موعد تنسيق الثانوية الأزهرية 2025.. مؤشرات كليات جامعة الأزهر 2024    المسلماني: الرئيس لا يريد شعبًا مغيبًا وجاهلًا (فيديو)    «لا يجب التنكيل بالمخطئين».. المسلماني: الرئيس طلب الاستعانة بكل الكوادر الإعلامية    رئيس الأعلى للإعلام: الرئيس السيسي أكد على ضرورة إعلاء حرية التعبير    سعر الدولار اليوم أمام الجنيه والعملات الأخرى ببداية تعاملات الإثنين 11 أغسطس 2025    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 11 أغسطس 2025    عيار 21 الآن في الصاغة.. سعر الذهب اليوم الإثنين 11 أغسطس بعد الزيادة الأخيرة (تفاصيل)    "تضامن سوهاج" تكرم 47 رائدة اجتماعية وتمنحهن شهادات تقدير    94 % صافي تعاملات المصريين بالبورصة خلال تداولات جلسة بداية الأسبوع    رئيس مياه سوهاج يتفقد المحطات ويؤكد على أهمية مطابقتها للمواصفات القياسية    أول تعليق من وائل الدحدوح على استشهاد الصحفيين أنس الشريف ومحمد قريقع    استشهاد الصحفي أنس الشريف بقصف إسرائيلي في غزة.. هذا آخر ما كتبه على «فيسبوك»    زلزال بقوة 6.19 درجة يضرب تركيا    دبلوماسية أوروبية: أي اتفاق بين أمريكا وروسيا يجب أن يشمل أوكرانيا والاتحاد الأوروبي    موظفو طيران في بروكسل يطالبون بعدم استئناف الرحلات لإسرائيل    نتنياهو: إسرائيل ألحقت ضررًا جسيمًا بإيران سيستمر تأثيره لسنوات    أوصيكم بقرة عيني وبفلسطين وأهلها، رسالة مؤثرة للصحفي أنس الشريف قبل استشهاده    جيش الاحتلال الإسرائيلي يتبنى اغتيال الصحفي أنس الشريف    برشلونة يكتسح كومو بخماسية ويتوج بكأس خوان جامبر    هاني رمزي يكشف أسباب خسارة الأهلي من مودرن.. وينتقد ثنائي الأحمر    خالد الغندور: التوأم يوصي فتوح بالالتزام للمشاركة مع الزمالك    «تحت الصفر».. نجم الزمالك السابق يهاجم أفشة بتصريحات نارية    ثنائي المصري أحمد وهب وأحمد شرف ضمن قائمة منتخب الشباب استعدادًا لمباراتي المغرب الوديتين    حسام حسن يطلب ضم ثنائي الأهلي لمعسكر منتخب مصر في سبتمبر    كاف يعلن جدول مباريات مسار في بطولة شمال إفريقيا للسيدات المؤهلة لدوري أبطال إفريقيا    اتحاد الكرة الليبي يكشف مصير مباراة الأزمة بين الأهلي طرابلس والهلال    محافظ الفيوم يكرم أوائل الثانوية العامة والأزهرية والدبلومات الفنية    الداخلية تضبط طالبا يستعرض بدراجة بخارية    الحماية المدنية تخمد حريق هائل داخل محل دهانات بالمنيا    السيطرة على حريق داخل مخزن مواد غذائية فى الزيتون دون إصابات.. صور    فنان شهير يتهم فتاة بالتحرش به والإساءة لزوجته وفريق بحث لضبطها    قرار هام بشأن البلوجر مونلي صديق سوزي الأردنية بتهمة نشر فديوهات خادشة    إخلاء سبيل طالب طعن زميله في شبرا الخيمة    اتهامات لمحامي بالاعتداء الجنسي على 4 أطفال بالدقهلية    4 أبراج «بيحققوا النجاح بسهولة»: يتمتعون بالإصرار والقوة ويتحملون المسؤولية    كشافين في القرى للبحث عن أم كلثوم والشعراوي.. المسلماني يكشف توجيهات الرئيس    «إسكندرية السينمائي» يطلق استفتاء جماهيري لاختيار أفضل فيلم سياسي مصري    اجتماع مديري الثقافة والتربية والتعليم لتعزيز الأنشطة الثقافية والتعليمية بين الطلاب    ويزو تحكي أسرار "مسرح مصر": «أشرف عبدالباقي كان بيأكلنا ويصرف علينا من جيبه»    جنات لتليفزيون اليوم السابع: "سعيدة بردود الفعل على الألبوم الجديد"    تامر عبد الحميد: نظام الدوري الجديد أصعب.. والحسم قد يأتي مبكرا    المشهد الإعلامى الوطنى.. وما يتطلب فعله..!    فوائد اليانسون، يهدئ المعدة ويعالج نزلات البرد والإنفلونزا ويقوي المناعة    المنوفية تُطلق عيادات الدعم النفسي بخمس وحدات رعاية أساسية | صور    مدير الرعاية الصحية بالأقصر يتابع أعمال التطوير في المجمع الدولي ومستشفى الكرنك    وكيل صحة المنيا يشدد على الانضباط وتطوير الخدمات الصحية    عبدالغفار: «100 يوم صحة» تقدم خدمات علاجية ووقائية متكاملة بالمجان بجميع المحافظات    أمين الفتوى: لا يجوز كتابة كل ما يملك الإنسان لبناته لأنه بذلك يعطل أحكام الميراث    "الجلاد ستيل" يضخ 3 مليارات للتوسع في الإنتاج وزيادة حصته التصديرية    أمين الفتوى يوضح: المال الموهوب من الأب في حياته لا يدخل في الميراث    سعر مواد البناء مساء اليوم 10 أغسطس 2025    حكم الدردشة مع صحابي بالموبايل في الحمام؟.. أمينة الفتوى تجيب    الوطنية للصحافة: صرف مكافأة نهاية الخدمة للمحالين للمعاش خلال يوليو غدا    هل يجوز إجبار الزوجة على الإنفاق في منزل الزوجية؟.. أمينة الفتوى تجيب    اتحاد عمال الجيزة يضع خطته للتأهيل والتدريب المهني    موعد إجازة المولد النبوى الشريف 2025 للقطاعين العام والخاص    الشوربجي يشكر الرئيس السيسي على زيادة بدل التدريب والتكنولوجيا للصحفيين    دعاء صلاة الفجر.. أفضل ما يقال في هذا الوقت المبارك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رجل الظل
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 03 - 2015

الليلة يغيب القمر لكنك تحضر ولا أدري أياّ منكما ينوب عن الآخر في الحضور أو الغياب أيّا منكما غيبته السماء في بلادٍ وأضاءت به بلادًا أخري..
تتقاذفني الحيرة في بداية حروفي فبأي منها أبدأ بخريفك أم ربيعك بصيفك أم شتائك،يا سيدي.. التشابه الوحيد بين فصول عامك أن كليكما مخلص كما كلاكما غادر..
وددت أن أكتبك حين عجزت عن التواصل مع البشر،حين رغبت العزلة عنك عن كل ما يصل بيني وبين الحياة عن كل وريد يربط بين قلبي وبينك بدأت أكتبك حين انفض الكون من حولي فأردت إعماره من جديد.. بدايةٌ أخري لخلقٍ جديد في عالمٍ آخر أصنعه أنا..
وستندهش حين تراني أصور نبض شرايينك وخرائطها في جسدك،حين تري كرات دمك الحمراء والبيضاء حروفاً منثورة فوق سطوري.. حين يغوص قلمي في بحور زمانك يرتوي من أحبار حكاياتك فيعود منتشياً يفرغ فوق صفحاتي أياماً من عمرك أنت.. من عمرٍ فات وعمر آت.. ستندهش حين تسمع صوتك من حنجرتي وحين تري روحك أنت في وجهي أنا... يا أنا.. إنها الأساطير التي تكتب من لحم ونبض ودم.
بالأمس،زارني طيفك يلومني لطول الغياب،فارتميت فيك أشكوك إليك،قلت: لا تعاتبني فإنني -يا مالكي- ملكً لديك.. يا سيدي،كل شيء حولي يذكرني بك،حتي قصاصاتي الصغيرة،كل قطرة دم في وريدي،كل نبضة شوق تسري بقلبي،كل رعشة يد،كل لحظة عمر،كل الأسئلة والإجابات المستحيلة.. وجه القمر في السماء الذي بات معتمًا وحائرًا في غيماته،ضوء الشمس الذي أصبح و لم يعد منها ضياء غير وهجٍ يحترق،غربة النهار ووحشة الليل،شكل الحياة من بعد فقدٍ وموتٍ ووجع بعاد،كل شيء حولي يذكرني بك.. حتي تفاصيلي الصغيرة..تري هل ما زلت تعشقني كما كنت،هل مازلت تنام مناجيًا باسمي،وتصحو علي صوتي ينادي اسمك؟
كم من الوقت مر علي فراقنا،هل ما زلت تحصي ساعات الفراق أم أن طول البعاد أفقدك الصبر علي الانتظار فيئست من حسابات لقائي؟
أسئلتي الحيري لا تجد إجابات لها،صار الحنين إليك يقتلني ويمزق أوصالي صباح مساء،هذا الجدار الذي صنعناه معا ليفصل بين روحي وروحك،بين قلبي وقلبك أراه اليوم قد انهار كما انهار حائط برلين،برلين عادت لتتوحد بإصرار أهلها،فهل لنا يومًا من عودةٍ أخري،وهل من حقنا أن نعود؟
محفوفٌ لقاؤنا بالخطر،ومحاطة مشاعرنا بكل قضبان السجون،أسيران نحن لتقاليد وظروف،لتاريخ لم يرحم طفولتنا ولا صبانا ولا نضج اكتمالنا رجلاً وأنثي،أسيران لخوف من مستقبل يحكمه ماضينا..
هل تعرف،لقد أتممت اليوم الخامسة والثلاثين من عمري،نظرت إلي وجهي في المرآة،لم تعد ملامحي كما هي،لقد تبدلت يا عمري،فقدت الكثير من نضارتي وشبابي،بدأت التجاعيد تعرف طريقها إلي وجهي الذي كم امتدحته عشقًا وحبًا،وسرت تحت العينين بضعة خطوط رفيعة بات يؤلمني وجودها،هل تذكر كم نضرت وتألقت بالنظر إليك عيني؟
فوق رأسي بضع شعيرات زال عنها سوادها وبدأ اللون الأبيض يغزوها لا أعرف مدي انتشار مشيبي في شبابي فقد فاجأتني رؤية تفاصيل عجزي،بينما في القلب مازالت بعض من حكايات صبا لم أعشه يومًا تعافر مع سنوات عمري التي تسرع نحو النهاية كسرعة البرق،وفي خيالي مازال هناك حلم يناضل من أجل البقاء،بينما تسألني نفسي: هل أستطيع أن أحيا وأن أبدأ من جديد؟
يراودني أمل ألا يكون هذا هو الوداع الأخير،وألا تكون تلك هي النهاية،ربما علينا أن نبقي لبعض الوقت،بداية أخري كتلك البدايات التي كانت تجيء كلما قررنا الرحيل فتعيدنا مرة أخري للحياة..
تري هل مازلت تذكر يوم مولدي؟ أنا وأنت فقط كان لدينا اليقين أن الاحتفال بأعياد ميلادنا طقسٌ حزين نمارسه تحت وهم وادعاء زائف وابتسامات خادعة توهم من حولنا بأننا سعيدان،لكننا في الحقيقة لسنا كذلك،فكيف نسعد بضياع عام من عمرنا،كيف نحتفي بسرقة عام في زمن فراقنا دون أن ندرك كيف سرقه الناس والقدر في غفلة منا؟
مازالت كلماتك تتردد علي سمعي وقلبي،وأنت تعافر مع القدر،تلوم الوقت حين يمضي دوني "الشمس يا مريم تغيب من جديد وأنت بعيدة عني،يومٌ آخر من أيام عمرنا نفقده في بعد وفي فقد،غابت الشمس وأتي الليل بشجونه وصمته ووحدتي،أخالك معي كل مساء حين ترحلين،يملؤني الوهم حد اليقين أنك تنادي اسمي،أنتفض من نومي باحثًا عنكِ في أروقة البيت،كلي أمل أنك عدت،أنك معي،أن الزمان قد تغير في غفلتي ونومي،أن بعادنا ما هو إلا كابوسً أفيق منه علي صوتك وصورتك فأهرول في البيت كما المجنون باحثاً عنكِ،كما الطفل التائه يبحث في شغف عن أمه حتي يهدأ ويطمئن من خوفه في عالم ضل فيه وتاه في زحامه وتوحشه فبقي وحيدًا باكيًا خائفًا دونها،لكنني يومًا لم أجدك،أعود كعادتي إلي فراشي يائسًا بائسًا محبطًا وحزينًا ووحيدًا،يتكرر نداؤك كل يوم،ويتجدد أملي وبحثي وإحباطي ويأسي،أشتاقك مريم،فأنا بدونك بلا حياة"
تري "أدهم" هل ما زال صوتي يوقظك من نومك فتهرول في البيت باحثًا عني؟ هل ما زال الشوق لوجودي يحرمك الراحة ويشعل في قلبك الحنين للقائي؟ أم أنني صرت حكاية طوتها الأيام وطول البعاد مثل كل حكاياتك قبلي؟ صدقني لا أعرف ما الإجابة التي يمكن أن ترضيني ليهدأ قلبي،أن تكون قد نسيت أيامي وحبي ووجع عانيته في عشقي،أم أنك لا زلت تتلظي بنيران فقدي ويحرقك لهيب فراقي وبُعدي؟ كلتا الإجابتين تشعلان حريقًا في قلبي وروحي،فكل إجابة منهما مريرة بطعم العلقم،وأقسي..
كان الأرق قد حرمها النوم،لم يكن ذلك بالأمر الجديد عليها،فمنذ أن وعيت علي الحياة وهي لم تعرف يومًا معني أن تروح في نوم عميق حتي تهدأ نفسها ويرتاح بدنها،استيقظت كفجر كل يوم بعد أن عافرت كثيرًا مع كوابيس تكاد كل مساء أن تلتهمها،عاندت كثيرًا أرقها،توسلت للنوم مرات ومرات أن يأتي فهي في أمس الحاجة لبعض الراحة حتي تعاود ممارسة طقوسها اليومية،لكنها كالعادة فشلت،فالسهر والأرق أيضًا أصبحا طقسا من طقوس حياتها تمارسه رغمًا عنها منذ سنوات طويلة لم تعد تحصيها..
نظرت إلي المنبه الذي لم يكف صوت عقاربه عن الدق في نخاع رأسها،الساعة قاربت علي الخامسة صباحًا،الموعد اليومي لحرمانها من النوم،إيقاظ إجباري،لا لشيء إلا للمزيد من التعب والأسي،واستعادة الذكريات واجترار الحكايات..
أما هو،فقد لملم ما تبقي من ذهنه ليكتب لها بعد أن عاش تفاصيل الموت كاملةً،بينما نجا منه بأعجوبة،حشر قلمًا في حافظة ذخيرته المكتظة بالرصاص،ودس ورقة في سترته العسكرية،ظل يدور كنحلةٍ نشطة في مكان حراسته،يرقب ويترقب،يمر علي جنوده للاطمئنان عليهم والشد من أزرهم في محاولات ناجحة لقائد لإبقاء جنوده علي حماسهم ويقظتهم
وثباتهم،وبعد أن تيقن من يقظة كل جندي في مكانه،جلس يكتب لها رسالته،ليفرغ بعضًا من ألمه وهمه..

أكتب إليكِ الآن من جبهة قتال مشتعل بقلب سيناء التي باتت ساحة للحرب،صدقيني حين أقول لكِ إني لا أعرف من أين أبدأ الحكاية،فهل أبدأ من هنا... من قلب المعركة لأحكي عن موتٍ أعيش تفاصيله كل لحظة؟ وأصدقاء أفقدهم وزملاء تغتالهم يد الغدر لتروي دماؤهم أرض مصر؟ عن أصحاب رحلوا ولا أعرف لموتهم سببا؟ بل إنني لا أعرف من يقتلوننا،ومن يهددون أمن وطننا؟ ولماذا؟ فهل أبدأ من سيناء أم من حيث شوقي وحنيني إليكِ،الذي قادني لطلب إجازة لمدة يوم واحد أسافر فيه للقاهرة ثم أعود إلي الشيخ زويد،إجازة حصلت عليها بصعوبة شديدة،كاد الأمر أن يكون مستحيلاً في هذه الظروف التي نمر بها،إجازة حصلت عليها لأسافر إليكِ فأكون لكِ أقرب ولو في محيط مكانك،في ليلة عيد ميلادك..
شوقي إليكِ بات يقتلني،وفراقك لي لا أعترف بأسبابه،وهجرك بات ينخر في عظامي ولحمي كخناجر غادرة.
في طريق عودتي للقاهرة عبأتني مشاعر متناقضة،ما بين فرحة اقتراب من مكان تعيشين فيه،وشعور بأني كالمهاجر العائد إلي وطنه،وبين إحساس لوم وشعور بذنب أرتكبه في حق عملي وزملائي لأني أصررت علي إجازة في وقتٍ صعب،نحارب فيه عدوا خفيا يظهر بغتةً من تحت الأرض دون أية مقدمات،يفجر أجسادنا في الطريق بعبواته الناسفة،ينحر رقاب الأبرياء ويستبيح فينا كل شيء،لكنها بضع ساعات فقط حبيبتي سأبتعد فيها عن مكان خدمتي وسرعان ما سأعود إليه مشتاقًا إما لنصر،أو شهادة.
ما يؤلمني في زيارتي اليوم لك ِ هو شعوري باغترابٍ يقسو علي روحي وقلبي لعدم قدرتي علي رؤياك عن قرب،ويقيني أني لن أستطيع حتي أن أسمع صوتك،أو ألمح طيفك،بل إني لن أعرف حتي ما هي أخبارك؟! أصبحت أتلصص علي أحلامك إلي أين صار مداها؟ أشتم رائحة عطرك في حنايا ذاكرتي،فأحن إلي قرية أمي،وريف امتلأت منه رئتيّ برائحة العشب الأخضر وعبق الحرية،أجتر ملامحك كوطن أحاول استرداد ذكريات طفولتي وبراءتي فيه،شعرك الذهبي الممتد مثل امتداد القمح في الحقول،عيناك وهما تتلألآن مثل نجمات السماء في ليلة قمرية،وفمك المرسوم كالتوت الأحمر الذي كنا نصعد الأشجار لنقتطف ثماره ونحن صغار،وصوتك الأسطوري يحملني كنسمة صيف تطوف أرجاء البلاد..
أكرر نداء اسمك ملء فمي وروحي وكياني وأنت تحتلين أوردتي وذرات جسدي وكرات دمي،محفورة حروفك في ثنايا عقلي وقلبي..."مريم"... اسمٌ كنقش هيروغليفي فوق حجر رشيد حيَّر العالم لآلاف السنين،هكذا أنتِ تفعلين بي.
أناجيك في وحدتي ووحشتي وأنا أتجول ليلاً في صحراء قاحلة،يلقيني الصقيع في شتاء يناير إلي صفير الرياح يهمِّد جسدي التعب،أقاوم وهني وقلة حيلتي،أتعافي علي وجعي وأنفض همي يمتلئ قلبي بحبين،مصر التي أبذل في سبيلها العمر والحياة،وأنت،مصريَّ الصغري،كل الحياة.
كانت ليلة ذكري ميلادك،أعرف أنك لا تحبين الاحتفال بيوم الميلاد،تدركين مثلي أن العام الذي رحل ينتقص من أعمارنا ويقتص من الأيام المتبقية فيه،ولكن هل تظنين أني سأتركك في هذا اليوم وحدك تبكين علي عامك الراحل؟ لا يا صغيرتي،لن أستطيع،جئت إليك معبأ بشوق يذبحني من الوريد إلي الوريد،كإرهابي غادر وخائن لا يعرف معني الرحمة،جئت إليك محملاً بأوجاع وطن أذوب من العشق فيه،وطني الأكبر والأصغر،جئتك شهيدًا في حبك وحبه.. وكما أقضي أيامي في صحراء سيناء الحبيبة،قضيت ليلتي تحت نافذتك،عبأت قلبي بالأمل أني سأراكي،لفحة البرد في وحدتي دونك تحت نافذتك - وبيني وبينك بضعة أمتار قليلة- ذكرتني بصقيعٍ قاس أعانيه علي الحدود،وأبواق السيارات المسرعة المارة في الليل تحت زخات المطر،ذكرتني بصفير الريح الذي ينخر في أذني بينما تخترق سمعي أصوات الذئاب وطلقات أعيرة النار المتواصلة،وكأني جئتك الليلة في مهمة قتالية،أعافر شوقي وأقيد مشاعري حتي تبقي في أمانٍ مني..
طال انتظاري كما طال غيابك مليكتي،كاد النهار أن يوشك ولم ينعم عليّ القدر بمنحة النظر إليكِ ولو عن بعد،اقترب موعد عودتي وسفري بعد ساعات طوال قضيتها تحت بيتك،بينما لازلت في البعد أنت رغم قطعي لكل هذه المسافة علي أمل أن ألمح حتي طيفك،كاد اليأس يتملكني،ألم يشعر قلبك بوجودي؟ ألم تشتم أنفاسك عطري؟ لقد حرصت علي الاحتفاظ بزجاجة عطر صغيرة أهديتها يومًا لي،وحينما وصلت إلي القاهرة أغرقت بها ملابسي لم يسعفني الوقت أن أهيئ نفسي لرؤياك،فقد أنهيت نوبتي في الحراسة وجئتك مسرعًا معبأ برائحة تراب الأرض الحرة،ها هو جسدي ممزوج بين عطرين،عطر الوطن،وعطرك أنتِ..
كدت أجن حين أوشكت حنجرتي علي البوح باسمك في الفضاء المتسع،بالكاد منعت صوتي أن يناديكِ: "مريم".. أنا هنا"
بت ليلتي تحت شرفة منزلك،وبعد أن تملكني اليأس من أن أراكِ،عاد الأمل يدب في أوصالي حين لمحت طيفك تمرين خلف النافذة بردائك الأبيض الملائكي،ثلاث مرات شاهدتك تعبرين قلبي علي عجل،دمعت عيني وخفق قلبي وتمددت الفرحة في أوصالي،ظهرتِ كفجرٍ لاح ضوء شمسه في الأفق،ثم اختفيتِ مثل قمر غاب خلف ستار النهار،حتي حان موعد عودتي..
في طريقي إلي سيناء مرة أخري شعرت أن كل خطوة أخطوها في البعد عنكِ تسحب الأكسجين من رئتي،تضيق الدنيا الواسعة فتطبق علي صدري،بدت الجبال المترامية علي أطراف الطريق كأشباحٍ مخيفة،تذكرت حين قلت لك يومًا إني دونك مثل طفل تاه عن أمه،تتلقفه مشاعر خوف وفزع ووحدة ووحشة في عالم يخلو من الأمان والحنان،مثل هذا الطفل الآن أنا..
الحق أقول لك "مريم" إنني رجل لا تخيفه أصوات الرصاص الذي يطاردني وزملائي ليل نهار،ولا تفزعني أشكال الموت المترامية حولي علي حدود أحرسها يحاول انتهاكها أوغاد،لا أهاب الموت ذاته فكلنا حتمًا سنموت يومًا،وليس أجمل من موت الشهداء،لا تقلقني جماعات الإرهاب التي دمرت وخربت أوطانا كبري،فها هي العراق تئن،وسوريا تحترق،وليبيا تنتهك،واليمن تمزق والسودان تُقسم،لكني علي يقين أن مصر التي قهرت الهكسوس ودحرت التتار وانتصرت علي الصهاينة وعاشت أبية عفية طول عمرها لن يكسرها بضعة مرتزقة مأجورين تجار أعراض وأوطان ودم.. الشيء الوحيد الذي يدميني هو خوفي علي وطني الأصغر،أنتِ،ما يوجعني هو فقدك ومرارات البعد عنكِ،فأنا الشهيد الحالي في عشقك،ومشروع شهيد ينتظر الإذن من وطنه الأكبر.
ما يخيفني حقًا حبيبتي هو هذا الطريق الطويل من القاهرة إلي سيناء دونك،هذه المسافة التي تطول بيننا،هذا الوقت الذي يباعد بيني وبينك..
حين هبطت من السيارة حاولت استعادة تركيزي،لقد عدت إلي الواقع مرةً أخري،إلي حيث أرض المعركة،بدأت ملامح سيناء تبدو في الأفق وبدأت أدرك أن أمرًا بالغ الأهمية يحدث،أصوات صواريخ متتالية،وأصوات انفجارات كبري،أري بعيني قذائف الهاون تسقط باتجاه مكان خدمتي،أضغط بكل طاقتي علي بنزين السيارة،وددت لو تحولت سيارتي إلي صاروخ أو برق لأصل في التو واللحظة إلي مقر عملي،حيث أيقنت اندلاع قتال فيه،غاب كل شيء مني إلا غضب اشتعل بقلبي وسؤال يتملكني حول حقيقة ما يحدث،عربات الإسعاف تتزايد وتهرول حولي،لا وقت لدي أحد ليجيب ضابط جيش عما جري في غيابه علي أرض المعركة.
جزء من رواية بذات العنوان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.