على غير عادته هذه المرة، وكأن ثمة أمراً يود أن يعرف مبتدأه ومنتهاه، لم تتغير شهيته المفتوحة للدخان، كان يدخن بشراهة، عامان من الغربة لم يؤثرا فيه إلا قليلاً، فقط بعض التوتر ورعشة خفيفة أصابت يده عند الانفعال، كنت أعلم ماهية الأمر الذى يود أن يفتتحه، بين جمع الرفاق على المقهى كان يتظاهر برغبته فى إنهاء الجلسة، كان يريدهم أن يتفرقوا، أن نبقى سوياً أنا وهو فقط، أخرج من حقيبة جلدية علبة من العطر الفاخر أهداها لمحمود علوانى الذى كان يجلس بين مقعدى ومقعده، ثم دس يده مرة أخرى فى جيب الحقيبة فأخرج منها علبة دواء طبى مرسوم عليها نمر آسيوى وبضع كلمات هندية، أعطاها للسيد الرشيدى الذى خطفها خلسة ووراها بعيداً فى سرعة خاطفة عن الأعين، وأخيراً دس يده فى الحقيبة مرة ثالثة، وأخرج منها جهاز تابلت وأعطاه لعبدالعزيز درويش وقال له: «هذا لابنك»، ثم مد يده لجيبه فأخرج علبة سجائر ماركة ديفيدوف ووضعها للحضور. كانت العطايا هى مؤشر لمحاولة ادعاء البعض ضرورة الانصراف بحجة أنه اليوم الأول لقدوم هاشم من السفر وأن عليه أن يستريح لذا يجب ان ينصرفوا، تسحب الجمع واحداً واحداً. خلا الميدان الإبراهيمى من الناس إلا قليلاً يهجعون، وآخرون يتوسدون نتفاً من الكرتون، وسيدة تمدد قدميها وقد غلبها سلطان النوم على جدار المسجد وصاحبه. أخرجنى هاشم من استدارة رأسى محاولاً تأمل المعالم البشرية الخاملة، قال: غريب أمر ميدان سيدى إبراهيم الدسوقى، أظنه معلماً إنسانياً وجغرافياً يقبل باللاجئين بلا تأشيرة أو ختم خروج وعودة أو خفر لسواحله أو حرساً لحدوده». نظرت إليه محاولاً تفهم ما يود أن يقوله، لكنى لم أحب أن أقطعه، فأنا على يقين بما يود أن يتحدث فيه لكنه استكمل :«غريب أمر هذا الولى الصالح، يقولون إنه كان موسوى المقام، ولقب بأبى العينين عين الشريعة وعين الحقيقة، وعلى تلاميذه أن يستمعوا لتعاليمه فى أدب». وجه هاشم نظره لعينى مباشرة كأنما لا يريد أن يمنحنى فرصة الهروب هذه المرة :«هل التقيتها ؟!». ابتسمت ثم سحبت سيجارة من علبته التى أتى بها من بلاد النفط، وأجبته : نعم، باتت ملامحها ذابلة، بعض الخمرة فى بشرتها أيضاً صارت قريبة من الاصفرار، صبغت وجهها كثيراً بمساحيق التجميل، لتوارى ألم روحها، كنت ألاحظها كثيراً وهى خارجة من بيت والدتها فى طريقها للعمل، كانت تقود سيارتها خلف نظارة شمسية كبيرة كأنما لا تريد لأحد أن يعرفها، بعض المشكلات تفاقمت مع زوجها، كانت تقطعها بالمكوث مع أمها، ثم السهر فى الميدان هنا، كانت تلتصق بالضريح ووقت صلاة العشاء كنت ألحظها ولم أرد أن أفزعها بحضورى، كنت أنهى الفريضة وأمضى مكتفياً أن أصافحها بعينى». سحب هاشم نفساً عميقاً من سيجارته، كان يتأملنى كأنما يستصرخنى بأن أتحدث بكل شيء، طيلة عامين عليه أن يعرف كل شيء عنها، الحل الأوحد كان لرحيل كليهما عن بعضهما، تجمعا سوياً، ثم افترقا لتتزوج من رفيق عمل فى المحاماة وأصبح مديراً لمكتب كبار الساسة فى الوطن، بينما هو بات مطارداً غير منتو على أمر أو هوية، ثم انفصلت هى عن زوجها لأيام، كانت كفيلة بأن تعيد الماضى بكل جبروته وجموحه، ليكون الميدان الابراهيمى هنا شاهد على تجدد اللقاء والذكرى . صرخ هاشم : ألم تنتو بى الرحمة وتتكلم ؟ انفعلت وأنا أجيبه : «وبما تريد أن أخبرك، هل أخبرك بالمشهد الأخير يوم سفرك، وقت أن ذهبت لزيارتها محاولاً إقناعها بضرورة العودة لزوجها حفاظا على لم شمل الأسرة، عندما مثلت دورالمصلح النفسى وأنى سآتى بالمأذون ليرد الطلقة التى وقعت، هل ستسعد إذا أخبرتك بكل تفصيلة فى المشهد؟». قال هاشم بصوت يتحشرج :«تكلم واحك لى». كانت مثل وردة تأبى الروح أن تفارقها، اصطحبت المأذون معى، وبمجرد أن شاهدتنى جرت جهة دورة المياه، سمعنا صوت زجاج يتحطم، دخلت أمها عليها، دفعتها هى وخرجت بثوب خفيف، فمنحتها سترتى، فدفعتنى وجرت، رمت هاتفها فى وجهى وجرت، كنت ألاحق خطواتها وهى تسير حافية، قدماها تنزف، تجاه الميدان جرت، ثم تعلقت بأول أوتوبيس التقاها، هنا ضاعت من أمامى، ابتلعها اتوبيس النقل العام، ومشى بعيداً كأنما يصحبها لعالم آخر، التفت خلفى فكانت أختها الصغيرة، تربت على كتفى وتخبرنى أنها تركت فى جيب سترتى هاتف أمها، وأنها ستحاول أن تتواصل معها بعد دقائق، كانت المحاولات الأولى من اتصال أختها عليها تأتى خائبة، وفى المرة العاشرة، رد على الهاتف سائق الأوتوبيس يخبرنا أنها فى حالة مزرية تردد باسمك :«انت فين يا هاشم». كنت قاسياً يا هاشم، كنت قاسياً، حتى فى فراقك لها كنت قاسياً . كان هاشم وقت سردى شارداً لجهة أخرى من الميدان، ضم يده إلى صدره، وثمة عراك يدور بذاك الصدر .التفت إلى وقال :«أريد أن التقيها». رددت حاسماً وحازماً :«دعها لحياتها يا هاشم، أهذا ما وعدت به سيدك ابراهيم الدسوقى». سألنى : والمسبحة الخشبية التى أهديتها لها، هل تزال معها ؟ أجبته :«لا تفارق سيارتها، فى كل مرة أتلصص على سيارتها فأجدها معلقة فى المرآة الداخلية». هى لا تزال تحبك يا هاشم، لكن لا يجب أن تراها ولا تحادثها، دعها لحياتها الماضية والجديدة، ما زلت تبحث عن هويتك عزيزى . شرد هاشم ببصره بعيداً كأنما يستدعى صوراً من الماضى. «كان صوت ماجدة الرومى صادحاً، أمنيتها الوحيدة أن نرقص سوياً، خطواتها تتناثر بخفة، يدها إلى يدى، ورائحة أنفاسها تكب فى صدرى برداً وأمناً وسلاماً، شبيهة بطفلة تمرح، على صوت ماجدة الرومى وصياحها كانت تبتسم وتعانقنى وترسم قبلة على وجهى ...«أحتاج إليك وأهرب منك» تنطق ماجدة الأحرف وهى تتفحصنى بعينها، اقترب من جسدها وقد امتلأ جسدى بالصراخ وطلب الروى، تستيقظ هى من غفوتها، تقول فى نبرة إيلاف: «هاااشم» أنا خائفة . أسألها : مم تخافى ...فتبكى . أمد يدى فى جيبى فأجد مسبحتى التى أعطاها لى الدرويش داخل ضريح سيدى إبراهيم الدسوقى، ألف المسبحة حول رقبتها فتنطفئ داخلى كل مشاعل الرغبة الآدمية ثم أطبع قبلة على رأسها وأسحب يدها ونمضى جهة الميدان». بعد أيام سبعة من العودة للوطن . رن الهاتف. جاء اسمها مباغتاً .انسابت روحى مع أحرف الاسم كأننى أبث شوقاً مكتوماً خفياً خافتاً صامتاً، لكنى جبنت على الرد . رن الهاتف ثانية كان الاسم هذى المرة يحمل عطرها المخملى، ولمسة يدها وطفولتها أثناء قيادتها للسيارة وكنت جوارها لكنى لم اقدر وجبنت ثانية على الرد. رن الهاتف مرة ثالثة...حمل هذه المرة صيحة مؤلمة لعينها وقت البكاء ..شتاتها .ثباتها .جسارتها وقت الإقدام على خطوة الرحيل، لكنه كلما رن ...كان رنينه بمثابة خربشة على جلد الذاكرة وأظفار تخمش بالزمن فتبعثره ثم تعيد لملمته.. وفى كل مرة أجبن على الرد.