شوارع تنزف.. جثث مكدسة في الأزقة.. رؤوس مقطوعة..أطراف مبتورة.. جنين فصل رأسه عن جسده ووضع في حضن أمه المقتولة.. حوامل بقرت بطونهن وأخرجت أحشائهن.. جثث منتفخة.. هنا صبرا وهنا شاتيلا.. هنا الموت المخيم على المكان.. وهنا رائحة الدم في كل مكان.. هنا الذكريات التي لا تنسى.. من قال إن الدم ينسى؟ من قال إن الدم النازف من الجرح والروح يمكن أن يتحول إلى مجرد ذكريات.. هنا الغمام الأسود وشياطين جهنم السوداء.. هنا إسرائيل والكتائب والقوات اللبنانية وجيش لبنان الجنوبي.. هنا شارون وايلي حبيقة وسعد حداد وفي ظلهم بشير الجميل وطغمة من السفاحين.. هنا القتلة الذين لا يتورعون عن القتل. من قال إن الدم ينسى.. ومن قال إن الدم الفلسطيني رخيص.. من قال إن 3500 فلسطيني قتلوا في صبرا وشاتيلا سيذهبون مع الريح وننساهم.. إنه دم عصي على النسيان.. ليس وحده، فكل الدم الفلسطيني عصي جدا على النسيان لأن ذاكرة الحزن الفلسطينية تتسع للألم من دير ياسين وكفر قاسم وقبية إلى تل الزعتر ونهر البارد وجنين وغزة.. قدر الفلسطيني انه يسير من الموت إلى الموت ومن الدم إلى الدم.. من الموت على الهوية إلى الموت خنقا وإقصاء وكراهية واستبعادا وإلغاء على الحدود من وادي العقارب الليبي إلى التنف على الحدود العراقية السورية حيث تأبى الشياطين أن تعيش. هنا كانت المذبحة في صبرا وشاتيلا.. ثلاثة أيام بلياليهن.. أربعون ساعة من الذبح المتواصل والسلخ وبقر البطون والإطاحة بالرؤوس وانتزاع الأجنة من أرحام الأمهات.. أربعون ساعة كاملة لم يتوقف فيها السكين والرصاص وكاتم الصوت.. أربعون ساعة خلدت الأيام الدامية في السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر من سبتمبر عام 1982.. إنه عام المذبحة.. مذبحة الفلسطينيين والعروبة والإسلام والأخلاق و الإنسانية انه سبتمبر الأسود بل فلنقل سبتمبر الأحمر لأنه بلوم الدم القاني من الوريد إلى الوريد. إنه قدر الفلسطيني الذي تحول اسمه إلى "تهمة" لا تحتاج إلى تبرير.. إسرائيل تذبح وتقتل وتسجن وتعذب، وبعض الإخوة والشركاء في الأوطان يكملون المهمة.. مهمة الذبح والإلغاء.. انه إلغاء حتى الفناء وكأنه الموعد الوحيد المضروب للفلسطيني في أرضه وخارجها. انه عنوان لزمن الإبادة الوحشية والحقد الأسود والقتل على الهوية، الذي نفذه جيش الاحتلال الإسرائيلي والقوات اللبنانية المارونية والكتائب اللبنانية المسيحية ومليشيا سعد حداد العملية لكيان لا يعرف إلا القتل والإجرام. يروي امنون كابليوك: "استمرت المذبحة 40 ساعة دون انقطاع واتخذت منذ اللحظة الأولى لبدايتها حجمًا كبيرًا، ففي الساعاتِ الأولى وحدها قتل الكتائبيون مئات الأشخاص، كانوا يطلقون النار على كل من يتحرك، وكانوا يحطمون أبواب البيوت، ويُجهزون على عائلات بكاملها.. أحيانًا لم يكتف القتلة بالقتل، بل كانوا يُقطعون أعضاء ضحاياهم قبل الإجهاز عليهم، ويحطمون رؤوس الأطفال والرضع على الجدران، وأحيانًا كانوا يتركون واحدًا من أفراد العائلة على قيد الحياة، ويقتلون الآخرين أمام عينيه ليذهب ويُخبر بما شاهدَ وعاش.. قام أفراد الميليشيا الكتائبيون بذبح البعض، وبقروا بطون البعض الآخر، وأطلقوا النار على الباقين، ومنهم زينب البالغة من العمر 29 عامًا، وهي في شهرها الثامن، قتلوا أولادها السبعة، ثم بقروا بطنها وأخرجوا الجنين ووضعوه على ذراعِ أمه القتيلة". القتلة كوفئوا فيما بعد.. شارون أصبح رئيسا لوزراء الكيان الإسرائيلي وإيلي حبيقة وزيرا مقربا من نظام "الممانعة" في دمشق وحليفا لحافظ الأسد والآخرون سياسيين ورجال أعمال.. وحدهم سكان صبرا وشاتيلا كانوا على موعد مع الموت. يبكي العالم ليل نهار على سبتمبر الأمريكي ويحيي ذكرى من قتلوا في سبتمبر الأمريكي حتى تحولت الذكرى إلى صنم يعبد.. أما ضحايا سبتمبر الفلسطيني في صبرا وشاتيلا فوسائل الإعلام مشغولة عنهم ولا تعبأ بهم ولا تذكرهم إلا لماما.. ضاعت حقوق الإنسان فحتى بلجيكا ألغت قوانينها لكي لا تحاسب جزاري صبرا وشاتيلا وهي التي كانت تحاكم العالم كله.. يبقى القانون قانونا حتى يصل إلى الفلسطينيين فيتبخر في الهواء وكأنه غير موجود. لسنا في وارد المزيد من البكائيات واجترار الألم والحزن، بل لابد من إنعاش الذاكرة الفلسطينية والعربية المثقوبة بالرصاص والنسيان لشعب أبيد ويباد في كل مكان، من العدو و"الصديق والشقيق".. إنها ذاكرة الألم التي تكشف الغطاء عن جرح ينزف ولا يتوقف عن النزف.. يمتد من المعاناة إلى المعاناة.. من رفح جنوبا إلى مخيم اليرموك الدمشقي شمالا، ومن صحراء العراق الجهنمية شرقا إلى معسكر "سايبر ستي" الأردني غربا.. إنه نفس الشعب والمعاناة والذاكرة.. إنه الشعب الفلسطيني الذي يختزن في ذاكرته الجمعية كل الدم النازف.. لأنه دم لا ينسى أبدا مهما طال الزمن. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية