"يابت اسمعي كلامي بلاش تبقي خايبة كده، اللي ييجي جنبك وريه العين الحمرا، أمال إيه.. هي العيشة بالساهل، ولو هتفضلي كده الصغير قبل الكبير هيضحك عليكِ." إنه واحد من مئات الديالوجات التي يمكنك أن تسمعها في أي وقت من ليل أو نهار في إحدى محطات مترو الأنفاق أو المواصلات العامة، أبطاله الباعة الجائلون، ومخرجه الكبار منهم، والمسرح هو الشارع، أما المتفرجون فأنا وأنت وجموع الركاب. هند بنت 7 سنوات التقيتها في محطة الدمرداش..هادئة.. ذات ملامح طفولية لم تصطبغ بعد بملامح "أولاد الشوارع" من عنف وألفاظ بذيئة وحركات سوقية، ترتدي حجابا أطول منها، يداها الصغيرتان متشبثتان بأكياس المناديل، وصوتها بالكاد تستطيع سماعه، أما عيناها فلا تزال تتميزان بتلك النظرة الحالمة. ملاك في المترو وددت لو أتعرف على قصة الطفلة، وبينما ننتظر المترو دار بينها وبين أحد البائعين الأكبر منها سنا هذا الحوار: "يابت اوعي تفتكري اللي في الشارع هيصعب عليهم حالك والاَ هيقولوا دي مؤدبة نخليها في حالها، لا دول هيتجرؤا عليكِ وساعتها مش هتلاقي حد يدافع عنك." انتظرت حتى ركبنا عربة المترو، واشتريت منها مجموعة مناديل وحاولت فتح حوار معها, في البداية خافت وتلفتت يمينا ويسارا تبحث عن زميلتها الأكبر منها سنا فالصغير لابد وأن يكون معه آخر أقدم منه في المهنة لكنها كانت على الطرف الآخر للعربة المزدحمة. قلت لها : "بصي أنا كنت هاخذ كيس بس عشان انتي بنوته مؤدبة هاخذ 4".. قبّلت هند النقود ووضعتها على جبينها الأسمر..وأخيرا اتفكت عقدة لسانها وفتحت لي قلبها وبدأت تحكي : ليً اخوات بس الدنيا ملهاش كبير، أبويا مات وأمي ست كبيرة، واخواتي واحد في الأحداث والثاني بيبيع أدوات منزلية، وقالوا لي أنزل عشان الاقي لقمة عيش نظيفة. في الأول رحت السوق أشيل شنط الخضار والفاكهة، بس بيشيلوني حاجات ثقيلة قوي، وبعد ساعتين في الشمس يدوني جنيه والا اثنين، ولما اشتكيت لأمي قالت لي أطلع أبيع مناديل في المواصلات، بس بتكون زحمة قوي وكنت "بتفعِص" فقالت لي عربيات مترو الستات أحسن وأأمن حاجة. سكتت برهة ثم واصلت: الشارع غابة ولو فضلت زي ما انا كده ياإما هيضربوني وياخدوا فلوس المناديل، أو ياخدوا المناديل نفسها، وساعات يخلوني أبيع معاهم بعد ما أخلص حصتي ومش بيخلوني أريح رجلي، عشان كده الواد "ميدو" زميلي هو واخته بينصحوني وبيخلوا بالهم مني لحد ما عضمي ينشف. هند تتكلم كما لو كانت بنت 17سنة، قسوة الظروف جعلتها تتحمل المسؤلية.. تركتها وسؤال واحد يراودني إلى متى ستظل محتفظة بتلك الملامح الطفولية والصوت الهادئ البريء. هتعملوا لنا إيه يعني عالم الشارع أشبه بقصص ألف ليلة وليلة، الشكل الخارجي يوحي لك أنها فتاة صغيرة، لكن نبرة الصوت المبحوحة من شرب السجائر، والوجه المليء بالجروح والخياطات، تشير إلى عكس ذلك.. سمية.. بائعة "باديهات".. على العكس من هند تبدو كالقطة الشرسة، حينما حاولت التعرف على قصتها ردت علي بعنف : "هتعملوا لنا إيه يعني؟" وبعد عدة مناورات أخذت رقم الموبايل الخاص بها بحجة أن "البدي" عجبني وعاوزاها تجيب لي ألوان معينة. اتصلت بها فإذا برجل يرد ، أجبته أني أريد طلبات من "سمية" فأعطاني إياها، فردت معلش يا أبلة أصلهم بيخافوا علي من المعاكسات.. احنا ولاد ناس بردو، واللي رد عليكِ ده ابن المعلم بتاعنا. فضَلت "سمية" قسوة الشارع عن قسوة والدها مدمن البانجو، تعيش مع مجموعة من الباعة الجائلين بعد أن عملت في كل مهنة يمكنك أن تتخيلها، تتحدث معك دون أن تعيرك أي اهتمام وكأنها تريد أن تخبرك " أنك ولا حاجة"، وأنها على يقين إن كل واحد بيكلمها عاوز منها حاجة. صارحتها فقالت لي: "آه انتوا بتحبوا تتعرفوا علينا وكأننا فرجة بس فعل مفيش، وبعدين أنا لازم أتكلم كده والا تاكلني الديابة، انتي مش شايفة عملوا ايه في وشي لما كنت بنت بطرحة، وحاولوا يجوزنوني جوازة مايعلم بيها إلا ربنا، دلوقتي محدش يقدر يهوب لي." الشغل عبادة وبأحد شوارع مدينة نصر تسير تلك الطفلة الصغيرة حاملة معها أكياس المناديل، أعطيتها جنيه وأخذت منها كيس واحد، ففوجئت بها تركض خلفي قائلة: "أمي علمتني إن الشغل عبادة وإني مشحتش، ياتاخدي كيس تاني يا تاخذي الجنيه." ابتسمت وأخذت منها الكيس وتعرفت على الصغيرة "سنا"، فقالت: " أنا بروح المدرسة بس في الصيف بساعد أبويا عشان هو مش بيمشي، وماما متوفية من سنة وأمنتني مشحتش، في الأول كنت بخاف بس الحمد لله الناس طيبين ومحدش بيكسف عيلة صغيرة بس المهم إني أنفذ وصية أمي. " وفي إشارة روكسي فتاة صغيرة بشعر منسدل على ظهرها، وفستان غاية في الرقة، في البداية ظننت أنها نزلت من إحدى السيارات فقلت بغضب: طفلة في السن ده ازاي ينزلوها تعدي وسط الإشارة. وماهي إلا لحظات وأدركت أنها تبيع الفل بتأدب ورقة، لا تنادي وإنما تكتفي بالمرور من أمام السيارة، واللافت للنظر أن أغلب السيارات تشتري لكن بعد أن تتحدث قليلا مع الفتاة التي لا يتعدى عمرها الست سنوات. حبيبة الشارع وفي أحد الشوارع الجانبية بالمهندسين وجدت الصغيرة تجلس في حضن والدتها على جانب الطريق، وتلاعب أخوها الأصغر منها، في البداية تذكرت أن غالبيتهم ليسوا أسرة واحدة، لكن حنان النظرة دفعني لسؤال الأم عن الفتاة وماسر تواجدهما في الشارع في هذا الوقت. لم تتحدث الأم إلا بجملتين "الحمد لله.. حسبنا الله ونعم الوكيل"، فلم أجد إلا عسكري الإشارة ليخبرني أنها امرأة من محافظة أخرى وقعت فريسة لشخص اعتدى عليها وتركها تواجه مصيرها بمفردها ووليدتها ثمرة هذا الاعتداء، فاضطرت للهرب إلى القاهرة حيث لا يعرفها أحد. وفي المدينة التحقت بإحدى الجمعيات التي ساهمت في تزويجها بشخص تقدم لها لكنها فوجئت بأنه مدمن وخافت على ابنتها منه فرفضت الاقتران به، وحينما رجعت إلى الجمعية كان الرد أنهم لا يستطيعون تحمل مسئولية ثلاث أرواح، وأقفلوا الباب أمامها. وتابع العسكري قائلا:على فكرة البنوته ماشاء الله حبيبة الشارع كله بيهادوها باللبس واللعب، وأنا باحرسهم في ورديتي وبوصلهم للعشة الصغيرة التي يسكنوها بعد الإنتهاء من عملي، وأنهى قائلا: "وأهو بحاول ألاقي لها شغلانة عند ناس ولاد حلال بيتقوا ربنا." يا عرب يا بلاش "أبين زين واشوف الودع" .. نداء الغجرية الصغيرة "سهيلة" التي تقف في الشوارع الجانبية الهادئة وتركض على العرب.. فهم كما تقول: فلوسهم حاضرة وريحتهم حلوة وبينضحك عليهم، وليس لها علاقة بالمصريين عشان فقر على حد وصفها. تعالي ياحلوة أشوف لك الودع، أنا صغيرة بس الحجاب عني مكشوف، طب أقولك معاكي ايه في الشنطة، كريم وريحة ومفاتيح والأحمر والبودرة ده غير القرشينات طبعا. تقف السائحة مندهشة، عرفت منين! "لا ده سر الصنعة تعالي بس أما أقولك...ارمي بياضك والنبي ما اقبل الا بحتة بعشرين..." المهم أن تصل في النهاية إلى ما يقرب الثلاثمائة جنيه وإذا اعترضت السائحة، تقول لها جملة واحدة: طاوعيني بدل ما أخليهم يطلعوا عليكِ – تقصد أتباعها من الجان-. هذه لم أتجرأ على التحدث معها فبصافرة أو صرخة واحدة يجتمع حولي أبناء نمنم من الغجر، وأتعرض للسرقة والألفاظ التي لا يحمد عقباها. حينها أدركت أن المشكلة لا تكمن في الشارع وإنما في تلك العقول والقلوب التي أبعدتها الظروف عن إدراك أن العمل عبادة، وأنه الشيئ الوحيد الذي يضمن لنا الكرامة مهما كان نوعية العمل المهم أن لانهدر هذه الكرامة، وبت أتساءل ..هل يجدون لهم نصيبا من الرعاية والرأفة كشركاء لنا في الجمهورية الثانية!!!