ألقى بنظرة متكاسلة على روشتة الطبيب،مرت ثلاثة أيام على زيارته له، الطبيب محمد مشالى، لا يعلم ما هو الدافع الحقيقى لأن يذهب إلى هذا الرجل، تكلفة الكشف ستة جنيهات وزادت فى عام 2015 إلى عشرة جنيهات،يذهب اليه متيقنا أنه اليسارى الأوحد الذى يكافح من أجل الفقراء دون أن يتغنى بأية بطولة،كانت أمه تصحبه إلى «مشالى» وقت كان عمره سبع سنوات، يعطيه مشالي الحلوى لكنه كان يكره وخز الابرة فيستعيض عن الألم ببهجة الطبيب وقرص من الحلوى. وقتها لم يكن مشالى بهذا التجريف الزمنى الذى أكل من جسده وزاد من انحناء ظهره، كان يراه يساريا بلا ضجيج أو فرقعة، يساريا ينتصر لراحة الفقراء على أوجاعهم،ربما لهذا يشعر بصدقه،رغم كل شيء،لا يشعر بالراحة الا مع هذا الرجل الذى يناضل مع الزمن والفقراء، يلقاه كثيرا بالشارع منكبا على وجهه، كما يسير «كوازيموزو» بطل رائعة فيكتور هيجو «احدب نوتردام» ماسكا بيده اليمنى شنطة من القماش كبيرة الحجم وعلى صدره رباط لحقيبة جلدية متهالكة يسير كأنما فى خطوه يسارع الزمن لمجهول لا نعمله نحن، مشالى طبيب الفقراء، وطبيب وجعه هو. ثلاثة أيام على زيارته،لحظة فتح باب غرفة الكشف،أنت لا تحتاج الا أن تفتح الباب وتدخل فتقف أمامه، مشهد غير مرتب لمجموعات من الكتب المكدسة، بينما هو خلف مكتب غير مكتمل المعالم، مهمل كل ما عليه، متناثرة أدوات الطبيب، رائحة عتيقة غير مريحة تخترق أنفك «خليط من البول والعرق » وأنا شاخص البصر اليه، كأنما أسأله متى تعلن عن نفسك أنك تناضل من أجل الفقراء،ولم لا نراك فى مؤتمرات نقابة الأطباء تجلجل بصوتك حول حق الفقير فى العلاج، تداوى بؤساءك فى صمت يا دكتور محمد؟...رحمك الله دكتور مشالى. رحمك الله. - أنت لو لم تترك هذه العصبية ستتعرض لقرحة فى المعدة، قولونج العصبى فتك بجدار معدتك وارحم نفسك من التدخين » كان يستمع اليه ويبتسم. ثلاثة أيام مرت على زيارة طبيب الفقراء محمد مشالى،أهمل فى تناول الدواء،واستكان الألم بمعدته يوما ثم سرعان ما عاد ليفتك به مرة اخرى فى اليوم الثانى،والثالث. قرر أن يرتحل إلى البحر،يشعر بألفة دافئة تجمعه ببحر الإسكندرية، قال لنفسه، ربما يكون البحر متسعا لأن أستفرغ ألمى، واتجه صوب البحر، مرافقا له أمير العابد، يشده شيء بهذا الرجل،لا يعلم مداه أو منتهاه، لكنه يجذبه مشهد الدرويش الذى يسكن أمير العابد حين يرد على لسانه ذكر سيدى عبد الرحيم النشابى رضى الله عنه، تجده استحال إلى شخص آخر، وفى أوقات أخرى يشعر بغربة تقصيه منه، ليس هناك من رفيق آخر للطريق،حيث ارتحل رفيق الطريق فى حلوه ومره فلم يبق له سوى فتات من صداقات تجمعت على كبر. الحق انه لا يريد وداع رفيق الرحلة والحلم والكتاب والستر،،،،،، «حسن» فزاد الألم أضعافًا مضاعفة، أخبره بالهاتف أن طائرته ستكون فى صباح اليوم التالى، فقرر أن يترك طنطا، يتركها هذه المرة بلا حسن،رحلة بغير ابتسامة حسن التى يسخر بها من بلاء الزمن، رحلة بغير رفيق أو سند رحلة بغير الخل الوفى....حسن حنفى حسن عمران. ارتحل بسيارة أحد الزملاء،لم يكن يوما قريبا منه، حاول أن يتقرب لكنه لم يستطع أن يتفهم طبيعته، فى الواقع كان مجبرا على هذه الرحلة، الى البحر...فقط البحر، هاربا من وجع يضرب الجوف ووجع يضرب الروح، فكان غير مبالٍ لا بالدرويش ولا بالرجل الذى ألقاه القدر مصادفة بطريقه ويملك السيارة التى تقله إلى البحر.....ا ل ب ح ر. وقرروا فور وصولهم أن يلقوا بأنفسهم إلى المقهى بانتظار صديق آخر لتكون جلستهم أربعة، كان مبعثرا، لا يملك حدودًا أو إطارًا لتفكير يربطه بالجلسة، كان هاربا من كل الأعين،ربما شدة صراخ باعة ينبهون رفاقا لهم بأن «شرطة المرافق» آتية، فتحول الشارع الذى يواجه البحر إلى خلية متحركة من دبيب الباعة تجر الأجولة ببضاعتهم،جالسا بزاوية، الى جواره زميلة الذى يسكنه الدرويش ويكن له حبا والآخر صاحب الصوت الجهورى والذى يفزعه بين الحين والآخر حين يقص نادرة أو موقفا محاولا إضحاك الجمع،لكنه بكل حال من الأحوال لا ينتمى اليه. بدا شاردا...لا.. فى الواقع الفعلى كان شاردا تجاه طفلة صغيرة نادتها أمها «داليا » كانت أشبه بالبالرينة فى مشيتها،وهى تسير على مشط قدميها، وتنطلق من فمها ضحكة بريئة عذبة، ثم التقت عينه ؛ لتكتشف تلك السيدة التى كانت تبعد عنه بخطوات، شده أنها وقفت تتأمله ثم جاءت تقترب، قال فى نفسه «ربما تقصد منضدة اخرى » لكنها توقفت أمامه،عيناها خضراوان، ترتدى بلوزة صغيرة تكشف عن نصف صدرها،شعر كستنائى غامق من آثار ازالة الصبغة ثم معاودة الصبغ،وقفت أمامه على مقربة بضعة سنتيمترات لدرجة أن رائحة عطرها الأنثوى غمرته، معلق بيدها طفل صغير، يحمل من ملامحها بعض الشيء، وفى رقبته صليب ذهبى،لاحظ رواد المقهى توقفها أمامه، شعر بالحرج، الغريب،أن عينها بدأت تلمع وكأنها على وشك البكاء،أما رفيق الرحلة ذو الصوت الجهورى الذى يفزعه كان منكبا على التدخين من نرجيلته. بينما الدرويش الذى يجاوره انكب مفتونا لأسر العين،وكأنما ينعم بجو حضرة فى صمت جمال سافر، تعدت فيه حمية الجسد على خباء الروح،لبضع ثوانٍ وربما كانت لدقيقة، لكن انهمرت دمعة من عينها، وسط حضور لكل من رواد المقهى، وتكلمت. - لم تعرفنى يا هاشم؟ قرر ان يقف محاولا عصر الذاكرة لمعرفة صاحبة الجسد الذى أبان عن محاسنه، ملاحظا انتباه الجميع له. -عفوا... ممكن بس الذاكرة.... لم تسعفنى. - سألت عليك حسن...أخبرنى أنك سافرت إلى الخليج هروبا من هزايم مجانية متتالية. - حسن... وهل تعرفين حسن؟ كانت كأنما فكت مفعول الخدر الذى حاول أن يستنشقه من ابتسامة الطفلة «داليا» التى ركضت الية كأنما غارت عليه منها، ووجد نفسه يضمها إلى صدره بعد أن حملها من الأرض وكأنما يعرف الطفلة منذ زمن ولم يكن اللقاء للحظات فقط. لكنها تنظر اليه وتبكى. - لهذه الدرجة صرت متغيرة، صارت ملامحى متبدلة بهذا الالتباس يا هاشم؟ انظر إلى يدى هل تذكر شكل هذا الصليب. - وجدتنى أصرخ «ماريان... ميرى». - لا....كنت تنادينى مريم يا هاشم،كنا نتحاور فى اسمى،أنت تقول لى إن اسمك الحقيقى هو ماريه زوجة نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم،وكنت تنادينى مريم فى الجامعة،كنت تقول إن ماريان أو ميرى هو الاسم اللاتينى لمريم العذراء أم النور والمسيح،وكنت تخبرنى أن مريم هو أفضل الاسماء،لذا كنت تنادينى مريم. ماريان.. لم تعد مريم التى أعرفها،ملامحها صارت بها أنوثة صارخة،مريم ابنة الست كارولين،جارة فاطمة الوفية، ما الذى دفعها لهذا السفور الجسدى الفج؟،تدويرة الثدى،التنورة القصيرة التى فوق الركبة،ذراعان كشف عنهما ثوب خفيف أبيض حاسر فوق السرة، يبرز مشد الصدر بلون اسود، كأنما باتت وليمة جنسية تدعو الأفواه لأن تجوع حتى لو كانت شابعة. - مريم التى كنت تعرفها ذبلت منذ سنوات يا هاشم، مسيحنا كان يدعو إلى طهر الروح كى تسود المحبة. كانت تتحدث ودموعها تسيل على خدها وداليا الصغيرة مستقرة على صدرى متشبثة بكتفى كأنما تستغيث بى من سيدة تحمل لعنة الجسد. - كارولين ستفرح بك،جدا..حأولت ان تبحث عن هاتفك اكثر من مرة،مرض أبى ومرضها ادخلنى فى دوامة الزمن يا هاشم. - هى معك هنا فى الاسكندرية؟ - نعم..هى معى وأبى تركناه فى استراليا لمتابعة العلاج. كيف تحول هذا الطهر الملائكى،الى لعنة التفاحة المقدسة،مريم، كنيسة السيدة العذراء، صلاة الأحد، المسرح بالكنيسة بعد أن استأذنت الأب مكارى أن أقوم بالتمثيل معهم لأنى أحب المسرح فترة المرحلة الثانوية، مريم صاحبة التنورة الطويلة والقميص ذي الازرار والشعر المنسدل ذيل حصان،والصليب البلاستيكى الذى أخذته من دير القديسة دميانه وقت زيارتها، فكأنما تبدو «كمكرسة » وهبت روحها وجسدها للرب. استشعرت ميرى بالحرج من نظرات الرواد أو ربما كى اكون متصارحا مع نفسى انها خشيت عليّ من الحرج،استودعتنى تحضر طعاما للصغير ثم تعاود لتصحبنى إلى امها. وبت محط تأمل الصاحبين فى السفر،الدرويش، والرجل ذو الصوت الجهورى، لم يكن ليشعرا بما استشعرت به، لم أستمع لما قالاه وانضم اليهما صديقنا الثالث، كنت متأملا فى المشهد أقارن بين الشخصيتين ماريان.... ومريم،والطفل الصغير الذى تجره بيدها. وكأنما البحر أحب أن يتوقف عن الجزر ساحبا ألمى ويقرر لحظة المد طارحا لى ألما مضافا. ألم مريم....... أقصد ميرى أو ماريان وطفلها. التى تركتنى ومضت.