تسعفه الذاكرة الآن بمشاهدة نص الرسالة من شريف جامع.. «مريم» عادت من غربتها وتحتاج إليك تمر بفترة عصيبة وألمها النفسى يلتهم ما تبقى منها. كانت الرسالة مُسكرة، أخذته من عالم الخليج والدوام والترحال؛ ليعبر إلى الوطن ومريم التى عادت من القارة البعيدة دون أن يعلم سبب عودتها، كان بحاجة ماسة أن يتحدث مع شريف الصديق ليتعرف على ملامح المشهد الذى يأسره. وقد أبان الهاتف عن صوت مؤلم لشريف الذى أوضح بإيجاز أن مريم قد عادت لتستقر بمنزل والدها القديم. عادت بصحبة فتاتين أما زوجها فقد بذل كل الجهد معها لكنه لم يستطع أن يقدم لها شيئاً. كان طلبها أن تأتى إلى الحارة وتقيم بمنزل والدها بصحبة فتاتيها, طلبت أيضاً أن تزور شقيقتك، وقد اهتمت سكينة الشقيقة الكبرى بالفتاتين، كل ما أستطيع قوله لك إنها بحاجة إليك، هى لا تبكى، هى تظل طوال الوقت صامتة، تذهب لزيارة ضريح سيدى ياقوت العرش وتعود لتجلس مع سكينة دون أن تتكلم ثم تذهب إلى بيت أبيها لتنام فى غرفته، إلا أمس طلبت من سكينة أن تدخل غرفتك لتنام بها.. . الأمر يستدعى أن تأتى لأن حالتها تسوء «ما طلبته مؤخراً أن تبيت فى غرفتك. أنهى المكالمة مع الصديق الذى أوجز الأمر، راح عقله يسترد ملامح الذكرى القديمة، يشعر بأنها فى أمسّ الحاجة له الآن، متذكراً وصية فاطمة له «مريم فى عينك إنتم متربين مع بعض يا هاشم».. مريم الطفلة التى كانت تتراقص طرباً مثلما تزهو الفراشات. مريم الآن بحاجة لى، مريم ورحلة الغياب لعشر سنوات مع الزوج الذى وفر لها الاستقرار فى بلد يحترم الإنسان، هى التى ارتأى أن ترحل لتتزوج بعيداً عن دوامات غيابه، مكتفياً هو بتوضيح مشاهد حلمه المبتورة وأنه لم يستطع أن يكفلها كونه ما زال يستشعر اغترابه، يسكن مواجعه القديمة بقيمة الإيثار إذ يقول لنفسه «أفضل لها إن تزوجت من رجل عملى يوفر لها حياة طيبة ورحيلها إلى القارة البعيدة معه كفيل بأن ينسيها هاشم والذكرى»، هو أقنع نفسه بهذا ومرت عشر سنوات وما زال باحثاً عن حلمه غير المكتمل، لم يسع للزواج كانت فلسفته تتلخص فى جملة بسيطة أوجزها أبوالعلاء من قبل «هذا ما جناه أبى على وما جنيت على أحد».. كان يكتفى بفعل المشاهدة، ثم أقنع نفسه مؤخراً بأن يبحث عن عقد عمل بالخليح لم يكن يتصور أن تلاصق مريم كل الأماكن بحارة سيدى ياقوت، قرر هو الآخر أن يرتحل لعله بالابتعاد وتغيير المكان ينسى مريم أو يطمس ذكراها. الآن تعود مريم، تعود بروح موجوعة وتنتظر منه أن يطببها ويعود للوطن، كعادة أى إجراء للهدم لم يأخذ الأمر سوى بضعة أيام كان قد أحضر جواز السفر من الكفيل، متحججاً بحاجة أسرته الماسة له متنازلاً عن كافة حقوقه المالية لأنه من أقدم على فسخ العقد، ومتحملاً تكاليف العودة. وكنت يا مريم أمامى، لم يكن فى الوسع أن أبدى ألمى من اللوعة بك والشوق لرؤيتك وجدتنى أعانقك أمام سكينة التى خجلت من التواجد فتحججت بالذهاب بعيداً لتنظيم أغراض حقيبتى، لأول مرة تسترين شعرك عن عينى حيث إننى الرجل الغريب الآن، وجدتنى أدفن وجهى بصدرك وأنت تبكين فى صمت.. تبكين بلا صوت.. تنسال دموعك ويدك تجاورك، بدوتِ حبيبيتى كوجه أمنا العذراء مريم لكنه بملامح شاحبة ذابلة، أتشبث بك أستمد منك فعل المقاومة وأمدك بفعل الحياة. وأنت تبكين مريم.. .. تبكين بلا صوت أو ترنيمة للحزن. حملت الفتاتان كل ملامحك، أجلستك بجوارى والفتاتان إلى جوارى، الكبرى تشبهك، تشبه ملامحك الأولى يبدو عليها الخجل مثلما كان يبدو عليك فى الصغر فتتورد وجنتاها كثمر التفاح، ساكنة إلى جوارى يا مريم، يدك إلى جوارى مستقرة شبه مغيبة عن العالم، أتحدث إليك وأنت تنظرين إلى وتصمتين ويستمر ترتيل عينك للبكاء كأنه لغة خاصة تبثينها للجميع قالت سكينة: لم تتحدث بأى كلام منذ جاءت، تستمر فى شرودها وتواصل البكاء فى صمت. ما الذى ألم بك مريم؟.. .. لمَ بدوت على هذه الهيئة. وجدتنى أشدك من يدك أذهب بك إلى ضريح سيدى ياقوت، أذكرك بأمنيتك الصغيرة وأنت تشعلين شمعة وتضعينها على شباكه، تقولين أود أن أراك مثلما تشتهى، كنت أسألك وماذا تشتهين لأجلى، فتردين أريدك سعيداً يا هاشم.. . وكنت تداعبيننى «يا عاقد الحاجبين».. ثم تبتسمين أيها الملاك الحالم، رحل والدك ولم يتبق لك فى عالم الحارة سوى بيته بعد أن رحل الشقيق الأكبر للقاهرة وتلاه الأصغر. ويبقى السؤال عزيزى المحرر.. هل يمكن أن أعود إلى مريم زوجاً مع اقتطاع العشر سنوات من العمر، أعود إليها راعياً لفتاتين لم يحملا منى سوى حبى القديم لمريم؟ عزيزى صاحب الرسالة.. عزيزى هاشم الانتصار دوماً يكون للحب، الحب ذلك الملغز المعجز القادر على تبديل كل شىء وإحياء الروح بإذن الله، الحب وحده هو القدرة على الصفح والتلاقى والعلاج، طاقة غريبة ربما تبعثها داخل روح مريم، لكن عليك أن تعى أن لكل نفس بشرية طاقتها، استشفيت من سطور رسالتك أن مريم عائدة منكسرة، تركت القارة البعيدة وكل شىء وأتت بفتاتين، السؤال الذى سيوجه لك الآن هل لديك القدرة على تحمل هذه التركة الروحية والمسئولية؟.. . الأمر بحاجة إلى مصارحة مع ذاتك أولاً فمريم ليست هى مريم ذى قبل، أضحت محملة بالعديد من الآلام وتنظر طبيباً يضمد جراحها فهل تستطيع أن تفعل ذلك؟ وهل طاقتك البشرية فى وسعها فعل ذلك؟ إننى يا عزيزى انتصر للحب، وحده القادر على فعل التبديل والتحول، ووحده القادر على إحياء الموتى بإذن الله، مريم عائدة لم تنتظر شيئاً سوى أن طلبت من أختك أن تنام بغرفتك.. عليك أن تواجه ذاتك لتعرف، هل لديك القدرة على رى هذه الروح، فتنبت فيها الحياة مرة أخرى؟