هل نقول إن النخبة المصرية، واختلافاتها، من أهم أسباب النكبة التي تعيشها مصر الآن؟! هذا الكلام ليس رأيي وحدي.. بل هو رأي الدكتور جودة عبدالخالق وزير التموين الذي أحترمه كثيراً.. وهو يذكرني باثنين من كبار اليساريين المصريين الذين استعان بهم جمال عبدالناصر الذي كان خبيراً في اختيار الرجال الذين يعملون معه.. والذين اختارهم الرئيس أنور السادات لذات الفرض وهما الدكتور فؤاد مرسي والدكتور اسماعيل صبري عبدالله. والدكتور جودة مفكر قبل ان يكون وزيراً.. قضي الكثير من عمره في السجون شأنه شأن الكثير من اليساريين المصريين.. ولذلك عندما يقول رأيه في أهل النخبة يجب ان نعترف بهذا الرأي. وهو يقول في حوار أجراه معه الزميلان العزيزان علي المغربي وحنفي المحلاوي في الزميلة «الأخبار» ان النخبة فقدت دورها الريادي والقيادي وتحولت إلي طائفة.. وهي تتحمل الوزر الأكبر.. وأقول - وقد عملت سنوات عديدة بالقرب من اهل النخبة المصرية كاتباً سياسياً في اكبر حزب سياسي يدين بالليبرالية - ان انقسامات النخبة وإضاعة وقتها ووقت المصريين في صراعات سياسية بعضها نافع وأكثرها ضار من اهم اسباب ما نحن فيه من كارثة حقيقية.. ويكفي انهم وراء ضياع الثورة مرات عديدة.. حتي ان جمال عبدالناصر هرب منهم ولجأ إلي أهل الثقة مرة.. وإلي التكنوقراط مرات.. كما أن أنور السادات لم يكن يحترمهم كثيراً وهو الذي وصفهم بالأفندية مراراً وهم موجودون في كل المواقع وقد رأينا بعضهم في حديقة المبني القديم لنقابة الصحفيين، وكنا نطلق عليهم زعماء الحديقة!! فهذا كان أقصي ما يوصفون به!! ويصل الأمر بالدكتور جودة إلي وصفهم بأنهم يسعون وراء مصالحهم الشخصية فقط.. ولكنني أضيف أنهم لم يملوا أبداً حواراتهم. وهم من هواة الكلام، ولا شيء غير الكلام.. يضيعون الوقت بل يقتلونه بجلسات الحوار الذي لا يفيد، بينما غيرهم يتحاور معهم.. ولكن وهم يخططون ويعملون.. وأصحابنا - هؤلاء - يعشقون السوفسطائية.. وهو اسم يطلق علي أعضاء حركة ثقافية نشأت في المدن الاغريقية في النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد.. وهم اساتذة رحالون يدرسون قواعد اللغة وفن الخطابة -أي فن الكلام- الذي كان مهما في ظل الأنظمة الديمقراطية القديمة التي كانت سائدة في أثينا، ولم يكونوا مهتمين بالافكار الفلسفية المتعلقة بمسألة الكون والطبيعة.. بل كانوا ينتقدون المبادئ الاخلاقية المتوارثة والاديان. ويعتقد السوفسطائيون ان القانون ليس من طبيعة الاشياء بل هو مجرد عرف ولهذا قالوا ان الاشخاص الاذكياء لدرجة تكفي للتملص من القوانين ليس لديهم أي التزام اخلاقي للتقيد به.. وان سقراط عارضهم لأن أفكارهم متناقضة، وخاصة ان تعاليمهم يمكن ان تدمر النظام الاجتماعي. وهؤلاء السوفسطائيون - ومنهم اهل النخبة المصرية - صدعوا عقولنا بالكثير من الافكار والحوارات التي تضر.. ولا تفيد.. ويكفي انهم ما دخلوا قضية إلا وأفسدوها، خصوصا في أمور الحكم والسياسة.. وتجدهم غالبا ما يستخدمون عبارات فخمة.. وجديدة.. ومعقدة حتي يخدعوا بسطاء العامة.. ورحم الله الرئيس الشهيد أنور السادات الذي قتلوه غيلة لأنه كان يفهم أغراضهم خير فهم.. ويعرف قدراتهم علي العمل تحت الارض، وهو اهم ما برعوا فيه، ولهذا تخلصوا منه في ذكري يوم عرسه العظيم، يوم حرب اكتوبر الكبير.. ولقد أدخلنا أهل هذه النخبة في غياهب الجب الكبير بخلافاتهم وأقوالهم وفلسفاتهم، ولهذا كان عبدالناصر يتركهم يتكلمون ما شاء لهم الكلام.. أما إن تجرأوا علي ترك الكلام واتجهوا إلي العمل كان سريعاً ما يقوم باجهاضهم.. وكذلك فعل السادات. وكان يمكن لهؤلاء «الافندية» أو «المثقفين» أن يقودوا ثورة يناير.. أو أن يكونوا طليعتها علي أقل تقدير.. خصوصاً أنها كانت ثورة بدون قادة.. ولكن هذه الطليعة الثورية انزوت وتركت ميدان التحرير ليركبه من يشاء.. وفي الوقت الذي وجدنا عشرات الاحزاب تنشأ من فراغ.. لم نجد حزباً واحداً يمثل الثورة والثوار.. وفيما بين انسحاب الثوار من الميدان وتقاعس أهل النخبة المصرية عن العمل الثوري الجاد.. قفز من قفز واستولي علي الثورة.. من استولي -أو كاد- علي السلطة.. وكل ما فعله أهل النخبة ان انطلقوا إلي القنوات الفضائية يتفلسفون ويتحاورون.. ويغرقون الناس في حواراتهم السوفسطائية.. وبلعوا الطعم الذي وضعته هذه القنوات لكي يرفع أهل النخبة من نغمة حواراتهم.. لتفوز الفضائيات بأكبر نصيب من تورتة مصر.. وضاعت مصر.. أو تركناها ليستولي عليها من ينتظر هذه الفرصة منذ عشرات السنين.