جلست على كرسى خشبى متهالك يقع فى ركن منزوٍ هادئ بإحدى قاعات الجلسات بمحكمة الأسرة، متكئة برأسها على راحة يدها، تضم طفلتها الرضيعة «مكة»، التى لا يتعدى عمرها العام بين ذراعيها، تغمض عينيها المحاطتين بهالات سوداء، بدت تائهة وكأنها تهرب من شيء ما، ربما من ذكريات مؤلمة عصفت بذهنها، وربما من الخوف من المستقبل المجهول الذى يطاردها هى وابنتها التى تركها والدها دون سند يحميها أو مال يكفيها شر العوز، إنها «هند» ذات ال23 ربيعًا. «طردنى فى منتصف الليل عشان معملتش محشى».. بهذه الكلمات وبوجه ترتسم على ملامحه معالم الحزن والاستنكار وبصوت يتلون نبراته بالبكاء بدأت «هند» رواية معاناتها ل«الوفد»، قائلة: «تمنيت أن أجد الاستقرار الذى فقدته فى بيت أهلى، فأبى أزاحنا عن عاتقه وأنا طفلة فى المرحلة الابتدائية، أفلت يده منا وأطاح بنا لنواجه أنا وأمى وإخوتى مصيرنا المعتم، تزوّج مرتين، وأنجب منهما أطفالًا، وبات يتنقل بين زوجتيه وتناسى والدتى وإخوتى، عشت أبشع مراحل التفكك الأسرى، قبلت بأول شخص طرق بابى لخطبتى وأنا لا أزال فى الثامنة عشرة من عمرى، فكان ابن خالتى، ففى عُرف أهلى هو عريس لُقطة، تتمناه أى فتاة، وأقرت أسرتى بذلك حين كنا صغارًا نلهو ونلعب «هند لابن خالتها»، وذلك على خلفية أنه من دمى ولحمى فسوف يصوننى ويحافظ على ويكرمنى كما كانوا يظنون». «زواج الأقارب عقارب، وخالتى هى سبب شقائى».. بهذه العبارات المتحفظة تابعت الزوجة الشابة حكايتها بألم وحزن: «وبعد إتمام مراسم الزواج شعرت معه بوحشة وغربة مرعبة كانت تعتصر قلبى كل يوم، بالرغم من أننى أسكن فى بيت عائلة وسط خالتى وأبنائها، ظننت أننى سأجد فى هذا البيت الدفء والحنان اللذين حلمت بهما لسنوات، لكن أيامى معه كانت طويلة ومملة، جعلنى فى كل يوم أتمنى الموت، ومنذ أن وطئت قدماى ذلك البيت وأنا أعانى، بسبب انعدام شخصية زوجى أمام أهله، وباب صوت الشجار لا ينقطع عن بيتنا، وما كان منه إلا أن يقف صامتًا لا يحرِّك ساكنًا أمام تطاول أهله الذين يتعمدون انتهاك حرمة بيتى، واستباحة متعلقاتى الشخصية، مرت الشهور الأولى من الزواج وأنا فى هذا الجحيم، أتجرع كأس الإهانات من زوجى وأهلى، ذقت طعم المرار على أيديهم، اختمر فى ذهنى أن هذا الجحيم أبدى ولا أستطيع المفر منه». تداعب الأم شعيرات طفلتها وهى تكمل روايتها: «بعد مرور السنة الأولى من عمر الزواج أصيب زوجى بالوسواس القهرى، وتنتابه النوبات بين الحين والآخر، وبعد أن يفيق منها ينهال على بالضرب، ويوجِّه اللكمات والصفعات إلى وجهى أمام العالمين، ويقذفنى بسيل من الشتائم، وما من حماتى التى هى للأسف خالتى إلا أن تتولى مهمة شحن زوجى، دائمًا ما تلقى على مسامعه عبارة «مراتك مش أصيلة ومش واقفة جنبك»، وتعبث بتلابيب عقله، كانت تحرِّكه كالدمية، وهو يفعل ما تأمره به دون تفكير ولا معارضة، اضربها فيضربنى حتى أسقط مغشيًا على وتختفى ملامح وجهى من الزرقة، تحملت مرضه النفسى، وساعدته فى العمل، وقفت إلى جواره رغم إهاناته، كنت دائمًا أغفر له ذلاته، لأنى أحبه، وهذا الحب هو السبب فى عودتى إليه صاغرة كلما تركت البيت». تلتفت الزوجة الشابَّة ناحية الشباك وهى تواصل روايتها فى محاولة منها للسيطرة على دموعها المتحجرة بما لقيتها قائلة: «حملت فى أحشائى طفلًا منه لكن الله لم يكتب له الكمال، ثلاث مرات على التوالى يموت الجنين فى أحشائى، وحين وضعت طفلتى بعد إجهاض ثلاث سنوات توفيت عقب شهر من ولادتها، لا أدرى حكمة الله فى ذلك، ولكنى دائمًا على يقين بأن ما كتبه الله لى خير كله، وعلى قدر مصيبتى أؤجر، أسأل الله دائمًا أن يجعلنى من الصابرين، ومن كرم الله -عز وجل- على بعد تعب وعناء رُزقت ب - «مكة»، جاءت لى عوضًا عن كل ما رأيته وتحملته طيلة زواج دام خمس سنوات، عشت فيهم حياة تعيسة زائفة». تتسارع أنفاس الزوجة العشرينية وهى تسرد تفاصيل الليلة التى قصمت ظهر زواجها الذى دام لخمس سنوات: «وفى آخر مرة لنا معًا كانت «وجبة محشى» سبب خلاف بيننا، حيث عاد زوجى مبكرًا من العمل، وفى ذلك اليوم كنت على موعد مع دكتور الأطفال، لكى يفحص ابنتى، فوجد والدته تأكل «محشى» فطلب منها أن يتناول طبقًا، فصرخت فى وجهه متبجحة «قول لمراتك تعملك ولا هى عاملة هانم»، فإذا به يدخل على مستثارًا والغضب يسكن قسمات وجهه «اعملى محشى دلوقت».. فأجبته «عندى معاد للدكتور البنت تعبانة»، فإذا به يثور على، ويضربنى ضربًا مبرحًا، ولولا تدخل الجيران لبِت تلك الليلة فى قبرى، وبعدها طردنى منتصف الليل. تلتقط الزوجة الشابة من حقيبتها الجلدية منديلًا تزيح بها ذرات الدموع المتناثرة على وجنتيها لترتكن برأسها إلى جدار متهالك كهيئتها وهى تواصل روايتها: «كانت خالتى تطرب بصرخاتى وتوسلاتى لابنها كى يرحمنى ويكف عن إيذائى، لا أعرف إلى أى نوع من البشر تنتمى هذه المرأة؟ لمَ تفعل معى هكذا وأنا ابنة أختها، يقولون «الخالة أم ثانية» فلماذا لم تعاملنى كابنتها، يا لخيبة ظنونى وأحلامى التى رسمتها فى مخيلتى قبل الزواج، يا لكسرة النفس حينما تتبدل الأدوار، وتلعب الخالة دور الجلاد، كل هدفها أن تجعل حياة ابنها فاشلة، وأظن أنها نجحت فى الوصول إلى مبتغاها، وأرغمتنى بتحريضها الدائم لابنها المضطرب ضدى على أن أطرق أبواب محكمة الأسرة، طالبة تطليقى منه طلقة بائنة للضرر.