لم أتمالك نفسي وأنا أقف أمام مثوى الشهداء في مخيم شاتيلا الفلسطيني في بيروت من الغرق في الحزن، واغرورقت عيناي في الدموع على من سقطوا ظلما برصاص الأعداء و"الأشقاء الأشقياء"، وكأن الفلسطيني على موعد دائم مع الموت أينما ذهب. حينما دلفت إلى مخيم شاتيلا برفقة الشيخ بسام كايد رئيس رابطة علماء فلسطين ورئيس جمعية الإصلاح الخيرية والأستاذ علي هويدي المدير العام لمنظمة ثابت لحق العودة والدكتور إبراهيم شرقية الباحث في معهد بروكنغز، لم أكن أتخيل أنني سأكون في مواجهة هذا الكم من البؤس والفقر والحرمان وسوء الحال، فلا الشوارع شوارع ولا الأزقة أزقة ولا الأبنية أبنية، فهنا تسيطر "الأشباه" على الأشياء.. شبه شوارع وشبه أزقة وشبه أبنية وشبه مساكن وشبه دكاكين.. باختصار "شبه حياة" حيث لا حياة، وحيث تحولت أشباه المساكن إلى قبور فوق الأرض لساكنيها لتجعل منهم أمواتا على ذمة الحياة فوق الأرض يجاورون الأموات تحتها، فهو المكان الوحيد في العالم الذي يجبر فيه الأحياء والأموات على السكن معا.. يتعايشون مع بعضهم البعض وكأنهم يتسامرون على إيقاع حياة فقدت معناها فأصبحت هي والموت وجهان لعملة واحدة. في حضرة الموت تنسل الروح من الجسد وتتشظى حزنا على أشقائها الذين ذهبوا غيلة وغدرا، وعلى الذين قتلوا دون أن يعرفوا السبب، الذين قتلوا ثم قتلوا ثم قتلوا، وكأن قدر الفلسطيني أن يموت أكثر من مرة، وكأن "الأشقاء الأشقياء" والأعداء يريدون أن يتأكدوا أن هذا الفلسطيني لن يعود إلى الحياة ثانية، لعلهم يشكون بقدرة الموت على سلب أرواحهم البريئة، ولذلك يعيدون جلب الموت في كؤوسهم ليسقوه مرا علقما لكائن اسمه "فلسطيني" المرة تلو المرة. لم يكن سبتمبر صبرا وشاتيلا مثل كل الشهور، فقد كان شهرا داميا سالت فيه انهار من الدماء في أزقة المخيم الضيقة، وتراكمت الجثث في كل مكان أو اللامكان، وأزهقت الأرواح في كمائن الموت التي نصبتها مليشيات القوات اللبنانية المسيحية وجيش الاحتلال الإسرائيلي اليهودي، في تصرفات همجية وحشية بربرية عكست أسوأ ما في الإنسان من غرائز.. غريزة القتل والإبادة التي تشهد عليها الأزقة والأبنية المتهالكة التي ثقبها الرصاص وكست الدماء جدرانها.. هذه الأبنية التي لا تزال شاهدة على "شهوة" الدم لدى القتلة الذي أوغلوا في الدم الفلسطيني البريء. ثلاثة آلاف وخمسمائة شهيد فلسطيني ارتقوا إلى ملكوت الله، لا يزال دمهم يفور تحت التراب يطالبون بالثار والقصاص، يطالبون بحقهم المسلوب في الحياة، ويسألون العالم لماذا لم يسألون عنهم، ويعبرون عن غضبهم من إهمال العرب والفصائل الفلسطينية لدمهم المهدور، ويصرخون لماذا تضيع دماءهم هدرا؟ حين وقفت في حضرة الموت لم أتبين أنني في مقبرة جماعية.. فسألت: أين الموتى؟ أين الشهداء؟ أين قبور من سفك القتلة المجرمون دماءهم؟ لم يكن المكان مقبرة بالمعنى الحرفي للكلمة، ولم تكتسي مهابة الموت، كانت ساحة صغيرة في وسط المخيم كسا أرضها التراب وعلت الكآبة سورها القديم.. لم يكن في المكان سوى قبر واحد انزوى بعيدا وكأنه يخجل من نفسه أو ممن تحته من أموات.. وكأنه لا يقبع فوق جثث شهداء قضوا بحراب الوحوش.. كان قبرا واحدا عليه شاهد صغير حمل عبارة "شهداء صبرا وشاتيلا 1982"، وفوقه بعض الورود الذابلة وعلى الجانبين لوحة كبيرة تحمل صورا قديمة من المجزرة لوحتها الشمس فبهتت الصور وكأنها تبكي، وعلى الجدار الآخر رسومات تقول: هنا يسكن ضحايا المجزرة.. هذه هي مساكن الشهداء الذين لا يسأل عنهم أحد. ليس بعيدا من ساحة ضحايا الموت "الإسرائيلي – الماروني"، كان هناك ساحة أخرى لضحايا حركة أمل الشيعية التي أذاقت الفلسطينيين من كأس المنايا في حصارها للمخيمات.. ذلك الحصار الذي طلب فيه سكان المخيمات فتوى بأكل لحم القطط والكلاب من الجوع.. في مبنى صغير وسط المخيم دلفنا إلى قاعة صغيرة الحجم حيث دفن 650 شهيدا من ضحايا حركة أمل، دفنوهم فوق بعضهم بعضا.. لم أتمالك نفسي فبكيت وشعرت بالدموع تحرق عيني وخدي وتحفران عميقا في أعماق روحي، فهؤلاء هم ضحايا مجزرة "الشقيق"، وكم شقي الفلسطيني بأشقائه، من سبتمبر الأسود الأردني إلى سبتمبر الأسود اللبناني.. من أحراش جرش إلى تل الزعتر ومن صبرا وشاتيلا إلى نهر البارد. كم هو ساخن الدم الفلسطيني في شاتيلا وصبرا رغم مرور السنوات.. ما زال يغلي تحت التراب.. أما الأحياء في "قبور الأحياء" فوق التراب فلهم قصة أخرى تستحق أن تروى. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية