محافظ أسيوط : المعلم هو أساس بناء الإنسان وصانع الأمل في مستقبل الوطن    بتكلفة 34 مليون جنيه.. محافظ الغربية يفتتح مدرسة الفرستق الإبتدائية    بدء أعمال لجنة الكشف الطبي للمتقدمين لعضوية مجلس النواب بسوهاج    رئيس اقتصادية قناة السويس يشهد توقيع عقد مشروع شركة للتكنولوجيا الطبية    توقيع بروتوكول تعاون بين "صندوق الإسكان الاجتماعي ودعم التمويل العقاري" و"بنك نكست"    وزير العمل و "هواوي مصر" يبحثان التحول الرقمي و تنظيم ملتقى توظيفي    11 شهيدًا في قصف إسرائيلي على غزة.. وتصعيد عسكري رغم الدعوات الأمريكية    الحكومة السودانية: استهداف الدعم السريع «الأبيض» بالمسيرات انتهاك خطير    القاهرة تعوّل على اجتماع الإثنين لتنفيذ خطة ترامب وإنهاء الحرب في غزة    بعد تسليم نفسه.. رحلة فضل شاكر المتأرجحة بين العنف والغناء    بعد الفوز كهرباء الإسماعيلية.. الأهلي راحة «3 أيام»    موعد مباراة برشلونة أمام إشبيلية في الدوري الإسباني.. والقنوات الناقلة    تشواميني: ألعب في أفضل فريق بالعالم منذ 4 سنوات وأتمنى الاستمرار    محافظة الجيزة ترفع الاشغالات بطريق المريوطية واللبيني بحي الهرم    محافظ المنوفية يلتقى المتضررين جراء ارتفاع منسوب مياه النيل لحل مشاكلهم    ضياء الميرغني يتلقى التكريم متكئًا على زملائه.. ويكشف عن معاناته    بيومي فؤاد ينضم لأبطال مسلسل من أول وجديد بطولة عمرو سعد    أمين المجلس الأعلى للجامعات يشارك في احتفالية اليوم العالمي لسلامة المريض    انخفاض طفيف بأسعار الأسماك في أسواق المنيا وسط تذبذب في بعض الأصناف اليوم الأحد 5 أكتوبر 2025    الأهلي: الشحات لا ينتظر حديث أي شخص.. وهذه كواليس تألقه في القمة    3 عقبات تعرقل إقالة يانيك فيريرا المدير الفني للزمالك .. تعرف عليها    "الجمهور زهق".. أحمد شوبير يشن هجوم ناري على الزمالك    وزيرة البيئة تبحث مع محافظ الفيوم الموقف التنفيذي للمشروعات التنموية والخدمية    جرّوها من شعرها وفعلوا بها كل ما يمكن تخيله.. كيف عذّبت إسرائيل الناشطة جريتا ثونبرج بعد احتجازها؟    وفد من الوزارة لمناقشة ما يخص مدارس التعليم الفني لتطوير البرامج الدراسية    طفل يقود سيارة برعونة في الجيزة.. والأمن يضبط الواقعة ووالده المقاول    اللجنة المصرية بغزة: المخيم التاسع لإيواء النازحين يعد الأكبر على مستوى القطاع    الأوقاف تعقد 673 مجلسا فقهيا حول أحكام التعدي اللفظي والبدني والتحرش    قصور الثقافة في الأقصر وأسوان وقنا والبحر الأحمر تحتفل بذكرى نصر أكتوبر المجيد    مواقيت الصلاة اليوم السبت 4-10-2025 في محافظة الشرقية    هل قصّ الأظافر ينقض الوضوء؟.. أمين الفتوى يوضح الحكم الشرعي    واعظة بالأوقاف توضح كيفية التعامل مع «مشكلة الخيانة الزوجية»    سعر صرف العملة الخضراء.. أسعار الدولار مقابل الجنيه اليوم الأحد 5-10-2025    تشكيل مانشستر سيتي المتوقع أمام بيرنتفورد.. غياب مرموش    فاتن حمامة تهتم بالصورة وسعاد حسني بالتعبير.. سامح سليم يكشف سر النجمات أمام الكاميرا    بعد توليه رئاسة تحرير مجلة «الفكر المعاصر»: د. مصطفى النشار: أقتفى خطى زكى نجيب محمود    نجوم المشروع الوطني للقراءة يضيئون معرض دمنهور الثامن للكتاب    نائب وزير الصحة يشيد بخدمات «جراحات اليوم الواحد» وموقع مستشفى دمياط التخصصي    بالتعاون مع «الصحة».. مطار القاهرة الدولي يطلق خدمة لتعزيز الجاهزية الطبية    موعد مباراة يوفنتوس ضد ميلان والقناة الناقلة    أسعار مواد البناء اليوم الأحد 5 أكتوبر 2025    الخميس المقبل إجازة للعاملين بالقطاع الخاص بمناسبة ذكرى 6 أكتوبر    «تعليم القاهرة» تهنئ المعلمين في اليوم العالمى للمعلم    بدء أول انتخابات لاختيار أعضاء مجلس الشعب في سوريا منذ سقوط نظام الأسد    تركت رسالة وانتحرت.. التصريح بدفن عروس أنهت حياتها بالفيوم    إصابة 9 فتيات في حادث تصادم بطريق بني سويف – الفيوم    تاجيل طعن إبراهيم سعيد لجلسة 19 أكتوبر    مسئول فلسطيني: إسرائيل تصادق على مخطط استيطاني جديد شرق قلقيلية    رئيس مجلس الأعمال المصرى الكندى يلتقى بالوفد السودانى لبحث فرص الاستثمار    عودة إصدار مجلة القصر لكلية طب قصر العيني    صحة الأقصر... بدء حملة التطعيم المدرسي للعام الدراسي 2024 / 2025    أيقونات نصر أكتوبر    136 يومًا تفصلنا عن رمضان 2026.. أول أيام الشهر الكريم فلكيًا الخميس 19 فبراير    "فيها إيه يعني" يكتسح السينمات.. وماجد الكدواني يتصدر الإيرادات ويحقق 14 مليون جنيه في 4 أيام فقط    اليوم.. محاكمة 5 متهمين في قضية «خلية النزهة الإرهابية» أمام جنايات أمن الدولة    السيسي يضع إكليل الزهور على قبري ناصر والسادات    أذكار النوم اليومية: كيف تحمي المسلم وتمنحه السكينة النفسية والجسدية    أبواب جديدة ستفتح لك.. حظ برج الدلو اليوم 5 أكتوبر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على خط النار :يوميات حرب أكتوبر
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 05 - 10 - 2025


رأيتهم يستسلمون.. جيش مهزوم
رؤوسهم منكسة.. وعيونهم زائغة
قال أحد المقاتلين لحظة بدء إجراءات تسليم الموقع الإسرائيلى المنيع على الضفة الشرقية للقناة.. بسقوط هذا الموقع يكون أقوى التحصينات الإسرائيلية قد سقط فى أيدى قواتنا.
صمت قليلاً وقال: إنه لم يشاهد موقعاً قوياً حصيناً مثل هذا.. وتتجه أنظار المقاتلين إلى الشرق، حيث يبدو الموقع الإسرائيلى وكأنه جبل صغير فوق الأرض، كل مقاتل ينظر فى شراسة بالضبط كشراسة القتال الذى دار بين جنودنا والعدو المحتمى خلف هذه الجدران الصلبة.
قارب صغير يعبر القناة، يرفع علم الصليب الأحمر، انفجارات مدافعنا تسمع هنا آتية من الشرق، لقد اتخذت قواتنا احتياطيات عديدة، جنودنا يحاصرون الموقع من جميع الجهات، أو بتعبير أحد المقاتلين: إنهم يركبونه.
رجل الصليب الأحمر يصل إلى حافة الموقع، يرافقه بعض جنودنا، يظهر فردان من أفراد العدو، ثم عدد آخر من قمة الدشمة، كأن الأرض تلفظهم بعد أن ضاقت بهم، يتحدثون قليلاً، مع ممثلى الصليب الأحمر وينزلان القارب، وعلى مهل يعود إلى الضفة الغربية حيث رجالنا، إن الأرض لاتزال تلفظ أعداداً أخرى من أفراد العدو، ويقول أحد المقاتلين:
- عندما بدأ هجومنا يوم السبت الماضى كان عندهم زيارة، ولهذا يوجد عدد كبير بالداخل، هذه هى اللحظات الأخيرة بعدها يفك أسر الأرض الحبيسة منذ ست سنوات، إن كل مقاتل يقف هنا ينظر إلى الموقع، يتذكر أحد زملائه الذين جرحوا أو الذين استشهدوا فى الهجوم عليه، هذه اللحظات التى يتم خلالها الآن عملية التسليم دفعت دماء غالية ثمناً لها، إن الرجال يتجمعون غير عابئين بطيران العدو، وخلال الدقائق التى استغرقها الحديث بين فردى العدو وقائد التشكيل المصرى ورجل الصليب الأحمر، كانت الانفعالات تدفع العديد من الصور وحوادث البطولة.
أحد المقاتلين من أبناء صعيد مصر، بعد أعوام طويلة أضمر فيها الثأر، اندفع يهاجم هذا الموقع، كانت المقاومة عنيدة وقاسية، كانت التحصينات القوية تساعد العدو على التمركز خلفها والبقاء أطول وقت ممكن أمسك المقاتل الأسمر قنبلة بيده، صاح تحت وابل الرصاص:
- أنا جاى لك..
اندفع فى مدخل الخندق، رمى القنبلة فى اتجاه أحد المزاغل التى كانت تطلق النيران على زملائه واستشهد المقاتل بعد أن أسكت أحد مواقع العدو.
أحد القادة، عندما بدأ الهجوم اندفع إلى الأمام شاهراً سلاحه:
- اتبعونى.
هكذا صاح، كما يصيح كل ضباطنا اليوم فى الجبهة إذ يتقدمون الهجوم لو أصيب أحد جنوده بجرح، يحمله فوق كتفه بنفسه ويذهب به إلى نقطة الاسعاف، كان هذا القائد الشاب إذا علم أن جندياً من جنوده جرح أو أصيب إصابة طفيفة، يضم قبضته، يضرب الحجر بحنق، ويوجه سلاحه إلى نقطة العدو هذا القائد الشاب يقف الآن، يرقب إجراءات التسليم، لقد انهمرت الدماء والتضحيات، كان يمكن للجنود اقتحام الموقع وإبادة من فيه، ولكن مادام قائده طلب الاستسلام عن طريق الصليب الأحمر، فلابد من هذه الإجراءات التى تتم الآن مقاتل مصرى الملامح جداً، الآن سيُرفع العلم المصرى فوق النقطة القوية، ولكن هذه المرة إلى الأبد.. يقول المقاتل:
- إننى مستعد للاشتباك معهم ليلاً ونهاراً، ولقد نفدت ذخيرتى وأتمنى لو أن جسمى طلقة يوجهها زملائى من خلال مدفع يشير أحد المقاتلين إلى أفراد العدو الذين تجمدوا الآن كالقطيع فوق النقطة القوية، هؤلاء الجبناء لم يقابلنا واحد منهم بوجهه أبداً.. يقول مقاتل آخر:
-هذه النقطة القوية من أشد التحصينات تعقيداً.. انظر كم من الأفراد كان يقيم فيها، أكثر من أربعين فرداً، كل هؤلاء استسلموا وأظهروا الجبن، هل تتصور حجم هذه النقطة، إنها أشبه بمستعمرة صغيرة، لو أن ثلاثة أفراد فقط منا داخل نقطة كهذه لما استسلموا قط إلا فى حالة واحدة.. الموت.
الأسرى سبعة وثلاثون فرداً، منكسوا الرؤوس، عيونهم زائغة، ممزقو الثياب، ملامحهم غريبة، خليط متناقض، منهم القادم من أمريكا، وبولندا، وأوروبا، وجنوب إفريقيا، خليط كالعصابة، كأنهم قطيع أغنام يتلاصقون بجوار بعضهم البعض، يطلبون فى شراهة الماء والسجائر، وتقدم إليهم السجائر والمياه، هنا تتجسد صورتان متناقضتان تماماً، حضارة عمرها سبعة آلاف سنة تدافع عن نفسها ضد مجموعة من الشراذم، إن جنودنا يرون فيهم أشباه آدميين بعد أن خرجوا من وراء الجدران القوية والصلب والمدافع والدبابات، حاخامهم يحتضن كيساً أحمر اللون عليه رسم لنجمة داود، جنودنا يحملون خمسة جرحى، يدفعون بهم إلى سيارات الإسعاف التى تنقلهم بسرعة إلى المستشفى.. أحد الجرحى يرتدى زيه المدنى تحت ردائه العسكرى، قميص أحمر ملون، جورب، برتقالى، صندل، بلاستيك، أزياء الباقين مختلطة أيضاً، أحد الأسرى يقفز متلهفًا ليلتقف سيجارة ألقيت له، هذا جيش مهزوم، تحطم أسطورة، هذه النفاية الآدمية التى يبالغ كل واحد فيها فى إظهار آيات الذلة والمسكنة بعينيه وعلى تعابير وجهه فى الجيش الذى لا يقهر!! مصورو الصحافة العالمية يلتقطون الصور للأسرى.. وسترى حركة بين المقاتلين.. كل تشكيل مقاتل من قواتنا المسلحة يحمل معه علم مصر، وفى لحظة التحرير يتولى قائد الموقع رفع العلم بنفسه، إن قوة من المقاتلين تتجه فوق الموقع إلى أعلى نقطة، مشهد لا يمكن أن يتكرر إلا فى حروب التحرير الوطنية طابور من الرجال، طابور من الجهد والعرق والتدريبات القاسية، والمعاناة من هجمات الطيران، والجراح، والعزم، والإصرار، والحقد على العدو، والليالى المشتعلة بالنيران، طابور يتقدمه قائد التشكيل، يرفع العلم خفاقاً، يسرى شعور ملتهب بين المقاتلين، آه، لكم يود كل مقاتل لو عاش زميله أو صاحبه الذى استشهد دفاعاً عن كل ما يمثله هذا العلم ليرى تلك اللحظة، الرجال يحفرون الأرض يثبتون الصارى، تلتهب الصدور، فوق نقطة ملاحظة عالية يتجمع العديد من المقاتلين حول العلم يلتفون، ظهروا فوق الأرض، التأثر يدفع الدمع إلى العيون، الصيحات ترجف الأرض، والفراغ ومياه القناة والصخر، تتصاعد إلى أعماق السماء والتاريخ.
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. تحيا مصر.. تحيا مصر.. تحيا مصر.. يرفع قائد التشكيل يده بالتحية العسكرية، الحناجر لا تهدأ: الله أكبر.. تحيا مصر.. تبادلوا العناق، الوطن كله هنا فوق الموقع الذى حرر، دباباتنا تبدو من هنا مندفعة فى اتجاه الشرق، تدق الممرات بعد أن حررت لحظة رفع العلم فوق المواقع، تتجاوز كل شىء، تصل الحلم بالواقع، تقصى الخوف وهدير الطائرات والانفجارات وخطة الموت، وفداحة الثمن، وليالى القتال، الحناجر تردد، والصوت لم يهدأ: الله أكبر.. الله أكبر.. تحيا مصر، ثم تتوحد الأصوات فى نشيد جماعى مهيب، الأسرى كالجرذان يرتجفون، النشيد يعلو: بلادى بلادى بلادى.. لك حبى وفؤادى.
بينما يخفق العلم راسخاً صلباً، وكانت الساعة تشير إلى الواحدة والنصف من ظهر اليوم السابع لحرب أكتوبر.
قواتنا تواصل.. زحفها إلى الشرق
فى بداية اليوم الأول، من الأسبوع الثانى للحرب، وعند أول ضوء، انطلقت آلاف القذائف فى قصف عنيف مروع وضار ضد مواقع العدو، فى الوقت نفسه تحركت قواتنا المدرعة متقدمة فى إطار خطة هجوم شامل على امتداد الجبهة كلها أن مقاتلينا وهم يتقدمون فى حربنا التحريرية، يواجهون العدو ويخوضون ضده قتالاً شرساً، تطاحناً رهيباً، يبدو هذا من دوى الانفجارات التى تتردد طوال النهار والليل، انفجارات دانات المدفعية، الطيران، الدبابات، كافة أنواع الأسلحة، وبعد بدءالهجوم الشامل أمس، يمكن القول إن المرحلة الثانية من حرب التحرير قد بدأت.
فبعد أن حققت قواتنا أعظم إعجاز عسكرى فى التاريخ الحربى الحديث، وهو عبور أصعب مانع مائى فى العالم، وقهر خط بارليف الحصين، إثر قتال ضار وحشى، ثم توغلت فى صحراء سيناء، هاهى قواتنا لاتزال تمسك بزمام المبادرة فتشن هجوماً شاملاً.
لقد أقام العدو خط دفاعه الثانى مستنداً إلى مجموعة من العوامل، أهمها وعورة الأرض، وصعوبة المنطقة التى تتخللها الممرات، والتى تنبسط بعدها صحراء سيناء، وهذا ما استهدفه الهجوم العظيم الذى بدأ أمس من فوق إحدى نقاط الملاحظة المرتفعة، فى أحد المواقع بالقطاع الجنوبى فوق أرض سيناء، إلى الشرق تمتد الصحراء المجدبة الوعرة، مسرح عمليات قواتنا المسلحة بعد عبورها القناة، أشار أحد المقاتلين إلى سحابات الغبار، قال:
- هذه دباباتنا ومدرعاتنا تتجه إلى الأمام.
كانت القوات تتدفق وتتجمع وتعيد تشكيل أوضاعها القتالية بعد أن صدت على امتداد أسبوع كامل، ودمرت للعدو عدداً كبيراً من المدرعات، وأسقطت له عدداً كبيراً من الطائرات، محققة بذلك المبدأ العسكرى القائل، إنه من المهم التركيز على تدمير قوات العدو، كأهم عامل لابد من تحقيقه فى الدبابة، ثم تأتى عملية احتلال الأراضى بعد ذلك، إن هذا المبدأ يتخذ أهمية خاصة وأساسية فى حرب الصحراء، حيث لا قيمة لاكتساب الأرض مادامت قوات العدو سليمة، أو بصورة تمكنها من تحقيق بعض النجاح فى هجوم تقوم به، كما أن الحرب فى الصحراء تشبه الحرب فى البحر، حيث حرية الحركة والمناورة وتدمير وإبادة قوات العدو، وهذا ما وضعته قواتنا المسلحة أمامها.
التركيز على تدمير قوات العدو، وإلحاق أكبر قد ممكن من الخسائر فى أفراده ومعداته، وبالفعل تحقق ذلك طوال الأسبوع الأول من القتال، ألوية بأكملها تم تدميرها، أعداد هائلة من الأسرى تساقطوا بين أيدى قواتنا، نسبة القتلى بين جنود العدو مرتفعة جداً، وبشكل يفوق أى تقديرات أو حسابات، وربما كان أصدق دليل على هذا الواقع نفسه فى كل نقطة قوية فى نقاط خط بارليف، كنا ندخلها بعد اقتحام قواتنا لها إثر قتال عنيف وضار، كانت جثث قتلى العدو ملقاة بالعشرات، أعداد هائلة فى كل شبر من سيناء، خسر العدو خسائر فادحة، وهنا يجب أن نعى حقيقة موضوعية ومهمة وهى حجم التضحيات العظيم والرائع الذى قدمته قواتنا المسلحة خلال القتال الضارى والعنيف الذى يدور حتى الآن، وفى بداية الأسبوع الثانى للقتال، وفى أول ضوء بدأت قواتنا المسلحة هجومها الشامل على امتداد جبهة القتال.. بدأت قواتنا المسلحة هجومها الشامل.
إن المدرعات المصرية تتقدم إلى الشرق لتحرير أرضنا الأسيرة عبر جسور من الدم والتضحيات والفداء، لقد أقام العدو خط دفاعه الثانى مستنداً إلى الممرات الضيقة، إلى مفاتيح سيناء - كما يسميها العسكريون- وهنا لابد من توضيح طبيعة الأرض التى تزحف فوقها دباباتنا هادرة الآن التى تغطيها الانفجارات.
إن سيناء تنقسم جغرافياً إلى ثلاثة أقسام:
المنطقة الشمالية (السهل الساحلى) وتشمل السهل الساحلى الممتد من بورسعيد غرباً إلى رفح شرقاً، وتنتشر فى المنطقة ما بين القنطرة شرق ورفح مجموعة ضخمة من الكثبان الرملية، يتراوح عرضها بين 8 و24 كيلومتراً، ويخترق هذه المنطقة من الغرب إلى الشرق الطريق الشمالى، يبدأ من القنطرة ويصل حتى العريش ورفح وغزة.
المنطقة الوسطى من شبه الجزيرة، أو القطاع الأوسط كما نسمع عنه فى البيانات العسكرية.. والأرض هنا حجرية وعرة جرداء، يتراوح ارتفاعها بين 500 و1000 و1850 متراً عن سطح البحر، وهذه المنطقة فقيرة فى المياه، ويخترقها طريق رئيسى- الطريق الأوسط- يبدأ من شرق الإسماعيلية ويصل حتى أبوعجيلة،ويتفرع منه عند الكيلو 16 طريقاً آخر يوصل إلى الحسنة، أيضاً يتصل بعدة طرق أخرى تتصل بالعريش والقسيمة والعوجة.
المنطقة الجنوبية، أو القطاع الجنوبى: ونجد هنا منطقة جبلية وعرة، الصخور نارية، والانحدار وعر، وتصل بعض قمم الجبال إلى ارتفاع 5637 متراً عن سطح البحر، ويخترق هذه الجبال طريق طويل يبدأ من الشط حتى المدخل الغربى لممر متلا ويعتبر ممر متلا أهم المضايق فى هذه المنطقة، إذ يوجد عدد آخر من المضايق ولكن متلا أهمها على الإطلاق وعلى امتداد شبه جزيرة سيناء التى تبلغ مساحتها 61 ألف كيلو متر مربع، يوجد عدد أخر من المضايق، كمضيق الجدى، وجرادة، وغيرهما.. هذه الطبيعة الوحشية للأرض الوعرة، تتعدد الممرات التى يصعب فيها الحركة، كل هذا حاول العدو استغلاله فأقام المواقع الحصينة والمستعمرات التى تعتبر نقاطاً لتعويق الهجوم ولكن يظل لممر متلا أهمية خاصة.
فوق سيناء.. تواصل قواتنا تقدمها فى قتال شرس وضار.. فى كل يوم تتآكل أجزاء جديدة من قوات العدو، بينما يزداد رجالنا صلابة وإصراراً على التقدم إلى الشمال، وكما قال أحد المقاتلين:
- نتمنى أن تطول الحرب حتى تطول فرحتنا.. لو حققنا نصراً خاطفاً سريعاً فلن يكون إحساسنا به كما تشعر الآن إذ تجرى المعارك وفقاً لخطط موضوعية غير متعجلة، وكل يوم يأتى إلينا بالمزيد من الانتصارات وفى كل يوم تتضاعف فرصتنا.
إن المقاتلين وهم يمتلئون بالثقة، يمضون إلى قتال العدو بروح معنوية عالية، يشنون عليه هجومهم الشامل واثقين أن الله معهم، وأن النصر يتحقق ويكتمل يوماً بعد يوم وكأنه صورة رائعة يتكشف منها كل يوم جزء واثقين فى قيادتهم والإحساس السليم لدى قادتهم.
كل هذا يحولهم إلى مقاتلين عظام لم تعرف الحروب مثيلاً لهم من قبل، هؤلاء الذين قهروا أقوى الخطوط الدفاعية فى تاريخ الحروب، خط بارليف، وحطموا أسطورة الجيش الذى لا يُقهر، المزود بأحدث الأسلحة الأمريكية.
هؤلاء الرجال: أبناء مصر، قادرون على قهر أعتى الحصون، وأمتن القلاع، مهما استندت إلى ممرات جبلية وعرة، أو قامت على حافة حاجز مائى صعب.
مع الرجال .. الذين يحاربون فوق سيناء
هناك حقيقة موضوعية تتجسد هنا فوق أرض سيناء، فى كل لحظة بين هدير الانفجارات وتناثر الشظايا حقيقة لابد أن تظل ماثلة فى وعينا، كلما استمعنا إلى بيان عسكرى يزف إلينا بشرى جديدة للنصر هذه الحقيقة، أن كل شبر تتقدمه قواتنا المسلحة إلى الشرق كل خطوة جديدة تحرر جزءًا من أرضنا المحتلة، كل دورة لجنزير دبابة أو عربة مدرعة تقربنا من يوم النصر النهائى كل هذا لا يتم إلا بالدم.. يدفع ثمنه دماً.
هنا فوق أرض سيناء لا يبخل الرجال بالتضحية بأعمارهم، أحلى الأعمار، هنا يجود زهرة شباب مصر بأثمن ما لديهم، كل معركة تجرى هنا تشهد حوادث ترقى إلى مستوى المعجزات، هنا يقدم الرجال كل شىء من أجل مصر.
أحد المواقع التى يتمركز فيها جنودنا، مجموعة من خلاصة شباب الأمة، اللقاء هنا له سمات خاصة، الانفجارات تتوالى فى اتجاه الشرق، الأسلحة مشرعة فى الأيدى، والتعاون يتم بسرعة، بعد ثوان من وصولى إلى الموقع، أشعر وكأن علاقتى بكل منهم تعود إلى أعوام عديدة، أعوام طوال بعمق تاريخ مصر وأصالة مصر وعظمة مصر، هم جاءوا من كل البلاد والقرى، من الصعيد، الوجه البحرى، جاءوا هنا من أجل مصر، لا يقول أحد هذا، ولكن المعنى مجسد.. هنا تحت الخطر، فى مواجهة عدو بلادنا تنمو أنقى وأشرف العلاقات، إن الحماس عال، وروح التضحية فى قمتها، أمامنا موقع إسرائيلى على وشك الاستسلام بعد حصار طويل، وألمح أحد المقاتلين، أتعرف إلى ملامحه بسرعة.
المقاتل عبدالوهاب...
قسمات وجهه هادئة عام 1969، اشترك فى الاغارة على أحد المواقع الحصينة بخط بارليف، ورفع العلم المصرى لأول مرة وقتئذ، وفى بداية هذا الأسبوع شاهد المقاتل عبدالوهاب العلم المصرى يرتفع فوق نفس الموقع، يرتفع إلى الأبد، إن وجهه الهادئ يعكس الروح الحضارية العميقة للإنسان المصرى، بانى الحضارة، يبني، ويبدع، يخلق أرقى الفنون، يعطى الحياة ويدعمها ويؤكد استمرارها هذا ما يقوله الوجه الهادئ الملامح للمقاتل عبدالوهاب، الحاصل على دبلوم المدارس الثانوية الزراعية لكننا نعرف من زملائه المقاتلين، أنه أشرس مما نتصور، وأنه لحظات الهجوم يندفع فى مقدمة المقاتلين، وأنه يرفض نزول الاجازة الميدانية القصيرة، لا يريد أن يغيب ثانية واحدة عن ميدان القتال، إن شراسته فى القتال تعكس أيضا جانباً من جوانب شخصية الإنسان المصرى، إن بانى الحضارة فى لحظات الخطر يتحول إلى أشرف المقاتلين للدفاع عنها، إن العداء للعدو تجده لدى المقاتل عبدالوهاب وزملائه، عداء شخصياً رهيباً، هذا العدو يهدد مصر.
وما هى مصر؟
إنها باختصار، عمله الذى يكفل له الرزق، إنها أبوه الذى وصل إلى أعتاب الشيخوخة، إنها البيت الذى يؤويه، إنها شقيقته التى يدافع عن عرضها، أنها الأمل فى حياة هنيئة وادعة، بها ما يكفيه من الرزق، إنها غطاء يستره، وأرض يحتمى بها، وتطلع إلى مستقبل آمن لأولاده.
هذه هى مصر التى يفتديها أنبل من فينا اليوم بدمائهم، وعندما تصبح مصر مهددة، عندما يصبح هذا كله مهدداً من عدو بربرى، يريد أن يدمر الحياة عندئذ يصبح عبدالوهاب مقاتلاً شرساً، عنيداً، لا يخاف الرصاص ولا الشظايا، ولا الطيران المعادى، لا يخاف الموت نفسه وهكذا يقهر عدو مصر.
الأبطال يذكرون الآن أحدهم، هو لا يجلس بيننا، فقد ضحى بنفسه، حديثهم عنه فيه اعجاب وفخر وتقديس..
- كان أحد مواقع العدو يقاوم مقاومة عنيفة، كان يوجد أحد المزاغل فى نهاية خندق ينطلق منه مدفع رشاش.. كان سيل الطلقات لا ينقطع، كان يشكل عائقاً فى وجه القوة المهاجمة.. وفى الليل المزروع بالشظايا والانفجارات فى الليل المصبوغ سواره بالدم، قام المقاتل شكرى، أمسك قنبلة بيده.. وصاح متحدياً الموت والخطر..
أنا جاى لك..
ورآه المقاتلون ينزل الخندق بسرعة.. ويلقى بالقنبلة فى مدخل المزغل، وسكت المدفع، تقدم رجالنا بعد أن مهد لهم شكرى الطريق بحياته ذاتها ويبدو الحدث عنه مليئاً بالفخر والإعجاب، تختلط به رنة أسى، فالموت صعب، ولكن العزاء فى أنه استشهد راضياً، وترك المثل - فى حديث المقاتلين عنه يبدو الفخر، تذكرك اللهجة بملحمة أدهم الشرقاوى، أو أبطال الأزهر الذين تحدوا نابليون.. وجنود أحمس الذين حرروا مصر من الهكسوس، وتركوا نقوش الكتابة تحدثناً عنهم حتى الآن.. ولا غرابة فى هذا ..
أليس هؤلاء أحفادهم؟!
المقاتل محمد..
إذ يظهر فى مكان ينشر الضحكات، إن ملامحه مصرية تماماً، وفى روحه يتجسد أحد مكونات الشخصية المصرية.. المرح والسخرية، هذا العامل الذى يخفف الصعاب، المقاتل محمد يعرف سيناء كما يعرف راحة يده، لقد قضى شهوراً طويلة خلف خطوط العدو، وهنا أتوقف قليلاً لأقول حقيقة مهمة.
كان رجالنا طوال السنوات الماضية يتواجدون دائماً فى سيناء، خلف خطوط العدو، يرصدون تحركاته، يرقبون قواته، كانت مصر تمد الجزء الجريح منها - سيناء - بالرجال، إن المقاتل محمد يذكر العدو من المأموريات التى اشترك فيها داخل سيناء، نفس اللهجة المرحة لا تفارقه عندما يتحدث، إنه يتحدث عن أحد الأسرى.
- كان طويلاً وعريضاً.. أول ما مسكناه لقيناه يهودى اشكينازى، من أول لحظة كان مستموت خالص، ومافيهوش أى جرح ولا خدش.. الواحد سأل نفسه.. بقى هو ده جيش إسرائيل الذى لا يقهر؟!
يسكت المقاتل محمد قليلاً ويقول:
- لغاية دلوقتى ماقابلناش أى واحد منهم بوشه أبداً.. طول ما هو فى دشمة، أو فى دبابة، ورا ساتر يحارب ويضرب.. إنما ساعة ما تقرب منه، ساعة ما تواجهه تبص تلاقيه زى الفأر.. أنا أقسم لك، إنه لو ثلاثة مننا جوا دشمة زى اللى قدامك دى لا يمكن نستسلم أبداً.
ويشير المقاتل محمد إلى إحدى دشم خط بارليف.
- زى ما أنت شايف الدشمة شىء مهول..
أرى الآن المقاتل محمد النحيل، أسمر الوجه الشهير بين زملائه المقاتلين ب - بوند - لما يتميز به من حب للمخاطرة وجسارة، أراه الآن بعينى عقلى فوق نقطة ما بأرض سيناء، أراه مغيراً على أحد أهداف العدو، أراه يقتحم موقعاً حصيناً، أراه يزود عنى، وعنكم الخطر، وربما يدفع حياته، ومرحه، وحيويته، لكى أعيش أنا وتعيشوا أنتم.. هب يا ابن جيلى محمد.. أود أن نلتقى مرة ثانية فى موقع متقدم جداً جداً عن المكان الذى كنا نتحدث فيه أما الآن فأسمح لى أن أنحنى لك.. حتى تلامس جبهتى الأرض.
لا أذكر اسم المقاتل الذى أتحدث عنه الآن، ليس لأننى نسيت اسمه، ولكن لأننا لم نتعارف بذكر الأسماء كالعادة، لقد تحدثنا طويلاً عن المعارك الدائرة، وحدثنى عن وظيفته وحدثنى عن طفله الذى يبلغ الآن من عمره عاماً واحداً واسمه عاطف، يسكن المطرية، سألنى عن أحوال الناس فى الجبهة الداخلية، كل زملائه سألونى أيضا ولكن هذا المقاتل الذى أذكر ملامحه جيداً، شعرت برهبة خاصة، أنه أحد الرجال الذين يعملون الآن خلف خطوط العدو، إنه واحد من أبناء مصر الذين يزرعون صحراء سيناء بالرعب ليحيلوا حياة العدو إلى جحيم إنه أحد الرجال الذين يخلقون الآن شكلاً جديداً لحرب الأغوار، حيث يعمل المقاتلون فى الصحراء الوعرة الموحشة إن المقاتل الذى أحدثكم عنه انسان مصرى بسيط، أب يمكنكم أن تقابلوه يوماً فى الطريق، العشرات مثله يركبون المواصلات، وينزلون لشراء حاجيات أولادهم، يقلقون عليهم إذا تأخروا خارج البيت، ويدخرون المال ليكفلوا التعليم لهم، ولكن عندما يأتى الخطر، فإنهم يندفعون لملاقاته عانقت هذا المقاتل وجسدى يرتجف من الانفعال، كان يمضى إلى الحبيبة سيناء، وكنت لا أستطيع مشاركته إلا بالخيال، والأمنيات.
المقاتل عبده..
معاون إحدى المدارس بكفر الدوار، أسمر الوجه كتلة مشتعلة من الحماس، والرغبة فى التحدى، الانطباع الأول لدى رؤيته أنك أمام مقاتل شرس، جرئ حدثنى المقاتل عبده، وحدثنى زملاؤه عن قائدهم، فى حديثهم عنه اعجاب لا يخفى، إنه يعرفهم يعرف كل منهم ومشاكلهم الخاصة، وفى القتال يتقدمهم، وإذ يبلغه نبأ اصابة أحدهم يعض شفته السفلى غيظاً وحنقاً.. إن علاقته بهم مزيج من علاقة القائد برجاله، والأخ بأشقائه والصديق بأصدقائه.
هذا نموذج واضح للقيادة اليوم فى جيش مصر، القادة بين جنودهم.. القادة فى خطوط القتال الأولى، فى المقدمة، إن قادتنا الآن يحققون كل الصفات المثالية للقائد، يقول مونتجمرى، إن المعارك تكسب فى قلوب الرجال أولاً، ويقول روميل، إن مكان القائد فى مقدمة الصفوف ليس فى الخلف.
منذ عامين عندما نشبت الحرب بين الهندس وباكستان، طالعتنا الصحف بعناوين تنقل إلينا أخبار الحرب هناك وشد انتباهى عنوان: «القوات الهندية تطبق على دكا من ثلاث جهات» تمنيت وقتئذ لو قرأت فى صحفنا «القوات المصرية تطبق على القوات الإسرائيلية من ثلاث جهات» طاردنى حلم يقظة مرير.. ولم يمض الكثير، وأتيح لى أن أرى بقايا جيش إسرائيل، لقد أطبقت عليه قواتنا من كل الجهات، أن أرى دباباته محترقة، وجنوده أسرى، ومواقعه مباحة لنا، إننى أرى الآن يومًا قريباً، يجىء، أرى فيه زعيم الأمة أنور السادات يستعرض قواتنا عشية النصر النهائى الكبير، تلقى عند أقدامه أعلام الجيش الإسرائيلى المحترقة، تخفق، تسمع منه خطاب النصر، عندئذ تتم ولادتنا من جديد، تتغير ملامحنا ذاتها.
ليس هذا حلمًا، إنما هو أمر متناول التحقيق القريب بإذن الله، فرجالنا، أبناء مصر ألغوا المسافة بين الحلم والواقع، غسلوا بالدم الغالى هزيمة عابرة لم تستغرق إلا ست سنوات من تاريخنا الممتد سبعة آلاف من السنين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.