فنجان واحد من القهوة لم يعد كافياً، بطيئة ساعات الليلة، كئيب حراكها، صوت طفلى يأتى بشهيقه وزفيره مرتفعاً فى الداخل، يقطعه ليذكرنى بأننى أم، هناك التزامات وجب على القيام بها، الليل وصوت ابنى وتلك الحيرة، التساؤلات التائهة باحثة عن جواب، ذلك الجواب الذى تأخر قدومه، وربما ضل طريقه إلى عنوانى وهويتى. لم أكن أعرف طعم القهوة، أكتفى وقت الاستيقاظ بمسحوق سريع من الكافيين المغلّف، ببساطة أضع محتوياته فى الكوب وأصب عليه الماء ثم أتناوله، وكما هو سريع الذوبان فإن احتساءه يكون متسارعاً أيضاً، فى اليوم الثانى من لقائى به طلب فنجان قهوة وتأملنى ليخبر النادل بصينيته النحاس عن مشروبى الذى أفضله، ترددت فى الطلب، وشاركته مشروبه، أخبرته بأننى أريد قهوة، تفحص عينى كاسراً كل الأسوار ثم قال:أنت لا تشربين القهوة، وكى لا تكون مُرة الطعم سأطلب لك قهوة بحبيبات سكر زائدة. اثنتان وسبعون ساعة فقط، هى مخاض اللقاء ولحظة بدء التلقى، وانطلاقة التبدل والتحول، يعقبها عشرون عاماً، لفتاة بضفيرتين، الفتاة صاخبة داخل الشارع المتفرع من الميدان الكبير والمسمى داخل مدينتى ميدان سيدى إبراهيم الدسوقى، الفتاة تلك، أذكر من ملامحها الآن بعض التجلى الذى يروح ويجىء، فتاة تلهو، تقفز مع فتيات آخرى داخل لعبة الأولى «تلقى بالحجر المصغر، ثم تحجل بقدمها. بينما هو كان يمر ترقبه بجلال، عينه مبتهجة ومبتسمة لنا، الفتاة تتحجج للأمان تذهب بمصاحبة الكتاب لذلك الأستاذ لعلها تنهض ببعض المعرفة على يديه، تجلس أمامه على مقعد السفرة، بعد أن تستقبلها زوجته التى تحبه بابتسامة ودودة بعض الشىء، تسرح الفتاة مع معلمها فى شرحه، يدخل بها إلى عالم التاريخ الإنسانى يحدثها عن البطالمة ومجدهم، وكليوباترا وصراعها، ذلك الوله المتأجج بين العاشقة والتعيس أنطونيو وغريمه اكتفايوس. عشرون عاماً مرت من عمر الفتاة، كانت ارتحلت هى وأسرتها عن الشارع والميدان الإبراهيمى، عقب وفاة الأب، أبى، الذى كان له نصيب من اسمه، صابر، فكان من نصيبه فى دنيانا هو الصبر، الصبر على تلك الزوجة، وحلم الظفر بغلام، إلا أن الغلام لم يأت حتى لو تكررت محاولات رى الأرض لسبع مرات متتالية، فكان من نصيبه الإناث، سبع من البنات، هى حصيلة ذلك الأب. كان أبى يحدثنا عنه، الأستاذ عبدالمعز، المعلم بمدرسة الأحمدية الثانوية، كنت أتلصص على أبى وقت قدوم الأستاذ إلينا، يحتفى به، يقدم له القهوة بيده، يخبرنا بعد أن يودع أبى ويمضى أن الأستاذ عبدالمعز رجل غريب عن عالمنا، ما زال يحب عبدالناصر ويعلق صورته فى غرفة نومه، مغرم بكتب التاريخ ومناصرة الطلاب الفقراء. ارتحلنا عن الشارع وعن الجيران وكل الذكريات القديمة، وقتها كانت الطفلة لم تزل فى عامها العاشر، عشرون عاماً مضت، كان للبنات نصيب من الحياة، عبر زوج وعيال وأطفال، وصارت لكل فتاة أضحت أماً دائرة خاصة بها، زوجها ومحيطها، بينما أمى عقب الرحيل متنقلة بين فتياتها، لا تزال تدور فى ساقية تلبية الطلبات حتى بعد أن صارت لكل فتاة دوامة تلف وحدها فيها. لا أذكر على وجه التحديد سوى لحظة الغروب، مع صوت أذان المغرب، أنا وأمى نسير، عائدين من العاصمة إلى مدينتنا القديمة، دسوق، قالت أمى إنها ترغب أن تذهب إلى الشارع والميدان الإبراهيمى، تتوق إلى بيتها القديم، تبحث عن بعض الأوراق، ترغب أن تزور صاحب التمساح، والكرامة الشهيرة لولى الله الذى يتوسط الميدان، كنا صغاراً نسمع منها هذه الحكاية دون أن يعترينا اهتمام، كنا نقول أمى تروى لنا الأساطير، لكنها ذات مرة وهى تحكى، قلت لها: هذه أساطير فغضبت أمى قالت:«سيدى إبراهيم الدسوقى خلقه ضيق وهو لا يتحمل ولا يرضى أن يسخر أحد من سيرته»، فكنا نلتزم بالصمت، كنا نسترضيها نذهب بها للمقام تقرأ الفاتحة وتوزع النابت والخبز على بعض الفقراء ثم تمضى، فى هذا اليوم الذى لا أجهله، كنت أتوسد يد أمى سائرين، تنتقل أعيننا إلى مشاهد البنايات والمعالم التى تبدلت، الذين رحلوا، إشارات بالترحاب من رجل أو آخر أو سيدة لتلك الوافدة ابنة المدينة، ثم وجدنا الأستاذ عبدالمعز، أمامنا، فصافحته أمى بحرارة بالغة، هو أيضًا كان مفعماً بالحنين للماضى والحاج صابر رحمه الله، تأملنى لدقيقة، قال لى:«انت من؟».... هل أنت بسمة أم تقى؟.. وقتها لم أغير عينى عن اقتحام عينه، راودنى شعور بالغضب بتناسى ذاكرته لى، قلت له: «أكثر من عشرين عاماً يا أستاذ لكن ذاكرتك لهذه الدرجة لم تتذكرنى؟ ردت أمى محاولة كسر حدة الموقف وسوء الأدب مع المعلم بقولها، دى بنتك اللمضة «سميرة»، خبط المعلم على جبهته، قال:«سميرة.... الأيام جريت بسرعة وبدلت ملامح كتيرة فيك.. انت سميرة صاحبة الشعر الأصفر، قلت له:«أعطنى رقم هاتفك يجب أن نلتقى»، هنا نظرت أمى إلىّ متحيرة من طلبى، لكنى احتفظت برقمه وانصرفت، ثمة شىء يشدنى للبقاء فى المدينة أجاور الميدان والولى صاحب كرامة التمساح والطفل والأم. رغبة استبدت بى جعلتنى أهاتف أختى الكبرى، أخبرها بأن تحتفظ بطفلى معها، عللت السبب برغبة فى الانتظار هنا، بين أثاث البيت القديم، أفتش عن رائحة والدى، رغبتى أن أبقى وحيدة بعض الوقت، رحلت أمى إلى حيث تسكن هى، وجدتنى أهاتفه، أطلب منه القدوم إلى بيتنا القديم، لم أمهله التفكير أو السؤال عن هوية المتواجدين معى، أخبرته بأننى أنتظره وأحضرت له سبرتاية للقهوة وبن، ولم أكن قد أحضرت، هنا يتوقف الزمن، أسمع خطوة على درج بيتنا القديم، الأستاذ يخطو جهة الباب يدق دقة فكأنما تهتز كل خلايا الجسد، التقانى عقب فتحى للباب، لم أتحدث سوى بكلمة أهلاً ووجدتنى غائبة فى عناق، عناق بلون وطعم وهوية مختلفة، حاول جاهداً فك الأذرع حول رقبته، التقت شفاهنا فى صمت، كمن يتلمس طريقاً للبراح، ذابت أعصابنا، نقّبت بأنفى فى رقبته، جاهدة أتشمم رائحته، معالم التبغ المصبوغ بعرقه، يدى تسرح على خصلات من الشعر الأبيض التى استشرت برأسه، قاوم حصارى، تباعد بخصره عنى، أمسكته من يده، ثم أجلسته على مقعد الأنتريه القديم، لم أتحدث، كنت أتأمله كأنما أسعى لارتشاف القهوة كما يرتشفها هو، لكنه هرب، هرب تجاه باب بيتنا متحججاً بأنه نسى طلباً يود إحضاره. ومضى. لم يمر هذا اليوم مروراً هادئاً، مضى هو وتركنى أسترجع كل التفاصيل، بينما رائحة عرقه مصبوغة بعنقى. طاردته باتصالى، رنينى الملح أطلب منه اللقاء لأمر عاجل، أخبرته بحضورى للمقهى المجاور للميدان، جلست أمامه، يهرب بعينه، يومى الثانى معه على المقهى، امتد اللقاء لساعات، أخبرنى عن الكرامة التى حكتها أمى لى وحقيقتها، أن سيدة ابتلع التمساح ابنها، فهرعت إلى صاحب المقام الذى نحن نجاوره، سيدى إبراهيم الدسوقى، طلبت النجدة من الرجل الذى يتمتم على سبحته ويذكر الله باسمه الأعظم، رق الشيخ لقلب الأم، صاحبها للنهر، نادى على معشر التماسيح وطلب منهم أن يخبروه من ابتلع الغلام، فقال تمساح أنا يا سيدى، فأمره بسر اسم الله الأعظم أن يلفظه فلفظه بإذن الله. كنت أستمع للحكاية كأنى أسمعها للمرة الأولى، رغم تكرار أمى لها، كنت أندهش من تلك التركيبة. شربت قهوتى الأولى فى هذا اليوم وقد أدمنت القهوة، أخبرنى بأنه بلغ الخمسين من عمره، أن الإنسان فى الخمسين يرى الدنيا بمنظور آخر ومختلف، حدثنى عن زوجته وحبيبته، وفى كل كلمة يلقيها الأستاذ كنت أسترق السمع لنبرته وشجنه. ومضى اليوم الأول والثانى وجاء الثالث يحمل معه شوقاً لكل ما مضى من يومين يضاف لهما عشرون عاماً مضت حيث سيطر الأستاذ على كل تفصيلة... فهل هذا هو الحب أيها المحرر؟!.. وكيف يمكن أن تسير الحياة وكل التفاصيل تحاصرنى، بينما الوقت متوقف ورعايتى لطفلى متوقفة فى انتظار طلته. إلى قراء باب بريد الوفد.. ولأن الحكمة ثقيلة على أن يحملها شخص واحد، فاسمحوا لى بأن أبدل الأدوار وأجلس معكم فى صفوف القراء، منتظراً مثلما تنتظر صاحبة الرسالة رداً منكم.