سعد لم يكن سياسياً عادياً وإنما وطنى من طراز رفيع لديه شجاعة نادرة فى المذكرات لم يسبق لها مثيل عبدالعظيم رمضان يقسم المذكرات إلى 4 مراحل ملخص الحلقة الماضية تناولت الحلقة الماضية دور ثورة 1919 فى خلق الوعى القومى السودانى، وكيف استلهمت «الخرطوم» فكر الوفد فى الحرية، وطلب الاستقلال وجلاء القوات البريطانية، وتناولت الحركات الوطنية السودانية فى تحرير لبلاد من العبودية، كما أشارت الحلقة إلى دور حزب الوفد بتحقيق الاستقلال التام لمصر والسودان، وترسيخ الترابط والتكامل بين البلدين. تتناول حلقة اليوم مذكرات الزعيم خالد الذكر سعد زغلول، التى تعد أهم مذكرات للسياسيين والزعماء فى العالم، والمعروف أن سعد زغلول لم يكن سياسياً مصرياً فحسب وإنما كان وطنياً من طراز رفيع، وكان يتمتع بمسئولية أدبية وشجاعة منقطعة النظير، لدرجة أنه ترك هذه المذكرات دون تنقيح، أو مراجعة، أو تعديل، أو تبديل رغم ما كان بها من جوانب شخصية بحتة. ويعد العالم الجليل الدكتور عبدالعظيم رمضان الشخصية المصرية الوحيدة التى قرأت هذه المذكرات بشكل وطنى ومحايد، وتتناول هذه الحلقة رؤيته الفكرية لهذه المذكرات، ومن خلال هذه الرؤية نتعرف على شخصية سياسية ندر أن يجود بها الزمان. تعتبر مذكرات سعد زغلول، بدون جدال، أهم مذكرات السياسيين والزعماء التى صدرت فى القرن العشرين، وذلك لعدة أسباب: السبب الأول، أنها كتبت فى شكل يوميات وليست فى شكل مذكرات، ومعنى ذلك أنها كتبت فى الوقت الذى كانت ذاكرة سعد زغلول لا تزال تحفل بكل التفاصيل الدقيقة والكبيرة، وبذلك تميزت بمصداقية لم تتميز بها مذكرات أخرى. كما تميزت المذكرات بأنها كتبت لصاحبها ولم تكتب للجمهور، وبالتالى فهى تتميز بنبرة الصدق والأمانة، لأن أحداً لا يكذب على نفسه، ما تنعدم منها الصفة الدفاعية عن النفس، كما يحدث عادة فى نوع المذكرات التى تكتب لأغراض خارجية، بل ان سعد زغلول فى هذه المذكرات ينقد نفسه نقداً لاذعاً، ويدين نفسه فى بعض المسائل الخاصة. ويسلم نفسه غنيمة سهلة لمن يريد أن يهاجمه بعد مماته. السبب الثانى، أن سعد زغلول لم يكتب هذه المذكرات للحديث عن الغير فقط، وإنما كتبها للحديث عن نفسه أيضاً، ولتسجيل خواطر وانفعالاته وبالتالى فهذه المذكرات لا تكشف فقط عن أحداث سياسية، وإنما تكشف أيضاً عن مشاعر، وكان سعد زغلول فى ذلك صريحاً لدرجة لم تعهدها مذكرات السياسيين والزعماء من قبل، ولهذا السبب لم يكن فى حاجة إلى تحسين خطه، على الرغم من أن خطه فى الأصل خط جميل، وقد أثبتنا ذلك فى تحقيقنا لمذكرات سعد زغلول. ومن هنا ما اشتهرت به مذكرات سعد زغلول من رداءة الخط وصعوبة فك طلاسمه، خصوصاً عندما يكون فى حالة انفعالية. وقد كنت أكثر من عانى من قراءة هذا الخط، فى أثناء تحقيقى مذكرات سعد زغلول، وأذكر فى ذلك، عندما كتب يعبر عن حزنه لموت صديقه قاسم أمين، لقد كتب رثاءه ببلاغة على نحو يتطلب من المحقق كل تضحية ليقرأها كاملة، وأذكر أننى أمضيت ثلاث عشرة ساعة فى قراءة خمس كلمات، فى هذا الرثاء، وعندما نشرت مذكرات سعد زغلول حرصت على أن تكون صفحة الغلاف الخلفية صورة من صفحة من مذكرات سعد زغلول، لمساعدة القارئ على فهم صعوبة قراءة هذا الخط. السبب الثالث، أن هذه المذكرات لا تلقى الضوء فقط على الأحداث السياسية التى رآها وشارك فيها سعد زغلول، وإنما تكشف أيضاً عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التى كانت سائدة فى عصر سعد زغلول. أما السبب الرابع، فهو ان سعد زغلول لم يكن شخصية عادية، وإنما كان شخصاً شغل العديد من المناصب، وعلى رأسها الوزارة، وبالتالى فإنه كان فى الموقع الذى يستطيع أن يكشف فيه أسرار العلاقات بين سلطات الاحتلال والقوى الوطنية. السبب الخامس، أن سعد زغلول لم يكن مجرد سياسى مصرى، وإنما كان وطنياً من الطراز الأول، ومن هنا فإن رؤيته للاحتلال البريطانى هى رؤية صادقة ومطلوبة. ولقد كان سعد زغلول على مستوى المسئولية الأدبية والشجاعة الفذة، حين ترك هذه المذكرات لبنى وطنه، دون ان يجرى فيها أى تغيير أو تعديل أو تبديل، على الرغم مما احتوته من جوانب شخصية بحتة كان فى وسعه تمزيقها بسهولة، وابقاء الجوانب العامة، خصوصاً ان كثيراً مما ورد فى هذه الجوانب الشخصية قد يؤثر على صورته العامة فى نظر البعض كزعيم أمة وقائد ثورة، إنه يعبر عن مراحل الضعف الإنسانى الذى يحرص كثير من الزعماء على إخفائه، للحفاظ على صورة البطولة الوضاءة وحدها تخطف أبصار الجماهير. ولكن سعد زغلول ترك هذه الجوانب الشخصية من المذكرات كما هى، فأتاح لنا استكمال صورة شخصيته العامة لكى تعرف الجماهير أن البطولة ليست بطولة إلهية، وإنما هى بطولة إنسانية، وأن ان البطل هو بشر من البشر يخطئ ويصيب ويتعثر ويقوم، ويضعف ويقوى، وأنه لا إنسان معصوم من الخطأ، وإنما عليه ان يبادر بإصلاح هذا الخطأ، مهما كلفه ذلك من جهد وثمن. ولعل سعد زغلول، وهو يترك شخصيته للأجيال فى صورتها الإنسانية، كان يدرك انه يتيح لذوى النفوس الضعيفة، والأفكار المريضة أسلحة يسعون بها لطعنه إذا شاءوا، ولكن ايمانه يغلبه الحق على الباطل، ويغلبه الفكر الصحيح على الفكر السقيم، دعاه إلى إبقاء كل ما كتبه على حاله. لم يكتب سعد زغلول مذكراته فجأة، وإنما سبقتها تجارب تشير إلى استعداده الشخصى لتسجيل مذكراته، وقد بدأت هذه المحاولات فى «18 أكتوبر 1897» ولم تكن مذكرات بالمعنى المتواضع عليه، وانما كانت ملخصات لقضايا عرضت اثناء ما كان قاضياً بجلسات من 18 اكتوبر 1897 إلى 13 ديسمبر من العام نفسه، وبالتالى فهى لا صلة لها بالأحداث السياسية، ولا بحياة سعد زغلول الشخصية أو العامة، وأهميتها تتمثل فيما يلقيه علماء الاجتماع من ضوء على المجتمع المصرى فى تلك الفترة، والذى لم يكن بالنقاء الذى يصوره بعض من يتحدثون عن الانحلال الخلقى فى مجتمعنا المعاصر، بل كان ككل المجتمعات- على مر العصور يحفل بالسلبيات الخلقية جنباً إلى جنب الإيجابيات البناءة. تعتبر أول محاولة من سعد زغلول لكتابة مذكرات حقيقية، هى التى وردت فى الكراسة الثانية، ولا تشمل سوى يومية واحدة فى صفحة واحدة كتبها سعد زغلول فى يوم «2 مارس 1903» وكانت عن انتقاله من بيته الذى كان قد بناه فى الظاهر إلى بيت حميه مصطفى فهمى باشا، وقد استعرض فيها سعد الفترة السابقة من «30 يناير 1902»- فيما يختص بحركة سكناه حتى انتقاله إلى بيته الجديد فى حى الانشاء الأرستقراطى، حيث يوجد إلى الوقت الحاضر، وبطبيعة الحال فإن لفظ مذكرات ينطبق على هذه الكراسة لولا ان سعد زغلول كتب بها ملخص قضية أخرى من طراز ما كتبه فى الكراسة الأولى. وقد قام سعد زغلول بمحاولة أخرى لكتابة المذكرات فى يوم «30 يو نيه 1903» بمناسبة أطيان اشتراها بمديرية البحيرة، وقد عاد إلى التعليق عليها فى سنة 1910، عند بيع هذه الأطيان، وقد سجل فى أكتوبر 1905 فى الكراسة نفسها كشفاً بمصاريف منزله، وهو وان كان لا يدخل تماماً فى باب المذكرات إلا أنه- على كل حال- يرسم صورة لحياة سعد زغلول الخاصة. وقد سجل سعد زغلول فى الكراسة نفسها كتابة خاصة بعمليتين ماليتين له فى البورصة فى 10 و26 نوفمبر 1916، أى بعد أحد عشر عاماً. وتبدأ مذكرات سعد الحقيقية من الكراسة الخامسة، وتبدأ من أول يناير 1907، ولم يكتبها سعد بخط يده وإنما أملاها على سكرتيره. وكان سعد زغلول قد عين فى «28 أكتوبر 1906» ناظراً للمعارف وقد قام بزيارة الوجه القبلى فى يوم «30 ديسمبر 1906» لتفقد مدارسه، وشاء تسجيل هذه الزيارة. ويلاحظ أن سعد زغلول قد كتب بعض الكراسات بخط يده، والبعض الآخر أملاها على سكرتيره أو أقاربه. ومنذ انتظم سعد زغلول فى كتابة مذكراته من أول يناير 1907، لم يتوقف عن الكتابة إلا مرغماً! وأغزر كتاباته هى التى كتبها فى الفترة التى تولى فيها نظارتى المعارف والحقانية، وفترة الحرب العالمية الأولى وفترة ثورة 1919، والمفاوضات مع ملنر. فقد كتب فى الفترة الأولى «777» صفحة وهى فترة تبدأ من أول يناير 1907 إلى 31 مارس 1912. أما الفترة الثانية فقد كتب فيها «572» هى فترة تبدأ من «18 ديسمبر 1914» إلى «12 أكتوبر 1918». أما الفترة الثالثة، فقد كتب فيها سعد زغلول «647» وهى تبدأ من «19 أكتوبر 1918» إلى «18 يوليو 1922». وليس معنى ذلك أن سعد زغلول كان يكتب يومياً وإنما معناه انه كان يكتب بانتظام، لمدة عشرين عاماً متواصلة! مع فترات انقطاع قد تقصر إلى أيام أو تطول إلى أشهر، وقد يكون الانقطاع داخل الكراسة الواحدة، وقد يكون بين الكراسة وتاليتها. ولم يقدم سعد زغلول تعليلاً لانقطاعه عن الكتابة لأنه كان يكتب لنفسه، وليس مطالباً بالتالى لتقديم هذا التعليل، فلم يقدم تعليلاً لانقطاعه ستة أشهر تقرباً من يناير إلى يوليو 1914، ولم يقدم هذا التعليل أيضاً لانقطاعه عن الكتابة من 7 يوليو 1914 إلى مارس 1915، وعندما استنزف الكتابة يوم 26 مارس 1919، بعد انقطاع من يوم «9 مارس 1919»، اكتفى بالقول إنه: «من 6 مارث «مارس» لم أكتب شيئاً من المذكرات». وقد تضمنت مذكرات سعد زغلول بعض الصفحات باللغة الفرنسية التى كان قد شرع فى تعلمها فى أعقاب تعيينه نائب قاض فى «27 يونيه 1982»، كما تضمنت صفحة واحدة باللغة الألمانية التى كان قد أخذ فى تعلمها فى كارلسباد قبل الحرب العالمية الأولى، ليسهل عليه التفاهم مع اهل البلاد، وقد تعلمها على يد الآنسة فريدة كابى، التى أخذت تشرف على بيته منذ سنة 1911. ومن الغريب أن سعد زغلول طوال نظارته للمعارف والحقانية، وحاجته إلى التعامل مع سلطات الاحتلال الإنجليزية، لم يكن يعرف الإنجليزية! اكتفاء باللغة الفرنسية التى كانت لغة الدبلوماسية، ولم يبدأ تعلم الإنجليزية إلا فى مالطا أثناء فترة نفيه الأولى، وكانت على يد أحد المعتقلين الألمان الذين يعرفون الإنجليزية ثم واصل دراسة الإنجليزية أثناء فترة نفيه الثانية فى سيشل على يد مكرم عبيد الذى كان منفياً معه، ومن هنا لم تتضمن المذكرات صفحات بالإنجليزية. تتكون مذكرات سعد زغلول الموجودة فى دار الوثائق القومية من 53 كراسة، وهى مرقمة من رقم 1 إلى رقم 3008، فيما عدا الكراسة الأخيرة التى لم ترقم وعدد صفحاتها عشر، ومعنى ذلك أن عدد صفحات هذه المذكرات هو 3018. على أن هذا هو العدد الظاهر أما الرقم الفعلى فيختلف تماماً، ويرجع ذلك إلى الظروف التى تم فيها الترقيم، لقد كانت هذه المذكرات- كما روت الآنسة فريدة كابى الألمانية الجنسية التى عاشت فى منزل سعد زغلول كمترجمة ووصيفة لأم المصريين- مبعثرة بين مكتبه الخاص الذى يقع فى الدور الأول من بيت الأمة وغرفة المكتبة التى تقع فى الدور نفسه، وقد ظلت كذلك بعد وفاة «سعد»، ولم يلبث أن وقع حادث كاد يؤدى إلى فقد إحدى عشرة كراسة، فقد تعود «سعد» أن يكتب مذكراته فى كراسة مدرسية ويترك فى أولها صفحات دون كتابة وعدة صفحات أخرى فى آخرها دون كتابة أيضاً، وبعد وفاة «سعد»، وبينما كان أحد الموظفين يقوم بتنظيف المكتبة، وجد بعض هذه الكراسات القديمة فظنها دون كتابة وألقى بها فى سلة المهملات، وتصادف أن رأى مصطفى أمين- وهو ابن رتيبة بنت أخت سعد زغلول وابنته المتبناة، وكان عمره وقتذاك اثنى عشر عاماً- هذه الكراسات فى السلة فأخذها لاستعماله الخاص ولكنه اكتشف فيها المذكرات فسلمها إلى السيدة صفية زغلول. عند ذلك قررت صفية زغلول جمع المذكرات فى مكان واحد وكلفت الآنسة «فريدة»، وقد قامت «فريدة» بذلك بطريقة متعجلة فلم تراع الترتيب الزمنى للكراسات ربما لتعذر قراءة خط سعد زغلول وعدم استعانتها فى ذلك بأحد فلم يعد التسلسل الرقمى للكراسات متفقاً مع التسلسل الزمنى. فإذا صح هذا الاجتهاد، فإن الكراسة الناقصة تكون قد ضاعت بعد ترقيم فريدة كابى الصفحات وقبل ترقيم الكراسة فى بيت سعد زغلول، ولا تكون قد ضاعت من خزانة مصطفى النحاس؛ لأن أرقام الكراسات فى شكل مسلسل من رقم 1 إلى رقم 53 أى انه قد تكون هذه الكراسة قد فقدت- لأى سبب من الأسباب- بعد ترقيم الصفحات ولما جاء دور ترقيم الكراسات ذاتها تمت ترقيم الكراسة التالية لرقم 27 برقم 28 دون ملاحظة غياب الكراسة الحقيقية! على كل حال- وسواء صح هذا الاجتهاد أو لم يصح- فإننا يجب ألا نلقى مسئولية الأخطاء التى وقعت فى ترقيم المذكرات على فريدة كابى وحدها وإنما كان لطريقة سعد زغلول فى استخدام الكراسات نصيب كبير فى ذلك! فقد ذكرنا كيف أن بعض الأجندات التى كانت يكتب فيها سعد زغلول من الشمال إلى اليمين رقمتها «فريدة» من اليمين إلى الشمال كما هو الحال فى الكراسة الخامسة. ويمكن تقسيم حياة سعد زغلول السياسية إلى أربع مراحل: المرحلة الأولى: مرحلة توليه نظارتى المعارف والحقانية، والمرحلة الثانية: مرحلة وكالته للجمعية التشريعية حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى، أما المرحلة الثالثة: فهى مرحلة زعامته لثورة 1919 حتى اغتيال السردار لى ستاك فى يوم 19 نوفمبر 1924، وتبدأ المرحلة الرابعة: فى أعقاب اغتيال السردار، وتنتهى بوفاة سعد زغلول فى يوم 23 أغسطس 1927. ولكل مرحلة ظروفها التاريخية التى أملت على «سعد» مواقفه السياسية وتتمثل- بالدرجة الأولى- فى علاقات القوى المتشابكة والمتعددة الأطراف والمتناقضة بين الاحتلال والقوى الوطنية من جانب، وبين الاحتلال والخديو من جانب آخر، وبين الخديو والقوى الوطنية من جانب ثالث. كما تتمثل فى التركيب الطبقى للمجتمع المصرى فى ذلك الحين، الذى كان يختلف كثيراً عن التركيب الاجتماعى الحالى، وتتمثل أيضاً فى تباين مواقف القوى الوطنية من الدولة العثمانية صاحبة السيادة على مصر فى ذلك الحين. وقد ولد سعد زغلول شهر ذى الحجة 1274 هجرية، الموافق يوليو 1858م، وهو التاريخ الذى صرح به سعد زغلول بنفسه لسكرتيره محمد إبراهيم الجزيرى، حين سأله أحد الطلبة عن تاريخ ميلاد سعد زغلول لتحتفل الأمة بذكراه، فقال «سعد» إنه «يظن- على ما سمع ممن شهدوا مولده- أن تاريخه 16 من ذى الحجة سنة 1274 هجرية». وعلى ذلك قدر «سعد» عمره فى الإحصاء العام الذى تم عام 1927 بتسعة وستين عاماً ميلادياً. على أن فتح الله بركات باشا أكد أن ميلاد سعد زغلول كان فى شهر ربيع الأول 1273 هجرية، وهو ما يوافق نوفمبر 1856م، وذكر أنه حقق هذا التاريخ قياسا على تاريخ ميلاد الشيخ إبراهيم عبدالرحمن زغلول ابن عبدالرحمن زغلول أخى سعد زغلول، وقد ولد الشيخ «إبراهيم» مع «سعد» فى أسبوع واحد، وهو حى وقتذاك معروف تاريخ ميلاده، ووارث له. على كل حال فقد كان ميلاد سعد زغلول فى مركز ابيانة بمركز فوة الذى كان تابعا وقتذاك لمديرية الغربية، وقد ولد من أسرة مصرية صميمة، وكان أبوه الشيخ إبراهيم زغلول، رئيس مشيخة القرية- أى عمدتها- وقد سبق له الزواج من سيدة أنجب منها بنتين هما فرحانة وستهم، وخمسة أولاد هم «عبدالرحمن»، و«شناوى» و«محمد» و«أحمد» و«شلبى». ثم تزوج من والدة «سعد»، وهى مريم بنت الشيخ عبده بركات، أحد كبار أصحاب الأراضى «وأخوها عبدالله بركات والد فتح الله بركات باشا»، وأنجب منها بنتا واحدة تدعى «ستهم»، و«سعد»، و«فتحى». وقد مات والد سعد زغلول وعمره لا يتجاوز الخامسة، فكلفته وشقيقه «فتحى» وشقيقته «ستهم»- والدته، يعاونها فى ذلك أخوه الشناوى أفندى، الذى كان قد تزوج بخالة «سعد». فى ذلك الحين كانت تقاليد الأسر القديمة فى الريف تقضى بأن ترسل أحد أبنائها إلى الأزهر، بركة وتقرباً إلى الله، وحتى يكون منها أحد رجال الدين، وترسل بالابن الآخر إلى المدارس الحكومية، لكى يصبح موظفاً يحمى بنفوذه فى الحكومية، لكى يصبح موظفاً يحمى بنفوذه فى الحكومة نفوذ الأسرة فى الريف. وكان نصيب «سعد» الالتحاق بالأزهر، باعتباره الولد الأكبر، أما أخوه «فتحى» فكان نصيبه المدارس الحكومية. ولما كان التعليم فى الأزهر يتطلب ضرورة حفظ القرآن الكريم أولا، وكان حفظ القرآن يتم فى «الكتاتيب» على يد بعض المشايخ، فقد التحق سعد فى السابعة من عمره بكتاب القرية، حيث مكث فيه خمس سنوات، تعلم فيها القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم. وفى سنة 1873، وفد سعد زغلول إلى القاهرة للالتحاق بالأزهر، وقد كان من حسن حظ سعد زغلول أن فترة وجوده فى الأزهر تميزت بوجود المفكر الإسلامى الكبير السيد جمال الدين الأفغانى فى القاهرة. ويعترف سعد زغلول بأن طريقة الأزهر فى التعليم هى التى كونت شخصيته الاستقلالية. وبسبب توثق علاقة «سعد»، بالشيخ محمد عبده، فقد أسند إليه تحرير جريدة «الوقائع المصرية» فى أوائل أكتوبر 1880، وترك «سعد» الأزهر قبل الحصول على شهادته فى 5 أكتوبر 1880. واستمر «سعد» فى جريدة الوقائع حتى نقل إلى وظيفة معاون بنظارة الداخلية 1882، ثم عين فى سبتمبر 1882. ناظراً لقلم القضايا بمديرية الجيزة «باشمعاون». ولم تلبث أحداث الثورة العرابية أن دهمت البلاد. وبعد الاحتلال اتهم سعد زغلول بالاشتراك فى جمعية سرية باسم «جمعة الانتقام»، وقد قبض على سعد وزميله حسين صقر يوم 20 يونيه 1883، وأحيلا إلى المحاكمة، على أن لجنة التحقيق لم تجد دليلاً يدين سعداً وزميله فقررت الإفراج عنهما. ولكن الحكومة رفضت الإفراج، وأبقتهما معتقلين بعد إعلان البراءة أكثر من ثلاثة أشهر! وقد خرج سعد زغلول من السجن ليستأنف عمله فى المحاماة، وقد استطاع أن يرفع من شأن وأهمية هذه المهنة المزدراة فى عصره، بفضل ما كان يتحلى به من شرف وعزة نفس وكفاءة وأمانة وجد. فلم يقبل قط الدفاع عن باطل، ولم يرفض الدفاع عن حق. لذلك طارت شهرته فى القطر المصرى، وانتخب عضوا فى اللجنة التى شكلتها محكمة الاستئناف لإصلاح قانون العقوبات. وقد كان بسبب شهرة سعد زغلول أن اختارته الأميرة نازلى فاضل وكيلاً لأعمالها، وقد أتاحت هذه الفرصة لسعد زغلول الاختلاط بالطبقة الأرستقراطية. وقد توثقت علاقة سعد زغلول بصالون الأميرة نازلى فاضل، خصوصا بعد عودة الشيخ محمد عبده إلى القاهرة من منفاه فى عام 1888، وأصبح من أصدقاء الأميرة. ومن خلال تردد سعد على الصالون تعرف عليه كثير من كبار الموظفين الإنجليز، ومنهم السير إفلن بيرنج «لورد كرومر فيما بعد». فى ذلك الحين كانت سلطات الاحتلال فى مصر قد اتبعت سياسة إحلال بعض المصريين محل الأتراك والشراكسة فى بعض الوظائف الحكومية الكبيرة، متبنية فى ذلك مطالب الثورة العرابية نفسها! ولم يكن السبب فى ذلك هو الحرص على مصالح المصريين، وإنما كان الكراهية للشراكسة والأتراك الذين كانوا يدينون بالولاء لتركيا. ولما كان سعد قد حاز شهرة واسعة فى المحاماة- كما ذكرنا- فلذلك عرضت الحكومة عليه وظيفة «نائب قاض» بمحكة الاستئناف بمرتب أربعين جنيهاً، وقد قبل سعد هذه الوظيفة، رغم ضآلة مرتبها بالقياس بربحه من مهنته كمحامٍ، الذى يصل إلى ستة آلاف جنيه سنوياً، وقد كان السبب الذى دعا سعد زغلول إلى قبول هذه الوظيفة، ما فيها من شرف، حيث لم يسبق لسعد أن عين قاضيا بالمحاكم الابتدائية! فى ذلك الحين لم يكن سعد زغلول قد حصل على ليسانس الحقوق، لأن هذا المؤهل لم يكن شرطاً فى تولى مناصب القضاء فى ذلك الحين، ولذلك قرر الحصول عليه، وشرع فوراً فى تعلم اللغة الفرنسية فى صيف 1892، ثم التحق بجامعة باريس فى أوائل عام 1896، وحصل على ليسانس الحقوق فى يوليو 1897. وبهذا الزواج استكمل جميع المؤهلات اللازمة لكسر الحاجز الاجتماعى الذى يحول بينه وبين الدخول فى الطبقة الأرستقراطية، التى كانت مقصورة فى معظمها على الأسر ذات الأصول التركية والشركسية بعد أن نجح فى الحصول على الشهرة، والثروة، والوظيفة، والتعليم العالى، والمصاهرة.