ورغم مرور عامين علي الانفجار الثوري في 25 يناير، فوجئ الشباب وهم صناع الثورة بأنهم خارج «اللعبة» بعد استيلاء الإخوان علي الثورة وعلي الحكم وعلي كل شيء.. ورغم إصرار كثر منهم علي التحدي حتي تحقيق الهدف فإن الغالبية العظمي سقطوا في بئر الإحباط واليأس والمرض النفسي.. بل إن كثيرين هربوا من الواقع إلي الادمان ومنهم من انحرف إلي الجريمة.. ومنهم من اختار الانتحار!. الأطفال أيضا سقطوا في بئر الاضطرابات النفسية ونالهم ما نال الكبار. قدم الشباب ثورة رائعة بعد الثورة في العمل العام والوطني بدءاً من حماية الشوارع والبيوت في اللجان الشعبية بعد أن اختفت الشرطة ووصولا لتنظيف الشوارع بعد أن انهارت كل مؤسسات الدولة. فجأة فكان منهم من يمسك فرشاه ويطلي الرصيف بالبوية أو يكنس الشارع أو ينظم المرور وضرب الشباب المصري أروع الأمثلة بمصر ان نظف ميدان التحرير وحاول قدر الامكان إعادته إلي هيئته قبل الثورة، فعل ذلك الشباب بحماس وحب شديدين تبدل كل ذلك لإحباط ويأس شديدين أيضاً. واعتبر علماء النفس سلوك الشباب وقتها سواء علي مستوي العمل العام أو السياسي وقاية من الاضطرابات النفسية المختلفة، فسارع الشباب إلي تقديم الخدمات للمواطنين في الشارع وفي الاحياء الشعبية تحديداً، بالإضافة إلي مساعدة المحتاجين وجمع التبرعات لمن أصابهم الضرر، وكل هذه الاعمال كانت محاولة للهرب من الفراغ الذي سقط فيه الشباب كثيراً طوال سنوات ما قبل ثورة يناير ولكن ما الذي حدث بعد عامين من الثورة. الشعور بالذات لم يتحقق والفراغ ازداد اتساعاً.. فسقط الكثيرون منهم فريسة لأمراض نفسية عديدة بل إن بعضهم هرب إلي الادمان، وحسب الأمانة العامة للصحة النفسية بوزارة الصحة فإن هناك نسبة كبيرة من مرضي المخدرات في السن من 9: 11 سنة وقد كان عقار الترامادول هو الأعلي في نسبة التعاطي بعد أن كان الحشيش هو الأعلي في نسبة اقبال هذه الفئة علي الادمان وذلك وفقا لآخر بحث أجرته الأمانة بمحافظة القاهرة، وتبين أن أكثر الشرائح للادمان والتعاطي المنتظم هم العاطلون والذين ليس لديهم مهارات أو حرف أو وظيفة وقد يكون المدمن من غير المدخنين. وللأسف فإن إقبال الشباب المحبط علي الترامادول كثر بعد الثورة.. وهو ما تشهد به عيادات المستشفيات الحكومية النفسية، فضلاً عن العيادات الخاصة التي يصعب احصاؤها لأنها، غالباً ما تتم في سرية علماً بأن مريض الإدمان تصل تكلفة علاجه لحوالي 150 جنيهاً أي ثلاثة أضعاف تكلفة علاج المريض النفسي، مما يمثل عبئاً علي ميزانية الدولة، وكذلك علي الاسر التي يقع أي شاب فيها ضحية إحباطه وادمانه. ووفقا لأرقام صندوق مكافحة وعلاج الادمان والتعاطي فإن هناك 19 ألفاً و700 مدمن ترددوا علي المراكز العلاجية في محافظات مصر في الأشهر الستة الأولي من العام الماضي وهي نفس الارقام التي أكدتها وزارة الداخلية بشأن تزايد ضبطيات عقار الترامادول والمؤسف أن سن التعاطي تتركز في الفئة العمرية من 15 ل 20 سنة، الشريط الذي يعتبره بعض الشباب حلاً مثالياً للهروب من حالة الإحباط واليأس قد يصل سعره في السوق السوداء ل 50 جنيهاً ويوجد من الصنف الصيني الذي يباع الشريط ب 20 جنيها في المتوسط. بل إن حالات البؤس والاكتئاب وصلت بالفعل إلي تفضيل البعض الانتحار علي الاستمرار في الحياة، فلم يجد محمد من القليوبية لنفسه مكاناً، وهو ذو ال 19 عاما، فشنق نفسه بعد مروره بأزمة نفسية سيئة نتيجة عدم عثوره علي عمل وشاب آخر من البدرشين لم يتجاوز عمره 25 سنة صنع مشنقة لنفسه للتخلص من حياته بعد سنوات من البطالة، وتراكم الديون عليه وحسب كلام والدته فإنه كان مسئولاً عن ثلاثة أخوة، بالاضافة لها وأنه حاول الانتحار أكثر من مرة من قبل. في الوقت الذي أحبطت فيه الشرطة محاولة انتحار شاب حاول القاء نفسه من أعلي كوبري 15 مايو بالزمالك، وجاء في تفاصيل الحادث أن الشاب كان عاطلاً، وكالعادة يمر بأزمة مالية بالإضافة لعدة أمراض مزمنة منها السكر، وبعد انقاذ الشرطة له أمر الوزير بعلاجه في مستشفي الشرطة، وفي شهر سبتمبر الماضي انتحر شاب يدعي «ياقوت» وعمره 35 عاماً من أعلي الكوبري العلوي بدمياط بسبب أزمة مالية. الجرائم الإلكترونية فيما وجد بعض الشباب متنفساً لإحباطاتهم في ارتكاب ما يسمي بالجرائم الإلكترونية والتي زادت بنسبة 100٪ في العامين الأخيرين، وهي المتعلقة بارتكاب جرائم عن طريق الإنترنت بهدف الانتقام أو الابتزاز، أو السرقة، أو التجسس، أو تشويه السمعة، أو انتحال صفة، ووفقاً للمسئولين بوزارة الداخلية فإن أكثر مرتكبي هذه الجرائم من فئة الشباب، خاصة الذكور في الفئة العمرية بين 14و 28 سنة، وجاء ذلك انعكاساً لحالة الانفلات الأمني والأخلاقي والفراغ الذي يعاني منه الشباب، في إطار البطالة التي تنامت أعداد المنتسبين إلي طوابيرها وصعوبات الزواج بين الشباب والفتيات، خاصة مع تأزم الظروف الاقتصادية واضطراب الحياة السياسية، وهكذا تحول الإنترنت الذي تجمع حوله الشباب تحت لواء الثورة في 25 يناير إلي مسار منحرف للمحيطين من الشباب الذين طالت بهم الفترة الانتقالية والاضطرابات السياسية، دون تحقق اهداف الثورة. الدكتورة نادية رضوان، أستاذ الاجتماع بجامعة قناة السويس، كانت ولا تزال حريصة علي مشاركة الشباب وضم صوتها، لصوتهم في ميدان التحرير وعند قصر الاتحادية تسمع منهم وتحلل أفكارهم وهي منحازة جداً لهؤلاء الشباب الذين فجروا ثورة يناير ضد الظلم والفساد وطمحوا في مصر جديدة يكون فيها الحكم عادلاً يتوافق عليه الجميع ويحتضن كافة التيارات والرؤي، وقالت إنها رأت بعينها حسرة الشباب وثورتهم تسرق منهم ويتأثر بالحكم فيصل واحد لا يريد أن يعلو أي صوت فوق صوته، قالت الدكتورة نادية رضوان أيضاً إنهم شباب عاشوا المرارة ولديهم حالة غليان واستخفاف بالحياة وعندما تحدثت إلي بعضهم قال لها أحدهم «تحب اجيبلك هدوم أصحابنا غرقانة في دمائهم عندما ثاروا في ميدان التحرير» إننا نشعر بالإحباط، لم نكمل رسالتنا ولم يحصل الشهداء علي حقوقهم ولم تتحقق آمالهم التي ماتوا من أجلها، وأضافت الدكتورة نادية: هناك نوع آخر من الشباب يتم قيادتهم وهؤلاء أصلاً لم يكونوا في مشهد الثورة بل يسيرون خلف قادتهم وينزلون متي يؤمرون «وهم مش فاهمين حاجة». أما شباب الثورة الحقيقي فينزل من تلقاء نفسه، وهؤلاء محبطون، ولو السيناريو سار كما يريد التيار الديني واستمر الإخوان في الاستئثار بكل شيء سيتواري الشباب المصري وتبقي صحيح «مصر ما اتغيرتش» لكن الشباب الثائر مصر علي التغيير ومستخف بالحياة، في سبيل تحقيق أهداف الثورة ولكن أثناء ذلك لن تتحمل فئة أخري من الشباب هذه الظروف، هؤلاء الذين يحترقون بنار البطالة والمهمشون يسقطون في بئر اليأس أو الادمان أو منهم من ينحرف وهؤلاء جميعاً ضحايا لحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية وعجز النظام الحالي عن حمايتهم حتي من أنفسهم. الصدمة الكبري ويبقي أن الشباب المصري الآن والذي سقط كثير منه في بئر الأمراض والاضطرابات النفسية يعيش حالة صدمة وعدم رضا وكما يقول الدكتور هاني السبكي أستاذ الصحة النفسية: إن سوء الحالة النفسية للشباب بدأ قبل الثورة وهو يعيش هذه الحالة منذ عقود علي آمال كاذبة لكنهم كانوا يتحلون بالصبر وفاض بهم، وحدث ما حدث من تفاعل، وكانت الثورة عمادها الشباب لكن لم تكن لديهم الخبرة الكافية ولا علم بألاعيب السياسية وإدارة الموقف وكان لابد للثورة أن تأخذ مساراً مدروساً لكنهم فوجئوا بأن هناك قوي كثيرة لها خبرات عريضة بحكم السن وممارسات العبث بكل ما هو صالح وتكاتف هذه القوي وبدأت في الثورة المضادة بكل أشكالها تدعمها قوي خارجية ليس من مصلحتها نهوض مصر، وكذلك قوي داخلية كالطفيليات، أدرك الشباب في هذه اللحظة أنهم خدعوا وحدث إحباط من نوع جديد، ليس يأساً دعا هؤلاء الشباب لإعادة ترتيب موقفهم، وهم الآن في حالة كمون ينتهي حتماً لانفجار مرة أخري ولكن هذه المرة لا يستطيع أحد التكهن به لكن سيكون مدروساً بصورة تضمن النجاح وجني ثمار الثورة. ويشير الدكتور السبكي إلي أن هناك نوعا آخر من الشباب بدءوا قبل الثورة بالهروب وأكل العيش خارج بلادهم لأنهم شعروا أنها ليست بلادهم وفقدوا الإحساس بالوطن.. فاليأس ليس مرضاً بل حالة نفسية تصيب الإنسان عندما يستنفد كل الحلول. وهناك فئة ثالثة من الشباب وهؤلاء هم الفئة العشوائية غير الواعية وليست لديهم ثقافة أو علم سقطوا فريسة للإدمان ليبعدهم عن التفكير بعد أن اكتشف عدم جدواه فعاش في غيبوبة ضعها لنفسه بالمخدرات حتي لا يواجه الواقع وعموم الناس أصابهم الإحباط كأنهم عادوا للخضوع وأكاذيب وألاعيب سياسية من نوع جديد خلف ستار ديني أو شعارات مزيفة فأصيبوا بالاكتئاب النفسى ودخلوا حالة مرضية من القلق النفس وبعضهم أصيب بخلل عقلي والمكتئبون هم من فقدوا الإحساس بالأمل والمستقبل والحياة ومنحوا أنفسهم واقعاً، وحياة أخري خارج نطاق الواقع وعاشوا في أحلام اليقظة ووهم ما كان المريض يتمناه وشاهدت في العيادات من يتخيل نفسه قائدا أو رئيسا أو زعيما أو محرر الشعب.. وهناك نوعية أخري تحولت إلي النهب والإجرام واتخاذ رد فعل وسلوك معاكس تماماً. وتحولت الثورة بالنسبة لهم إلي كابوس. الأطفال حتي الأطفال أصابهم الاضطراب النفسي كانعكاس للظروف السيئة في العامين الأخيرين وهو ما أشار إليه الدكتور هاني السبكي مؤكداً أن إقبال الأطفال علي اللعب والدراسة وسلوكياتهم بشكل عام تغيرت وهؤلاء هم شباب المستقبل الذين اطلعوا علي كل شيء ووقعوا في فخ اللخبطة نتاج ما يشاهدونه والمعارك الكلامية الدائرة أمامهم وإحباط مدرسيهم وآبائهم، كما أنهم يرون تناقضاً شديداً بين ما يعرض عليهم في شاشات التليفزيون وبين ما يشاهدونه في الواقع. وأدي كل ذلك إلي اضطراب نظرتهم إلي المستقبل. وتأثر الأطفال أيضاً بتكرار مشاهدة أحداث العنف وتناول الحكايات عن البلطجة التي يرويها المحيطون ونتيجة التعرض لفترات طويلة للبرامج الإخبارية والسياسية شكل الطفل مخزوناً من الاضطرابات والفزع نتيجة ما يشاهده وما يصاحبه من جدل ونقاش وأحياناً اشتباك، فمن ناحية حرم الأطفال من العيش بشكل يناسب سنهم فحرموا علي أقل تقدير من مشاهدة برامج الأطفال الخاص بهم.. وطبقاً للمتخصصين فقد لوحظ أن كثيرا من هؤلاء الأطفال أصبحوا أكثر عناداً وتمرداً وإصراراً علي التعب عن آرائهم، وطبقاً للدكتورة ولاء سليمان إخصائية العلاج النفسي للأطفال فقد تردد علي عياداتها حالات كثيرة من الأطفال في سن الخامسة وحتي 13 عاماً يعانون من حالات الفزع وخاصة في المساء وكثرت حالات التبول اللا إرادي فضلاً عن القلق وبعض الأطفال أصيبوا باضطرابات في الكلام كالتلعثم وهناك أهالي شكوا من ازدياد معدلات العنف اللفظي والجسدي لدي اطفالهم وكثرت شجاراتهم مع زملائهم في المدرسة، وقد يتطور الأمر في بعض الحالات إلي حد ارتكاب جرائم عنف بين التلاميذ في المدارس وجماعات اللعب في الشارع أو النادي، لأن كثرة مشاهد العنف والدماء التي شاهدها الأطفال سواء علي شاشات التليفزيون، وفي شجارات الشوارع أدت إلي اكتساب بعض الأطفال عادات سيئة وانفعالات غير مألوفة تؤدي إلي ايذاء الآخر، ولذا نصحنا أولياء الأمور والآباء بعدم تعريض أبنائهم بقدر الإمكان لهذه المشاهد والمعارك حتي اللفظية في برامج التليفزيون ومحاولة إعادتهم إلي ما يناسب أعمارهم ويبث في أنفسهم الطمأنينة.