مؤخرًا تم اختيار الدكتور مصطفى النشار، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة، لرئاسة تحرير مجلة الفكر المعاصر، وهى أحد إصدارات الهيئة العامة للكتاب، خلفًا للدكتور رمضان بسطاويسى الذى اعتذر عن الاستمرار فى منصبه. لم يكن اختيار النشار مفاجأة، إذ وُجِّهت له الدعوة فى أكثر من مناسبة لرئاسة تحرير المجلة التى تأسست فى مارس 1965 ومرَّ عليها أساتذة عظام أبرزهم الدكتور زكى نجيب محمود، وقد توقفت فى أوائل سبعينيات القرن الماضى، لتعاود الصدور من جديد عام 2013. صدر لمصطفى النشار أكثر من 75 كتابًا وقد تنبأ فى كتاباته بكثير من المشكلات التى نعانى منها اليوم فى منطقتنا العربية، حيث برز اسمه كأحد أهم أساتذة الفلسفة المعاصرين، وتولى العديد من المناصب، كان منها رئاسته لقسم الفلسفة بجامعة القاهرة لمدة ثمانى سنوات. كما ساهم أيضًا فى إصدار مجلات علمية متخصصة، هذا بجانب رئاسته الحالية لمجلس إدارة الجمعية الفلسفية المصرية. أعاد النشار قراءة الفلسفة اليونانية من منظور شرقي، مؤكدًا جذورها المصرية، وهو ما تجلى فى كتاباته مثل: «المعجزة اليونانية بين الحقيقة والخيال»، و«نحو تأريخ جديد للفلسفة القديمة»، وسلسلة مجلداته «تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقى»، حيث أبرز دور ومكانة مصر فى الفكر الفلسفى من خلال مؤلفاته التى تناولت الفلسفة فى مصر القديمة. هنا نحاور النشار حول إبداعاته وكتاباته ورؤيته لمستقبل مجلة «الفكر المعاصر». ما كواليس اختيارك لرئاسة تحرير مجلة «الفكر المعصر».. وما خططك لها؟ فى العام الماضى أراد الدكتور أحمد بهى الدين الرئيس السابق لهيئة الكتاب، تكليفى برئاسة تحرير المجلة لكن الظروف لم تكن مناسبة، وعندما خلفه الدكتور خالد أبو الليل، طلب منى الأمر ذاته، لكننى اشترطتُ عليه أن يعطينى فرصة للقيام بتغيير أعضاء الهيئة الاستشارية للمجلة، بهدف تجديد الأفكار، إذ إن معظم الأعضاء السابقين لم يكن تخصصهم يتماشى مع الخط الفكرى للمجلة. منهم مثلًا أساتذة فى الأدب، والعلوم، وهى تخصصات أحترمها، لكننى كنت حريصًا على أن تكون الهيئة المعاونة من المتخصصين فى الفلسفة ممن يتمتعون أيضًا بملكة الكتابة، حتى أضمن مزيدًا من القراء والمتابعين، وقد أردت بذلك أن أصل بهذا التشكيل إلى المستوى الذى كان يقدمه الدكتور زكى نجيب محمود والدكتور فؤاد زكريا، فعندما توليا مسئولية الإشراف على المجلة كانت تخاطب المتخصص والمثقف العام على حد سواء، وهذا ما أريد تحقيقه. أنت متابع جيد للمجلة منذ صدورها فى مارس 1965 وحتى الآن.. ما أبرز التحفظات التى كانت لديك تجاه المجلة؟ أنها تحولت بمرور الوقت إلى مجلة بحثية، الشاهد على ذلك أنك تجدين فى العدد باحثا يكتب عن موضوع واحد 70 صفحة من أصل 220. لكن ما يشغلنى الآن هو ضرورة الكتابة عن الفكر العالمى والعربى المعاصر، بجانب ضرورة التعرض للفكر الراهن عالميًا وقوميًا أيضًا، كذلك يجب تعريف الأجيال الجديدة بأعلام الفكر المصرى والعربى الراحلين، هؤلاء الذين شكلوًا جانبًا كبيرًا من نهضة مصر الحديثة؛ لذلك شاغلى الأكبر هو الكتابة فى موضوعات تخص اللحظة الراهنة. ما الذى طلبته من هيئة التحرير الجديدة؟ أردت منهم المزج بين الفكر العالمى والقومى فى المحاور التى تتضمنها أعداد المجلة، لأننا نعيش عهد التلاقى الحضارى لا الصراع الحضارى -أو هكذا ننظر إلى الأمور- هدفنا ليس عرض الأفكار المستوردة فقط بل عرض أفكارنا - أيضا – وحين نعرض الرؤى والنظريات الغربية، نعرضها بالمنظور النقدى بهدف تنشيط العقلية النقدية الغائبة عنَّا. ومتى سيصدر العدد الأول لك؟ تم الاتفاق على صدور العدد الجديد بالتوازى مع معرض الكتاب؛ أى يناير المقبل. مؤخرًا صدرت الترجمة الروسية لكتابك «الفكر الفلسفى فى مصر القديمة».. هل تعتقد أن الفلسفة خرجت من مصر أم اليونان؟ الفلسفة خرجت من مصر، ومن يقرأ الكتاب يكتشف أن الفلسفة إبداع مصرى اصطلاحًا ومضمونًا والكتاب فى مجمله رد على من يروجون لفكرة المعجزة اليونانية فى نشأة الفلسفة، وقد أثبتُ فيه أنه لم ترد أية فكرة فلسفية لدى فلاسفة اليونان الأوائل فى القرن السادس قبل الميلاد إلا ولها أصل مصرى، نجد مثلًا أن الماعت والتى تعد جوهر الفلسفة المصرية، وهى الكلمة التى يكمن فيها حقيقة سر أسرار عظمة وثبات وقوة واستمرار الفاعلية الحضارية لأكثر من أربعة آلاف سنة وظلت متصلة طوال هذه الفترة؛ أى قبل الميلاد. أما الماعت فهى تعنى فى رأى رواد التاريخ والفكر المصرى القديم «العدالة والنظام»، وقد تأسس المجتمع المدنى المصرى منذ بداية التاريخ على فكرة العقد الاجتماعى غير المكتوب بين الحكام والمحكومين؛ أى من خلال تحقيق مفهوم العدالة والنظام، والعدالة هنا مفهوم له أبعاده الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية أيضًا، وإذا ما اقترن تحقيق العدالة، بتوفير النظام والأمن للجميع، صرنا أمام المجتمع المثالى، هذا المجتمع هو ما حلم به المفكرون والمعلمون عبر العصور، ولا يزال هو الحلم الذى يراودنا حتى الآن. وفى الوقت الحالى يتم ترجمة الكتاب إلى اللغة الإيطالية، وأتمنى أن يترجم لكل لغات العالم، كونه يؤصل للفكر الفلسفى فى مصر القديمة، وكى يدرك العالم أننا صنَّاع الحضارة ومؤسسو الفكر القديم ورواده الأوائل، وأمة يملك أفرادها كل هذا التاريخ لا يمكن بطبيعة الحال أن تموت، ولا يمكن لحضارتها أن تفنى أو تتوارى. هل يوجد ما يسمى بفلسفة المستقبل؟ هذا هو دور الفلسفة بالأساس، فى كتابى «مدخل إلى فلسفة المستقبل»، وكذلك كتاب «الأورجانون العربى للمستقبل» قلت إننا ونحن نعيش مشكلات العصر وصراعاته، أحوج ما نكون إلى ما يشبه الأورجانون؛ أى الوسيلة التى ترسم لنا خارطة طريق للتفاعل مع تحديات الواقع وأزماته، هذه الوسيلة توجهنا إلى الكيفية التى نعمل بها ونتعامل لتحقيق المستوى الأفضل. فى الجزء الأول من كتاب «الأورجانون» أتناول فى البحث ما يسمى بفلسفة المستقبل، وقد قسمت الزمان إلى ثلاث فترات: ماضٍ، حاضر، مستقبل. ونحن - عادة - فى عالمنا العربى أسرى الماضى والحاضر، وليس لدينا أى اهتمام بالمستقبل وهذا ما يميز الغرب عنا، فهم يهتمون بلحظات الزمان الثلاث، حيث إن فلسفة المستقبل، عبارة عن قراءة للحظة الثالثة من لحظات الزمان. لهذا فالتخطيط للمستقبل ضرورة لحل مشاكل الحاضر. الحاضر الذى هو ابن المستقبل، ولو كنا نهتم بالدراسات المستقبلية، ما حدث لنا الآن هذا الجمود والمشكلات التى نعانى منها اليوم. وقد حذرت من ذلك فى وقت سابق، وحتى ما قبل شيوع ما نسميه بالعولمة، فقد أصدرت حينها كتابًا بعنوان: «ضد العولمة» وفيه حذرت من هذه الظاهرة، وقلت إن المقصود بالعولمة، غربنة العالم، وأمركته، وعندما تلقينا ضربات العولمة، تنبأت بفترة ما بعد العولمة، فى كتاب صدر بعنوان: «قراءة فى مستقبل التفاعل الحضارى»، الذى صدر عام 2003؛ لذلك نحن نعيش اليوم هذه الأمور فى عام 2025، ففى فلسفة المستقبل نستبق المشاكل والأحداث فيمكن التخطيط لحلها والنجاة منها، فالنهضة الأوروبية كلها قامت على كتاب «الأورجانون الجديد» لفرانس بيكون، وعلى غراره أصدرت الأورجانون العربى، وفيه أوضحت أن لدينا عشرة عوائق للنهوض، أولها غياب الاهتمام بالبحث العلمى، والعلماء وآخرها تدنى مكانة العلم والعلماء، وقد حددت خمسة أسس للنهوض، أولها ضرورة تأسيس نظام تعليمى جديد نابع من الخبرات المصرية والعربية، وضرورة نهضة البحث العلمى. هذا بجانب تجديد الخطاب الدينى بما تمليه علينا مطالب العصر ومستجداته والأهم من وجهة نظرى هو قيام اتحاد عربى وتحويل الجامعة العربية من مؤسسة هامشية لا قيمة ولا قرار لها إلى منظمة إقليمية تنسق بالفعل وليس القول، أى من خلال العمل العربى المشترك، كأن يكون لدينا وزير تعليم عربى، وآخر للثقافة، والاقتصاد، والدفاع، وهذا يتطلب وجود مجلس وزراء عربى تنفيذى على غرار اتحاد الإمارات العربية المتحدة. هل يجب أن نتخوف من الذكاء الاصطناعى، وهل يدفع الفلسفة للموت؟ علينا ألا نخاف من الذكاء الاصطناعى ما يجب أن نخاف منه هو أن يتلقى أبناؤنا لهذه المخترعات الجديدة بعقلية سطحية، لو امتلك أولادنا عقلية نقدية منطقية فلسفية لنجحوا فى التمييز بين الصواب والخطأ، ولنجحوا أيضًا فى الإبداع من خلال هذه المخترعات. هناك مطالبات بإلغاء مواد الفلسفة من المراحل التعليمية.. كيف ترى هذه الدعوات؟ لا أتفق معها بطبيعة الحال، لأن الفلسفة هى علم بناء العقل، ومن هنا كانت مطالبتى منذ فترة بتدريس الفلسفة للأطفال بداية من المرحلة الابتدائية، فالفلسفة عبارة عن مهارات التفكير العقلى، وهذه المهارات تحوم حول الحوار والنقد والشك، ولو جرى تدريب الإنسان على هذه المهارات، فلن يكون تلقيه لأى شىء بشكل سلبى، وإنما سيتعامل مع هذه المستجدات بعقلية إيجابية قادرة على التمييز بين الصواب والخطأ، وقادرة أيضًا على الإبداع فى أى مجال من المجالات، فالإنترنت فضاء شاسع، تكثر فيه الأفكار، ويمكن استخدامه لإثارتها والخلط فى مضامينها كعلاقة الدين بالسياسة. هل يمكن اعتبار ذلك ازدواجية معايير؟ لأكون واضحًا، الدين دين، والسياسة سياسة، وهذا التناحر يأتى من كوننا لا نربى أبناءنا تربية عقلية حقيقية، بمعنى أن الإنسان كائن عاقل يستطيع أن يبدى رأيه، ويحترم الرأى الآخر، وإذا مرنا أنفسنا على ذلك فجميع مشاكلنا سيتم حلها. فالفلسفة تعلمنا الحوار، والحوار يوصلنا نحو الحقيقة، والحقيقة ذاتها هى حمالة أوجه، لهذا لا يمكن فرض العقيدة التى أؤمن بها على الآخرين. أما بخصوص مشاكلنا فمشكلتنا أننا ليس لدينا عقلية نقدية، نحن نتشكل حسب ما يريده لنّا الآخر، ورفضنا لهذه القابلية يأتى من تربية الشخصية الوطنية المستقلة، وبناء اقتصاد حر قوى يعتمد على مواردنا الذاتية، واستغلال كل إمكاناتنا البشرية، ومصر والعالم العربى بطبيعة الحال ليسا أقل من أوروبا فى الإمكانات البشرية والخبرات، لكن للأسف فإمكاناتهما البشرية مهملة ولا يتم استغلالها على النحو الأكمل.