لاشك أن الدستور يمثل «العقد الاجتماعى» الذى اعتبره «جان جاك روسو»، أعظم المفكرين السياسيين الفرنسيين والملهم الفكرى الأهم للثورة الفرنسية 1789، مسئولاً عن تنظيم العلاقة بين السلطة والحرية. ذلك أن الدستور ما هو الا منظومة القواعد الأساسية التى تحدد نظام الحكم فى الدولة، وتوضح السلطات العامة فيها واختصاصاتها وطبيعة العلاقة بينها، فضلاً عن تحديد ما للأفراد من حريات وواجبات وحقوق قبل الدولة، لذلك كان صادقاً من زعم أن معركة الدستور هى الأشرس فى عملية التحول الديمقراطى التى تشهدها مصر حالياً. وفى سبيل تحليل المشهد، ينبغى ألا ننسى أن الإشكالية الحالية تتعلق بكون الدستور يختلف عن القانون العادى من حيث وضعه وتعديله، ففيما يتعلق بوضع الدستور، يتوقف الأمر على الظروف السياسية القائمة، فقد يصدر الدستور منحة من صاحب السلطة فى الدولة، ويحدث ذلك تحت ضغط الشعب، مصدر السلطات جميعاً، وهو ما حدث فى الدستور المصرى عام 1923، الذى ألغى عام 1953، وقد تسنه جمعية تأسيسية منتخبة من الشعب، كما فى الدستور الفيدرالى للولايات المتحدةالأمريكية عام 1789، وقد يسنه الشعب نفسه بطريق الاستفتاء،كما فى الدستور الفرنسى عام 1958، ولاشك ان الطريقتين الأخيرتين تتفقان ومبادئ الحكم الديمقراطى، باعتبار ان الشعب هو مصدر السلطات، وهو الأمر الذى تتحرك الآن باتجاهه القوى السياسية فى مصر، حيث جمع بينهما الدستور المصرى المؤقت عام 1964، والدستور المصرى الدائم عام 1971. وفيما يتعلق بتعديل الدستور، تعرف النظم الدستورية ما يطلق عليه الدساتير المرنة، وهى التى يكفى لتعديل أحكامها أو الغائها اصدار تشريع عادى بالاجراءات التى تصدر بها القوانين، كالدستور الإنجليزى، بينما اخذت مصر بنمط الدساتير الجامدة التى لا يمكن تعديل أحكامها أو إلغائها الا بشروط خاصة،واجراءات محددة، تختلف عما يتبع فى القوانين العادية، وهو ما يؤدى الى حالة من الاستقرار جعلت من الدساتير الجامدة الأكثر انتشاراً فى دول العالم. ومن المفيد كذلك ان نتذكر مسيرة الدساتير فى مصر الحديثة، فقد تحركت الدساتير المصرية صعوداً وهبوطاً باتجاه تحقيق الديمقراطية، حيث عرفت الحياة السياسية المصرية عدة دساتير عبر كل منها عن طبيعة النظام السياسى، لعل أهمها دستور 1923، الذى بدأ العمل به فى مصر الملكية، ووضعته لجنة يرأسها عبدالخالق ثروت مكونة من ثلاثين عضواً ضمت ممثلين للأحزاب السياسية والزعامات الشعبية وقادة الحركة الوطنية، وقد نص الدستور على أن حكومة مصر «ملكية وراثية وشكلها نيابى»، وظل الدستور معمولاً به منذ صدوره وحتى تم الغاؤه عام 1930، وصدور دستور جديد للبلاد عرف بدستور 1930 واستمر العمل به لمدة خمس سنوات كانت بمثابة نكسة للحياة الديمقراطية، وبعد مظاهرات شعبية تم الغاؤه بموجب أمر ملكى من الملك فؤاد الأول أعاد العمل بدستور عام 1923. ثم ألغت ثورة 1952 دستور 1923 نهائياً، وشرعت عام 1953 فى وضع دستور جديد، وتكونت لذلك لجنة مكونة من خمسين شخصية من أبرز الشخصيات السياسية والثقافية والقضائية والعسكرية برئاسة رئيس الوزراء على ماهر، وانطلاقاً من المبادئ المعلنة للثورة والتى أعلت من شأن الحرية والمساواة والعدالة، خرج مشروع الدستور ليقيم نظاماً برلمانياً حقيقياً، ويحقق توازناً دقيقاً ومعقولاً بين سلطات الدولة المختلفة، التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولم يقرر هذا الدستور سلطات استثنائية للسلطة التنفيذية فى ذلك الوقت، بل حد كثيراً من اختصاصات السلطة التنفيذية والتى يترأسها رئيس الجمهورية، لذا فإن مشروع الدستور الذى استغرق اعداده نحو «18 شهراً» تم تجاهله فور اصداه،وتم عمل دستور مؤقت الى حين عمل دستور دائم عام 1971، استغرق اعداده «11 شهراً». وهو الدستور الذى حرص على توسيع اختصاصات وصلاحيات رئيس الجمهورية على نحو لا يسمح بقيام حياة سياسية ديمقراطية حقيقية. كما ينبغى ألا ننسى أن واقع الأمر يشير الى ان الدساتير لا تعبر بالضرورة عن حقيقة ممارسات النظم الحاكمة، ذلك أن خرق الدستور له شواهد فى العديد من الدول الديمقراطية قد تبررها ظروف استثنائية، بيد أن الأمر ذاته يأخذ شكلاً ممنهجاً ومعتاداً فى الدول غير الديمقراطية. يعكس ذلك حقيقة مؤداها ان الديمقراطية تمثل ثقافة شعب وأسلوب حياة، من ذلك أن هناك من الدساتير ما هو غير مكتوب، فهى دساتير تستمد قوتها من كونها تمثل ثقافة شعب،وأسلوب حياة وعادات وتقاليد يحرص عليها الناس،ولذلك لا توجد سوى فى أعرق ديمقراطيات العالم، المملكة المتحدة ونيوزيلندا، بينما يرى الخبراء أن عدم وجود دستور مكتوب فى دولة حديثة كإسرائيل يعود الى كونها دولة توسعية غير محددة الهوية، كما ان المملكة العربية السعودية لا تعرف دستوراً مكتوباً باعتبار ان دستورها هو «القرآن الكريم». وليس صحيحاً ان اتساع الجدل الدائر حول تشكيل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، يهدف الى وضع دستور يليق بثورة 25 يناير، بل هو، بلا شك، يعكس جهلاً بحقيقة المخاطر المحدقة بالوطن فى ظل محيط اقليمى ودولى مضطرب. من هنا فإن حزب الوفد حمل على كاهله أمام الله عز وجل، وأمام الأمة المصرية، مسئولية لم الشمل، ورأب الصدع فى كافة أرجاء القوى السياسية، وهو الأمر الذى عجزت عن التعاطي معه فئة قليلة من نواب الحزب فى البرلمان وهو ما سيفرض على الحزب ضرورة مراجعة معايير ترشيح من يمثلونه فيما هو قادم من انتخابات برلمانية. آخر الكلام: جاء فى الأوديسة، احدى ملحمتى هوميروس الخالدتين، ذكر لشعب خرافى يسكن شمال أفريقيا، ويعيش على أكل زهور اللوتس، التى تسبب النسيان والتراخى. وإلى ان نقلع عن تناول زهور اللوتس يذكرنا التاريخ ان شارل ديجول مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة قد كلف الفيلسوف الفرنسى «دوبريه» وحده بوضع دستور 1958، وتم استفتاء الشعب الفرنسى فوافق عليه، بيد أن مصر لم تعرف أبداً استفتاء قال فيه الشعب «لا».!!! بقلم: لواء سفير نور مساعد رئيس حزب الوفد