هل كانت كلماتها كتلك الأحرف المعتادة التى ترسل إلى أذنى؟!، لا أزعم.... كانت بعينها ولحظة ساكنة جمعت كلينا، براءة وجهها التى حطت على صدرى كفرخ حمام تسكنه وداعة، مريم.. شعرها المرسل على بعض من وجهها، لم أتبد لونه، أسرتنى رائحته، كانت كرائحة زهرة مستأنسة، وكل تفاصيل اللوحة ترشدنى إلى وجه البتول مريم..... لكننى لست بعيسى مريم، لست كمثله كأى التحم بصدرك ويلتقط دافنشى لوحته، لست بيسوع يا مريم. مريم. تلك العين الحانية، قالت متسائلة وقد كنت هائما فى فعل النسج الإلهى المتعاظم الصنع: «ما بك يا هاشم... يبدو عليك الوهن، عينك ذابلة؟ لم أجب، كانت فقط ابتسامتى وأنا ممسك بأطراف يدها، أضعها تارة على خدى وتارة أخرى على جبهتى كأنما تمتص عصارة مجهود ذهنى لأحلام واغترابات وأسى. وابتسمت هى، وليتها طالت ابتسامتها لتحتفظ عدسة العين بتفاصيل الملمح والثغر والشفتين... ابتسمت كطفل أو قل أيها القارئ للوحتى، ابتسمت كالرضيع فى أيامه الأولى حيث لم يدر من الدنيا غير رؤية الملائكة، ولم يمس قلبه الدنس أو الكذب أو التحايل من أجل شيء، طفل فى لحظات الميلاد الأولى طفل يبتسم ثم ينام... كانت هى... مريم. وتأملتك يا مريم، كما عهدتك ولم تبدلك السنون، عينك البنية، طيب رائحة فمك كنسيم هب من الجنة، حورية صغيرة أرسلت خطأ إلى عالمنا الأرضى وربما أرسلت رحمة للعباد. ذكرتك بلقائنا فى حضرة صاحب التمساح، وقتها أخبرتك بكرامته مع السيدة التى ابتلع ولدها التمساح فذهبت إلى سيدى إبراهيم الدسوقى، باكية تطلب النجدة من الرجل الصالح، لحظتها جذبت القصة انتباهك، وكنا واقفين أمام صاحب الضريح وعينك متثاقلة بالدمع للأم المسكينة التى ابتلع التسماح ولدها، فلما ذهبت اليه أتى الدسوقى إلى النهر ونادى التمساح الذى بكى مخافة غضبة الولى الصالح، وأمره سيدى إبراهيم أن يلفظه فلفظه، كانت ابتسامتك كأنما كنت تودين معانقة المقام، وكنت إلى جواره يا مريم بنفس طلتك... وحنوك. لحظتها شكوت إليه مبتسمة قلت له اننى أغضبتك وإنك تخشين ألا أحافظ عليك وأتمم دينى واتى لأهلك وانبت فيك غلاما من ظهرى، أخبرتك لحظتها انه عزيز فى غضبه، وكنت تبتسمين لكن يبدو أن الولى الصالح استمع إليك، وكان جراء ذلك أن ضاعت سبحتى رغم انى كنت متشبثًا بها لانك اشتريتها لى من هناك من بلدة صاحب المقام والنيل، واختفت سبحتى يا مريم طيلة تلك العقود ولم أعثر إلى الآن على أثر لها، وكانت ضريبة شكواك إليه انى حرمت على نفسى زيارته حتى اوفى بعهدى اليك.... وليتنى أوفيت. وأطلت النظر هذه المرة إليك مأخوذا بفعل السحر مرة والخدر مرة، ورأيتك تمسكين وجهى بيدك توجهينها نحو عينك بينما أنا أفر مغمضا تارة وتارة أخرى أرجع البصر، وأنت تصرين بملمسك على إذابة خلايا العصب فتنهار جبال مقاومة الرقبة لكر البصر وفره، وثبّت عينى بعينك، أنا الآدمى وأنت مريم.... وأنت تهمسين «انظر لى هاشم... انظر لى...» لحظتها ويشهد الله أن لحظتها فقط استشعرت عينى تسكب ماءها، تسكبه بحنو كأنما أزيحت عنها غلالات من الغيم والضباب، فأرتد بصيرا، جراء البصيص، راسمة على وجهى غديرا صغيرا من الملح، فكأنما فككتِ عن عينى وعن نفسى وعن روحى أغلالها وأثقالها. وأعدتِ الطلب مريم وأنا الغريق وأنا المجذوب وأنا الهائم وأنا المجبر والمسير: «انظر لى لا تلتفت.... بالله تنظر لى... بحق روحى وحياتى لا تلتفت...» ثم بكيتِ أنت يا مريم... بكيت كإيقاع موسيقى بدأ خافتا ثم تعالى هامسا فتزايد حارقا لتهبط أدمعك على يدى تذيب ما تبقى فىّ من رجولة، لِمَ بكيتِ أيتها البتول الطيبة؟، لمَ بكيتِ فصدرتِ لجسدى ذلك الشلل الذى تملك أوصالى مرغما أن أنسحق أمامك عاجزا عن فعل شيء، وصرخت يا مريم وأنت تبكين، تضغطين على يدى ضامة صدرى لصدرك، ووجهى لعينك، وزفيرك ساكنا لصدرى كأنما يضمد حساسية صدرى الأليمة... صرخت يا مريم باسمى: «هاشم... هاشم... إننى أحبك.. إننى أحبك». د. رامى المنشاوى