«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«صبرا وشاتيلا» بعد خمسة وعشرين عاماً
نشر في محيط يوم 12 - 09 - 2007


«صبرا وشاتيلا» بعد خمسة وعشرين عاماً
بيان نويهض الحوت
ضحايا المجازر لا يُقتلون، فقط، يوم يُقتلون، تلك هي المرة الأولى؛ إنهم يُقتلون في كل مرة تعجز فيها الأصوات الحرة عن الجهر بالحق والحقيقة، وعن إدانة القتلة.. وتلك هي المأساة الكبرى، مأساة الضحايا الأحياء، الذين يحملون في ذاكرتهم، وفي وجدانهم، وفي عيونهم، رسالة ضحاياهم الراحلين.
مجزرة صبرا وشاتيلا ليست واحدة من أبشع مجازر القرن العشرين، فحسب، وليست مجرد رقم على لائحة المجازر الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والعرب؛ سرها في أنها مأساة لم يُسدل الستار عليها بعد، وهو لن يُسدل ما دام الأحياء من أبنائها يعيشون كوابيسها، يتنقلون ويسافرون ويعملون ويتزوجون وينجبون، لكنهم بوعي منهم أو بلا وعي يكتشفون أن مجزرة صبرا وشاتيلا هي التي تقود حياتهم، بعد أن ظنوا أن بعض النجاح هنا أو هناك، أو أن الإقامة في بلد يبعد آلاف الأميال عن أرض المجزرة، قد تنسيهم عذاباتهم؛ هؤلاء هم الضحايا الأحياء.
كانت ساعة البداية في «صبرا وشاتيلا»، مع غروب يوم الخميس في السادس عشر من أيلول/ سبتمبر سنة ,1982 وكانت النهاية إن تكن للمجازر من نهاية الساعة الواحدة في عز الظهيرة من يوم السبت في الثامن عشر من الشهر نفسه. وبلغة الساعات، فالمجزرة امتدت ثلاثاً وأربعين ساعة متواصلة.
كان ليل «صبرا وشاتيلا» قد تحول إلى نهار نتيجة الإنارة الإسرائيلية المتواصلة بالمدفعية وبالطائرات، كما تحول مخيمها وأحياؤها الشعبية إلى «جزيرة» مستباحة لميليشيات «القوات اللبنانية» وغيرها من الأحزاب والميليشيات المؤازرة لها، وقد أحاط بهذه «الجزيرة» جيش الدفاع الإسرائيلي؛ غير أن عناصر هذا الجيش تصرفت وكأنها أشبه بعناصر فرقة مسرحية، تقوم بتنفيذ التعليمات التي تتلقاها صراحة أو ضمناً من المخرج أرييل شارون ومساعده رفائيل إيتان، وملخص التعليمات أن عليها أن تحيط بمسرح شاتيلا من كل جانب وكل منفذ، وعلى سطوح كل بناء مرتفع، وأنه مهما حصل، فهي لا يجدر بها أن ترى، أو تسمع، أو تشهد!
كثيرون من الإسرائيليين المحاصِرين كانوا يعلمون جيداً بما يجري من قتل للعائلات وللصغار وللكبار، ومن عمليات تعذيب وخطف، ومن دفن للأحياء، ومن طمس لمعالم المجزرة بالبولدوزرات.. ومنهم من أرسل التقارير، غير أن التقارير لم تصل إلى القادة العسكريين والسياسيين الكبار الذين يعرفون جيداً أحكام القوانين الدولية، فالمسؤولية الجنائية وفقاً لاتفاقية جنيف الرابعة (1949)، والبروتوكول الأول (1977)، تقع على عاتق المسؤولين المحتلين الذين يثبت أنهم كانوا يعلمون، أو أنهم كانوا يجب أن يعلموا، بأن هناك جرائم كانت ترتكب بشكل منظم، وبأنهم كانت لديهم السلطة للتدخل من أجل منع الممارسات الإجرامية.
من مهازل التاريخ أن يصدق العالم أن قادة الجيش الإسرائيلي لم يكونوا على علم بما يجري، كما ورد في التقرير الإسرائيلي الرسمي (تقرير كاهان)، الصادر في شباط/ فبراير سنة ,1983 وهو التقرير الذي اشتهر بأنه رمز للديموقراطية في إسرائيل!
اليوم.. وبعد خمسة وعشرين عاماً على مجزرة صبرا وشاتيلا لم يحاكَم المجرمون القتلة الذين قاموا بارتكابها من عناصر الميليشيات اللبنانية، كذلك لم يحاكَم أحد من الإسرائيليين الذين قاموا بحماية المجرمين القتلة وتسهيل مهماتهم!! غير أن أصحاب الضمائر الحية، تكلموا. في تاريخ المجازر يتكلم الموت أولاً، ثم يتكلم القتيل، ثم يتكلم القاتل.
وتكلم الموت أولاً.. تكلم طويلاً في مرحلة رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا وأشلاء الضحايا، فمنذ منتصف يوم السبت في الثامن عشر من أيلول/ سبتمبر أصبحت «صبرا وشاتيلا» البقعة الأكثر شهرة في العالم، وراحت وسائل الإعلام العالمية تنقل المشاهد والتفاصيل والشهادات. في تلك الأيام لم يكن في استطاعة أحد أن يمنع أحداً من الكلام أو الصراخ أو البكاء الهستيري، فمرحلة «المنع» و«القمع» تلت مرحلة انفضاض مسرح الجريمة من المراسلين والمصورين الأجانب، مباشرة.
كانت الصور أكثر بلاغة من الكلام، فأبدعت المصورة الأميركية مايا شون، كما أبدع المصور الياباني ريوشي هيروكاوا، وتميز هذان بحرصهما المستمر على عرض صورهما في المعارض والمحافل الدولية حتى يومنا هذا.
أمّا التقارير والمقالات في الصحافة العالمية، فكانت الفصل الأول في سفر المجزرة.
كان من أبرزها مقالات روبرت فيسك، وكارل بوكالا، وتوماس فريدمان، ومارك فاينمان، وراي ولكنسون، وكولن كامبل، ولورين جينكينز، وزئيف شيف؛ أمّا شهادة جان جينيه: «أربع ساعات في شاتيلا»، فتستحق أن يطلق عليها شهادة العصر، لبلاغتها، وفلسفتها، وإنسانيتها، وعمقها، وتحليلها الذي لا يصدر إلاّ عن عقل جبار، ووجدان مرهف؛ هكذا راح يصف الحب والموت وهو يقف أمام ضحية:
«الحب والموت. هاتان الكلمتان سرعان ما تقرن الواحدة بالأخرى كلما كُتبت إحداهما. كان عليّ أن أذهب إلى شاتيلا لأدرك فحش الحب وفحش الموت. في الحالتين ليس لدى الجسد شيء أكثر ليخبئه؛ الأوضاع، التعرجات، الإيماءات، العلامات، حتى الصمت، يخص هذا العالم وذاك.
كان جسد رجل بين الثلاثين والخامسة والثلاثين من العمر ممدداً ووجهه إلى أسفل. كأن الجسد كله لم يكن شيئاً غير مثانة على شكل رجل، انتفخت هكذا من الشمس، ومن التحلل الكيماوي، حتى التصق السروال به بشكل محكم وكأنه سيتشقق عند الردفين والفخذين.
الجزء الوحيد من الوجه الذي تمكنت من أن أراه كان بنفسجياً وأسود. وقليلاً فوق الركبة تستطيع أن ترى جرحاً في الفخذ تحت القماش الممزق. سبب الجرح: حربة، أو مدية، أو خنجر؟ الذباب متجمع على الجرح ومن حوله. رأسه كان أكبر من بطيخة، بطيخة سوداء. سألت عن اسمه؛ كان مسلماً».
من هو؟ «فلسطيني، أجابني رجل في نحو الأربعين من عمره بالفرنسية...».
باللغة العربية، كانت المقالات الموقعة أندر من قطرات الماء في صحراء، لكن هذا لا يلغي أهمية القلائل الذين تصدوا للكتابة وجمع الشهادات، فكان منهم زكي شهاب وليلى شهيد برّادة ومنى سكرية. وفي الذكرى الرابعة للمجزرة يوم كان الصمت يسود لبنان كله، كان إلياس خوري أول من كسر أجواء الصمت على صفحات «السفير».
سرعان ما انتقل «الموت» من عالم المقالات إلى عالم الكتب بلغات متعددة، إذ شهدت الأعوام الأولى غزارة في الإنتاج لم تشهدها الأعوام اللاحقة. فقبل انتهاء سنة 1982 كان أمنون كابليوك أصدر كتابه الصغير «صبرا وشاتيلا: تحقيق حول مجزرة»، وهو من أكثر المراجع دقة؛ وفي السنة التالية أصدر آبي فايسفيلد كتابه «صبرا وشاتيلا: أوشويتز جديدة»؛ أمّا كتاب المحامي الأميركي فرانكلين لامب: «المسؤولية القانونية الدولية عن مجزرة صبرا وشاتيلا»، فأضحى مرجعاً قانونياً بارزاً، كما أضحت الصور التي التقطها لمقر القيادة الإسرائيلية المؤقت وللأمكنة القريبة قبل أن تحدث فيها أية تغييرات، وثيقة دامغة تؤكد معرفة الإسرائيليين بما كان يجري؛ ثم أصدر إيلان هاليفي، سنة ,1984 كتابه «إسرائيل: من المجازر إلى إرهاب الدولة»، ويغني عنوان الكتاب عن شرح مضمونه، وهاليفي هو المتميز بالتحليل الدقيق.
هناك الكثير من الكتب التي احتوى بعض فصولها عن صبرا وشاتيلا، فقبل انتهاء سنة 1982 صدر كتاب جاكوبو تيمرمان «الحرب الأطول: إسرائيل في لبنان»؛ والكاتب روسي يهودي ولادة، وأرجنتيني نشأة، وإسرائيلي موطناً، وكان دفع بكتابه إلى المطبعة قبيل حدوث المجزرة، ثم عاد وأضاف فصلاً أخيراً عنها، تساءل فيه:
«لماذا يعجز الإسرائيليون عن إدراك المستوى الإجرامي العالي في حملة جيشهم ضد الشعب الفلسطيني؟ ... ما هو الشيء الذي حوّلنا إلى مجرمين على هذه الدرجة من الكفاءة؟
«أنا أخشى أننا في لاوعينا الجماعي، ربما نحن لا نرفض بشكل كلي إمكان إبادة الشعب الفلسطيني...».
في العامين الأولين بعد المجزرة كانت أبرز الكتب: «معركة بيروت: لماذا غزت إسرائيل لبنان؟» لميشيل جانسن، و«المثلث الحاسم: الولايات المتحدة، إسرائيل والفلسطينيون» لناعوم تشومسكي، و«المضيّ حتى آخر الطريق: أمراء الحرب المسيحيون، المغامرون الإسرائيليون، والحرب في لبنان» لجوناثان راندال، و«الصراع النهائي: الحرب في لبنان»، لجون بالوك.. وغيرها كثير.
كذلك كانت مرحلة الأعوام الثلاثة الأولى غنية بالمؤتمرات والتحقيقات «القضائية»، وقد عقدت في كل من: نيقوسيا؛ أوسلو؛ أثينا؛ طوكيو؛ وبون. ونشرت الشهادات والتقارير التي قدمت إلى هذه المؤتمرات في مجلدات، وتم تصوير بعضها على شرائط فيديو، كالشهادات التي قدمت إلى اللجنة القضائية المؤلفة من دول اوروبا الشمالية، في أوسلو، وما زالت «محكمة أوسلو» التي عقدت في تشرين الأول/ أكتوبر ,1982 هي الأهم في «أرشيف الغزو الإسرائيلي للبنان ومجزرة صبرا وشاتيلا»، وذلك لاتباعها أدق الأصول في استجواب الشهود.
أمّا أكثر التحقيقات شهرة فكان تحقيق اللجنة الدولية التي أرسلت موفديها إلى لبنان للتحقيق في الانتهاكات الإسرائيلية للقوانين الدولية في اجتياحها للبنان، خلال صيف ,1982 واشتهر تقريرها باسم رئيس اللجنة القاضي ماك برايد، وتميز «تقرير ماك برايد» في إدانته للجانب الإسرائيلي.
أمّا الدور الأكبر فكان لنشرات الأنباء على شاشات التلفزة العالمية حين راح مراسلوها ينقلون إلى العالم أحداث المجزرة المروعة، وما كان مثل هذه الأجواء ليتوفر في مجزرة دير ياسين، ولا في سواها من المجازر السابقة. وهذا ما فتح أعين الصهاينة على أهمية التوثيق المرئي والمسموع بالنسبة إلى «الهولوكوست»؛ فهم، على الرغم من إصدارهم أكثر من كتاب جديد شهرياً عن الهولوكست، وبتواصل، طوال العقود السابقة، فقد باشروا فقط منذ صيف 1982 بتسجيل مقابلات مطولة مع الناجين من الهولوكوست، ومسجلة على أشرطة فيديو، وكانت هذه الأشرطة منطلق «أرشيف الهولوكست» الذي افتتحته جامعة ييل الأميركية، بعد عام.
توقفت الكتابة عن «صبرا وشاتيلا» إلى حدود النسيان بعد ثلاثة أعوام أو أربعة على الأكثر من الحدث المروع؛ غاب زخم المقالات والأفلام الموثقة، وغابت الكتب، ونكاد نقول غابت الأحاديث.
وحدهم أهل صبرا وشاتيلا ما كان ممكناً لهم أن ينسوا ما حدث. كانوا يفضلون النوم في الملاجئ حتى بعد أن عادت بيروت إلى الحياة من غير قصف ولا اعتداءات. استمروا يخافون الأشباح، فالموت جماعة أيسر قليلاً من الموت فرادى.
غير أن الموت ما عاد هو الموت. والحياة ما عادت هي الحياة. كل شيء تغير.
في تلك الأعوام الصعبة الأولى، وبينما كان كل شيء يتغير، كنت أقوم بتدوين شهادات الناجين من المجزرة، من ذوي الضحايا، ومن الشهود، وكانت السلطات العليا تحرّم ذكر كلمة «المجزرة»، لكنه على الرغم من ذلك، بقيت هناك عدة طرق ووسائل لإجراء المقابلات، فأهل المنطقة تعاونوا معي تعاوناً مذهلاً. صحيح أن الكثيرين تكلموا في المرحلة الأولى يوم كانت أشباح الموت، ورائحة الموت، وبولدوزرات الموت، هي الطاغية على مسرح شاتيلا، لكنهم تكلموا في ذهول، ومنهم من كان يصرخ ولا يتكلم. أمَا بعد ذلك، فهم راحوا يتكلمون بألم شديد، لكنه مصحوب بوعي عميق أيضاً. يا إلهي، كم كانوا بأمس الحاجة إلى من يستمع إليهم في زمن القهر.
انتهيت في منتصف الثمانينيات من مشروع التاريخ الشفهي، ومن مشروع الدراسة الميدانية، كذلك انتهيت من جمع ما أمكن من وثائق، وخصوصاً لوائح الأسماء التي كانت من أولى المحرمات. لكنني ما أن انتهيت من ذلك حتى وجدتُ نفسي أكتفي بحفظ الملفات والأشرطة في أكثر من مكان، كي أعود إليها مستقبلاً، أو يعود إليها غيري. كنت أشعر وكأن مهمتي الرئيسية قد انتهت، وهي مهمة التوثيق.
غير أن «صبرا وشاتيلا» بقيتْ إلى جانبي، في أعماقي، في أيامي، وبقيتُ على تواصل مع أم علي، وأم زينب، وأم أحمد، وأم ماجد، وسهام، وخديجة، وأحمد، ومنير. لم تنقطع الزيارات، ولم تتباعد الذكريات. ومن خلال تواصلي مع الأحباء هؤلاء، ومع غيرهم، كنت أدرك جيداً أن «صبرا وشاتيلا» ما زالت تمشي وراء ماضيها، وقد تعيش أيامها، لكنها لا تحيا.
لسنا في صدد الحديث عن العذابات التي عانى منها مخيم شاتيلا في الأيام الدامية المعروفة ب «حرب المخيمات» ما بين سنتي 1985 و,1987 ولا عن التحولات الديموغرافية التي أعقبتها، وخصوصاً بالنسبة إلى نزوح الفلسطينيين إما إلى مكان آخر في الداخل، حتى لو كان من «الحرش» المقابل لمستشفى عكا إلى قلب مخيم «شاتيلا»، أو إلى خارج لبنان كله، وخصوصاً نحو الدول الإسكندنافية.
قالوا إن الزمان تغير. وإن الحكم في لبنان تغير. وأقفلت صفحة «الحروب الداخلية»، أو «الحرب الأهلية»، او «حروب الغير على أرضنا»، وأصبح لبنان منذ سنة ,1989 يعيش مرحلة ما بعد «الطائف»، وارتفع الشعار «عفا الله عمّا مضى».. أمّا بالنسبة إلى «صبرا وشاتيلا» فلم يكن هناك أي اعتراف بما جرى، كي يكون هناك عفو من الله سبحانه وتعالى، أو من عبيده المقهورين؛ ما كان هناك سوى الاستمرار في سياسة التعتيم، أو التجاهل في أحسن الحالات. وهكذا..
استمرت غياهب النسيان تطوق المكان، وتقضي على حقوق الإنسان، حتى انتهى القرن العشرون، أو كاد.
غير أنه كان هناك بعض الأصوات الحرة التي تذكرت «صبرا وشاتيلا» بين سنة وأخرى، وكان من رموزها الطبيبة البريطانية سوي شاي آنج، ابنة سنغافورة، وهي التي عاشت أيام مستشفى غزة الصعبة، وأجرت آخر العمليات الجراحية حتى اقتحامه صباح اليوم الأخير؛ وهي الطبيبة التي أحبها الفلسطينيون كثيراً وأطلقوا عليها لقب «الدكتورة الصينية».
ففي عز سنوات الصمت والنسيان، في سنة ,1989 أصدرت الدكتورة سوي كتابها الرائع من لندن بعنوان: «من بيروت إلى القدس». كذلك كان من رموز الأصوات الحرة، ومن لندن أيضاً، صوت روبرت فيسك في مقاله المدوي: «خمسة عشر عاماً بعد حمام الدم: العالم يدير ظهره».
ثم كانت المفاجأة الكبرى. في الذكرى الثامنة عشرة لصبرا وشاتيلا، في أيلول سنة ,2000 فوجئت بيروت بقدوم وفد إيطالي لإحياء ذكرى «صبرا وشاتيلا».
بلا مقدمات، وبلا سابق إنذار، هبط أعضاء الوفد في مطار بيروت الدولي، وراحوا يقابلون الرؤساء الثلاثة، والمسؤولين، ويزورون الأهالي المعذبين الذين راحوا يتحدثون من جديد عن ضحاياهم، عن مأساتهم، وعن حياتهم اليومية، وكان يكفيهم أن يستمع إليهم أعضاء الوفد ورئيسه ستيفانو شياريني، الكاتب اليساري التقدمي في صحيفة «إل مانيفستو». لم يحلم الضحايا الأحياء بأن الزيارة سوف تصبح تقليداً سنوياً، وبأن الأصدقاء الجدد، من كتاب وفنانين ونواب ومخرجين ومناضلين، من أمثال مونيكا ماوري، وستيفانيا ليميتي، وموريتسيو مسولينو، وأنّا أسوما، لن يتخلوا عنهم.
على مدى الأعوام السبعة الماضية، تكررت الاحتفالات بذكرى صبرا وشاتيلا، وجاءت وفود أخرى كبرى من فرنسا، ومن إسبانيا، وجاء كثيرون من مناصري الحرية وحقوق الإنسان، من ألمانيا والسويد وبريطانيا والولايات المتحدة واليابان.. وما عادت مهمة الاحتفالات بحد ذاتها، ولا حتى المسيرات وإضاءة الشموع، فالمهم هو الشعار الذي تحول إلى نهج وبرامج عمل: «كي لا ننسى صبرا وشاتيلا»؛ أمّا الأكثر أهمية فهو الصداقات التي تجذرت، والمحبة التي تعمقت.
في سنة 2001 تذكر التلفزيون البريطاني BBC «صبرا وشاتيلا» في برنامج «بانوراما»، وعرض فيلماً وثائقياً بامتياز، عنوانه: «المتهم»، وفيه وجه الاتهام إلى شارون. وبادرت صحيفة «لوموند ديبلوماتيك» الفرنسية بإرسال مندوب خاص من كبار مراسليها، بيير بان، لتغطية «صبرا وشاتيلا» في ذكراها العشرين، وصدر مقاله بعنوان: «عشرون عاماً بعد المذابح في صبرا وشاتيلا: الماضي يبقى دائماً حاضراً»، في أيلول سنة ,2002 وتناقلت الصحف الأوروبية مقتطفات منه باللغات المتعددة. وفي السنة نفسها، أصدرت الكاتبة الإيطالية، وعضو الوفد الإيطالي لإحياء ذكرى صبرا وشاتيلا، ستيفانيا ليميتي، كتابها عن «مذبحة الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا»، وتضمن مقالات لكتّاب أحرار.
عن صحيفة السفير اللبنانية
12/9/2007


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.