للإبداع دائما ذاكرته الخاصة التي لا تعتمد فقط على حالة التذكر للحدث وإنما تعطيك قدرا من التجربة التي تثري إبداعك الجديد وقبل أيام من رمضان الذي يعد بمثابة حالة تنافسية خاصة بين العديد من الرؤي الفنية التي على كثرتها نجد مجموعة تعد على أصابع اليد الواحدة يمكننا وضعها في إطار فني مميز. في الآونة الأخيرة انتابت ذاكرتي حالة من النشاط الذهني لأعمال أراها بمثابة السلالم الموسيقية العازفة لحنا إبداعيا للدارما المصرية، وبدأت تلك الحالة عندما شاهدت الاحتفالية بمرور 57 عاما على المخابرات المصرية خاصة أن هذا الاحتفال قد ركز عليه إعلاميا مؤخرا على غير العادة في كل عام كوسيلة مباشرة لإزالة الغبن الذي تعرض له الجهاز مؤخرا كهدف موجه ضد أحد مرشحي الرئاسة وهو السيد «عمر سليمان» فصورت المخابرات المصرية كوسيلة للانتقام من المعارضين، ولعلاقتي الخاصة بالراحل صالح مرسي فقد عشت تجربة مسلسل «رأفت الهجان» إحدي علامات الدراما المصرية والذي كان بمثابة سفير فوق العادة للمصريين في البلاد العربية عند إذاعته وفي الحقيقة إن صالح مرسي عند كتابته للمسلسل كان يؤكد دائما أن الحقيقة تفوق الخيال وفي لقاءاته الخاصة الشخصية الحقيقة التي أدت دور «عزيز الجبالي» كنت تشعر بالمسئولية التي ألقيت على عاتق هذا الجهاز المصري. المسلسل به كثير من الذكريات الإبداعية للكثير من المشاهدين لكنني أتذكر أن البطولة كانت ستكون للفنان عادل إمام وخاصة بعد نجاحه في مسلسل «دموع في عيون وقحة» إلا أن إصراره على عدم استخدام اسلوب الفلاش باك في سرد الأحداث ورفض صالح مرسي لهذا الرأي أدى بهما إلى مفترق الطرق وقام بالبطولة محمود عبد العزيز والطريف أن إحدى الكرافتات الشهيرة كانت من دولاب صالح مرسي الشخصي، وكانت هناك رغبة أن يظل شخصية «رأفت الهجان» مجهولة ولكن المخابرات المصرية قررت إعلان جزء من حقيقته وعرف اسمه الحقيقي «رفعت الجمال». وعلى الجانب الآخر كان مسلسل «دموع في عيون وقحة» إحدي العلامات في رمضان والطريف أن صالح مرسي كان يميل نفسيا إلى شخصية «رفعت الجمال» أكثر من «جمعة الشوان» الذي كان يرى أن بطولته الحقيقية تكمن في تحمله المخاطرة بالذهاب إلى إسرائيل للحصول على أحد الأجهزة المتطورة لكشف الشفرة. وكثيرون لا يعلمون أن بداية تواجد صالح مرسي في الدراما الرمضانية من خلال مسلسل «صيام صيام»، 1980 الذي جمع معظم نجوم الشاشة الآن كان من بينهم ليلى علوي، أثار الحكيم، فردوس عبد الحميد يحيى الفخراني صلاح السعدني نسرين، والطريف أن هذا المسلسل الاجتماعي الذي أدى فيه يحيى الفخراني دور شخص يصوم لأول مرة وقرر الصيام الصحيح هو شخصية قريبة من شخصية صالح مرسي الحقيقية فقد كان يرحمه الله عندما يصوم يصر على القيام بكل فروض الصيام الحقيقية التي يغفل عنها الجميع وكان يرى أن المجهود المبذول حتى نصوم عن الكذب والنفاق والرياء أكثر شدة من الامتناع عن الطعام وأعتقد أن صالح مرسي في هذا المسلسل كان يعبر عن آرائه وأفكاره الحقيقية في الأخلاقيات والقيم. وفي أثناء هذه الفترة الزمنية كان بزوغ نجم أسامة أنور عكاشة من خلال مسلسلي «الشهد والدموع» و«ليالي الحلمية» اللذين كانا بداية مسلسلات الأجزاء في حياة أسامة أنور عكاشة واستطاع عكاشة في تلك المرحلة أن يحصل على الوقت الذي يريده في عرض مسلسل والذي كان بمثابة حرب بين النجوم في رمضان لعرض أي عمل فني بعد الفوازير مباشرة، وأصبح أسامة أنور عكاشة منذ «الشهد والدموع» طبق درامي أساسي في رمضان فقدم «أبو العلا البشري» بجزءيه ثم «زيزينيا» والطريف أن أسامة أنور عكاشة بعد التعامل مع آثار الحكيم في الجزء الأول في «ليالي الحلمية» بدأت في وضع شروطها مما جعله يستبدلها بإلهام شاهين وقرر في تلك الفترة عدم التعامل معها مرة أخرى ولكنه عاد وقرر التجربة في مسلسل «زيزينيا» وكالعادة حدث خلاف بينهما مما جعله يستبدلها بهالة صدقي في الجزء الثاني وبالرغم من أن خطة السيناريست الراحل تقديم خمسة أجزاء من «زيزينيا» إلا أنه في معظم الحوارات التي دارت بيننا كان يؤكد أن لديه شعورا دفينا أنه لن يكمل هذا العمل وأنه لن يظهر للنور مرة أخرى. الضلع الثالث في الإبداع الدرامي في رمضان كان الكاتب وحيد حامد الذي بدأه بمجموعة من المسلسلات الرمضانية الشهيرة ثم قدم إبراهيم الطائر إحدي روائع عادل إمام في التلفزيون الذي سبق أن قدمت في الإذاعة باسم «بلد المحبوب» وكثيرون تعودوا على وجود وحيد حامد المميز في رمضان والذي ظهر في رؤية خاصة للتطرف من خلال مسلسل «العائلة» والذي لا أعرف حتى الآن سبب عدم إذاعته في التلفزيون والفضائيات المصرية رغم أنه حالة متفردة لمناقشة جذور الإرهاب في المجتمع المصري ولقد حظى بالكثير من الجدل لآراء وحيد حامد التصادمية مع الفكر المتزمت الناظر للأمور الدينية من اتجاه واحد قد يكون هذا السبب في عدم إذاعته مرة اخرى وهذا ما قد يجري عليه الحال على مسلسل الجماعة الذي قدم مؤخرا، وهناك مسلسل «آوان الورد» رغم أنه قدم من سنوات قريبة إلا أنه يعد إحدى علامات الإبداع في رمضان ونال كسابقيه من مسلسلاته قدرا من الجدل لأنه دخل منطقة المسكوت عنه في العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، ولقد أسعدني الحظ في حضور المقابلة التي تمت بين وحيد حامد وقداسة البابا شنودة في الكاتدرائية بعض عرض المسلسل والتي كانت بمثابة حوار هادئ لمناقشة ماذا أراد طرحه وحيد حامد في هذا المسلسل الذي أكد فيه أنه يطرح قضية موجودة لها بعد اجتماعي متلامس إلى حد كبير مع بعضها الديني، والطريف أنه في معظم الأعمال التي كان يقدمها وحيد حامد رمضانيا يؤثر على اختيار المخرج والممثلين وأغنية التتر ولقد شاهدته وهو يقوم بتغيير أغنية التتر الخاصة بمسلسل «العائلة» إلى أن وصلت الأغنية الجميلة التي قدمت وقتها وغنتها أنغام. وهناك أعمال اجتماعية حظت بنسبة كبيرة من المشاهدة وشكلت وجدان ذكرياتنا الرمضانية منها مسلسل «أبنائي الأعزاء شكرا» للمخرج محمد فاضل الذي ضمن أيضا مجموعة كبيرة من النجوم ويعد من أهم الأعمال التي اقتربت من قضية جحود الأبناء بشكل فني كبير ومؤثر. وفي رمضان تواجد السيناريست محمد جلال عبد القوي من خلال عدة أعمال فنية ولكن يجيء مسلسله «المال والبنون» كحجر الأساس في بناء سرحه مع الجمهور والذي كان التيمة الأولى لأعماله المعتمدة على إبراز القضايا الأخلاقية في المجتمع وإن كان يميل دائما إلى نهايات شبه مأساوية وتتميز بالصبغة الحزينة أكثر من النهايات المتفائلة. ووسط هذا الكم من المسلسلات الاجتماعية التي تعد بمثابة الركيزة الأولى للمسلسلات الرمضانية تجيء تجربة منى نور الدين التي قدمت سلسلة من المسلسلات ذات صبغة رومانسية وشخصيات تمثل الطبقات الراقية وأصحاب الفكر والرأي في المجتمع ولكن من خلال أطروحة تعتمد على المشاكل العاطفية وكان على رأسها مسلسل «جواري بلا قيود» وكان نجمها الأساسي هو الممثل الراحل كرم مطاوع الذي كان أداؤه يميل إلى الأسلوب المسرحي إلا أنه مؤشر إلى ميل الجمهور إلى هذه النوعية من الرجال أصحاب العمر الوسطي والشعر الأبيض وقوي الشخصية صاحب الرأي واستكملتها بسلسلة من المسلسلات «الحرملك» ثم «هوانم جاردن سيتي» وإن كانت هذه الأعمال أقرب إلى قراءة روايات عبير الشبابية إلا أنها كان لها جمهورها الرمضاني واعتقد أنها أقرب إلى المسلسلات التركية التي تحظى بنسبة كبيرة من المشاهدة الآن وهذا ما فسر النجاح الفني لمسلسل «مين مايحبش فاطمة» فبالرغم من أن التيمة الأساسية له بسيطة إلا أن التكوينة المقدمة أعطتها مذاقا فنيا مختلفا عن المسلسلات المعروضة في هذا الوقت فحظى بنسبة مشاهدة عالية. وإذا اقتربنا من الأعمال الدرامية التي قام بها النجوم وعلى رأسهم نور الشريف فهناك مسلسل «أديب» المأخوذ عن عمل لتوفيق الحكيم ورغم البعد الفلسفي للشخصية التي قدمها نور الشريف إلا أنه حظى بنسبة مشاهدة عالية وهذا يؤكد أن العمل الفني يرتقي بذوق المشاهد ويأخذه إلى آفاقه وأفكاره ولا أعرف لماذا أيضا لا يعاد إذاعة هذا العمل مرة أخرى خاصة أننا في حاجة إلى مسلسلات تخرجنا من الأعمال التي تعتمد على الأفكار السطحية مع التوليفة التجارية المعتادة. وفي الذاكرة يحضر مسلسل «الدوامة» بطولة نيللي ومحمود عبد العزيز ومحمود ياسين ونادية الجندي كنموذج للمسلسل الاجتماعي البوليسي وهو مسلسل من تلك الأعمال المقدمة في الزمن الماضي وكان زاخرا بالعديد من الأحداث المتتابعة والتي تجعلك تلهث وراء الفكرة المطروحة. على نفس المنوال حظى مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي» المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب إحسان عبد القدوس بنسبة مشاهدة عالية لأنه قدم للمشاهد نموذجا للرجل العصامي الذي يصل إلى أعلى الدرجات المالية الاجتماعية من خلال عمله البسيط وهو أسلوب في طرح أفكار درامية بشكل أو بوسيلة تلعب على مساحة الحلم داخل المشاهد وهذا يفسر استمرارية نجاحه حتى الآن وزيادة نسبة المشاهدة عند عرضه. ولأحمد زكي أعمال تلفزيونية ولكن في رمضان حظى المشاهد بتجربتين أساسيتين الأولى «الأيام» التي تناولت قصة حياة عميد الأدب العربي طه حسين والذي تبارى فيها تمثيلا مع نخبة من المبدعين على رأسهم يحيى شاهين وأمينة رزق والمسلسل لم يقدم فقط أحداثا وأياما في حياة طه حسين ولكنه ركز بشكل عبقري على الأشياء التي صقلت تكوينه شخصية طه حسين، وأعتقد أن يحيى العلمي كان موفقا إلى حد كبير في اختيار الفريق الذي استطاع توصيل هذا العمل الأدبي ليصبح تحفة درامية تليفزيونية وهذا ما فعله عندما تصدى في تقديم مسلسل أحمد زكي الآخر «هو وهي» المأخوذ عن مجموعة من المقالات للصحفية سناء البيسي الذي كتب له السيناريو والحوار صلاح جاهين الذي استطاع إقناع سعاد حسني بتقديم تلك التبلوهات الفنية للعلاقة بين الرجل والمرأة في مسلسل منفصل متصل. وبالتأكيد هناك أعمال فنية كثيرة لها مكانة في ذاكرة مشاهدي الدراما الرمضانية في عالم الكوميديا فنجم الموسم محمد رضا له مكانة خاصة رغم أن الفكرة غاية في البساطة وربما لا تنال هذا القدر من النجاح إذا عرضت الآن ولكن بالمفرادت الزمنية التي عرضت فيه حققت نجاحا كبيرا وهو نفس الشيء بالنسبة لمسلسل «برج الحظ» لمحمد عوض فالبرغم من أن الفكرة بسيطة تعتمد على الشخص النحس واقتناع المحيطين بهذه الفكرة إلا إن أداء محمد عوض كان مميزا جدا والطريف أن المسلسل بمثابة «برج الحظ» حقيقة في حياة عوض فلأول مرة أن جميع أولاده نجحوا في هذا العام الذي عرض فيه المسلسل. واعتقد أن رمضان كان وش السعد حقيقة على محمد صبحي والذي قدم من خلاله مسلسله «فرصة العمر» وشخصية «على بيه مظهر» التي استخدمها بعد ذلك سينمائيا ومسرحيا والتي ظلت بعد ذلك ملتصقة به وحققت له قدرا كبيرا من النجومية إلا أنه استطاع القفز منها بذكائه والدخول في شخصية سنبل بمسلسل «رحلة المليون» ونتيجة لهذا النجاح الذي حققه قدم جزءا ثانيا اعتقد أنه كان أقل جمالا من الجزء الثاني وكان بعنوان «سنبل بعد المليون»، ولمحمد صبحي مسلسل آخر حظى بقدر كبير من المشاهدة وهو مسلسل «عائلة ونيس» الذي قدم منه خمسة أجزاء كان أضعفها الجزء الأخير وخاصة بعد وفاة سعاد نصر. وإذا عدنا إلى أهم المسلسلات الدينية فيحظى «محمد رسول الله» بأكبر قدر من المشاهدة والاهتمام بالنسبة للمسلسلات الدينية رغم الإمكانيات البسيطة المتاحة في ذلك الوقت إلا أنه أصبح إحدي العلامات من هذا النوع من الدراما ومازالت الأغنية الشهيرة للمطربة ياسمين الخيام من علامات الدراما الرمضانية. وبالطبع لا نستطيع إغفال حلقات «ألف ليلة وليلة» التي قدمها الراحل فهمي عبدالحميد مع شريهان وإن كان هذا يذكرني بمسلسل «ألف ليلة وليلة» للفنانة نجلاء فتحي وحسين فهمي المأخوذ عن قصة للكاتب الراحل أحمد بهجت... وبالتأكيد ثمة العديد من المسلسلات الدرامية التي تسبق هذه الأعمال جميعا والتي كانت لها التأثير الكبير وتلتها أعمال أخرى أثرت في الدراما التلفزيونية ولكن هذا كان مجرد لمحة من أعمال أثرت في وجدان بعضنا، واعتقد أن الدراما المصرية لها أن تفتخر بهذا التاريخ بفنه الرائع الذي يؤكد أننا أصحاب رؤية إبداعية مختلفة نتمنى أن نضيف لها أعمال لها نفس قيمتها ولا نسقط براثن مسلسلات على شاكلة «كيد النسا» و«الباطنية» و«زهرة وأزواجها الخمسة» وما شابه رحمنا الله ورحمكم في رمضان القادم من أمثالها.