الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة، هكذا صاغ سعد زغلول الدرس الأول للديمقراطية وهو يؤسس حزب الليبرالية المصرية الوفد فى سبيل تحقيق استقلال الوطن .تحل اليوم ذكرى رحيله ونحن فى أشد الحاجة لاسترجاع مآثره ودروسه فى استقلال القرار المصرى ورفض التبعية والانسياق إلى الشعب باعتباره المصدر الأول للسلطة . سعد زغلول باعتراف خصومه وانبهار مُحبيه شخصية فريدة لا تتكرر .إن الكاتب الكبير عباس محمود العقاد يُحلل شخصية سعد زغلول واضعا يده على تلك السمات الفريدة فى مقال له كتبه بعد وفاة سعد بثلاث سنوات قال فيه: «رجل عازم حازم، فمن المستغرب أن يحسن الضحك ويجيد النكتة وأن يعرفه الناس بهذه الصفة الغريبة فى أمثاله بغير تعريف، رجل شديد صارم، فمن المستغرب أن يقال عنه أنه كان يبكى رحمة بالضعفاء، رجل متجرد للنضال السياسى، فمن المستغرب أن يعالج مشكلات الأمة الاجتماعية حيث كان أول حافز لقاسم أمين لتأليف كتابه، رجل صريح أية الصراحة فمن المستغرب أن يوصف بالدهاء». بهذه المتناقضات والقدرات العجيبة سكن سعد قلوب الناس وصار قائدا ابديا فى حياته ومماته، ولاشك أن المُطلع الجيد على أدب نجيب محفوظ يلحظ ذلك، فى رواية الثلاثية نجده الزعيم المحبوب الذى يحبه الجميع ويسيرون وراءه، وعلى لسان «فهمى» بطل رواية «بين القصرين» فإن ما قام به سعد زغلول قبل ثورة 1919 عمل مجيد لا يوجد من ينهض به مثله بعد نفى محمد فريد، وفى نفس الرواية يصل ايمان فهمى بعظمة سعد أن تقول له أمه أمينة «أين الرسول عليه الصلاة والسلام؟ كان الله يعينه بالملائكة على الكفار، فيرد عليها قائلا «سيعمل سعد زغلول ما كانت الملائكة تعمله». وفى «قصر الشوق» يظهر كمال عبد الجواد كمحب عظيم لسعد زغلول ويرد على لسانه «إنه ليس فى مصر من يتكلم باسمها الا سعد ، وأن التفاف الامة حوله جدير فى النهاية بأن يبلغ بها ما ترجوه من آمال»، وفى «حكايات حارتنا» ينقل الراوى عن الطفل الى ابيه ما يردده الناس عن اسم سعد الذى كان منقوشا على البيض بعد خروجه من الدجاج . وفى رواية «أمام العرش» يظهر سعد مهيبا مُقنعا عندما يسأل عن اسباب عدم التحاقه بالحزب الوطنى فى زمن مصطفى كامل وعمله بالوزارة فى ظل الاحتلال فيقول: «إن الحزب الوطنى كان يدعو إلى مبادئ خيالية مثل لا مفاوضة الا بعد الجلاء مما يعنى بقاء الاحتلال الى الابد، ومقاطعة وظائف الدولة العامة مما يعنى هيمنة الانجليز عليها»، ثم يقول «ولقد قبلت الحياة الرسمية لأمارس من خلالها ما استطيع من مقاومة ومن خدمات للوطن». وفى نفس الرواية يلتقى سعد زغلول بجمال عبد الناصر فيقول سعد له: لقد حاولت أن تمحو اسمى كما محوت اسم مصر! أما إحسان عبد القدوس فتظهر صفة الوطنية المتعقلة لصيقة بسعد زغلول فى كثير من رواياته، فمثلا فى رواية «فى بيتنا رجل» يقول زاهر افندى: «زمان كان فى قائد، كان فى سعد باشا زغلول، دلوقتى مين يفاوض الانجليز ويحقق الاستقلال». إن عظمة سعد زغلول ذلك القاضى الجليل ثُم المُحامى الجرىء تتمثل فى كيفية استحواذه على قلوب الناس واحترامهم حتى معارضيه وخصومه، منذ ولد سعد زغلول في قرية إبيانة التابعة لمركز فوة سابقاً بمديرية الغربية سابقًا عام 1857 وهو محط أنظار من حوله، شخص مختلف فى تفكيره وسلوكه يكتسب حب الناس اكتسابا، عندما التحق بالأزهر عام 1873 دفعته وطنيته الجياشة إلى لقاء جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والتعلم منهما، بل إنه عمل معهما في الوقائع المصرية،و انتقل بعد ذلك إلى وظيفة معاون بنظارة الداخلية لكنه فصل منها لاشتراكه في ثورة عرابى ثم اشتغل بالمحاماة لكنه قبض عليه عام 1883 بتهمة الاشتراك في تنظيم سرى اطلق عليه «جمعية الانتقام». وبعد ثلاثة أشهر خرج من السجن ليعود إلى المحاماة ثم توظف بالنيابة وترقي حتي صار رئيسا للنيابة وحصل علي رتبة الباكوية، ثم نائب قاض عام 1892، ثم حصل على ليسانس الحقوق عام 1897. كانت محبة الناس صفة ملازمة له حتى وهو رئيس نيابة ، ثُم قاض حتى أنه دُفع دفعا من مُحبيه للترشح فى دائرتين من دوائر القاهرة فى الجمعية التشريعية والتى كانت بمثابة برلمان مصر، بعدها انتخب داخل الجمعية وكيلا لها ممسكا بزمام الامور داخلها ومؤثرا فى كافة قراراتها. من هُنا أدرك الرجل تميزه على المستوى الشعبى وقدرته على جذب الجماهير بخطاباته المؤثرة ، وهو ما دفعه للتفكير فى تأليف الوفد المصرى . وطبقا لمذكراته التى حققها الدكتور عبد العظيم رمضان فقد دعا سعد أصدقاءه فى مسجد وصيف في لقاءات سرية للتحدث فيما كان ينبغي عمله للبحث في المسألة المصرية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في عام 1918م، وفى أول نوفمبر 1918 تشكل وفد مصري ضم سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وذهبوا إلى السير وينجت المعتمد البريطانى وتسجل الوثائق البريطانية ذلك اللقاء فى الوثيقة رقم 1710 لسنة 1918: «من وينجت إلى حكومة صاحبة الجلالة» استقبلت 3 من المصريين هم سعد باشا زغلول وعبد العزيز فهمى وعلى باشا شعراوى وجميعهم من السياسيين ذوى الآراء المتقدمة، وقد جاءوا يدعون للاستقلال الذاتى التام لمصر وهم لا يلتزمون بوسائل مصطفى كامل ومحمد فريد وإن كانوا يتفقون مع مبادئهما وقد اعربوا عن رغبتهم فى السفر إلى لندن ليتقدموا بمطالبهم، لقد نددت بأقسى الألفاظ بالحركة الوطنية السابقة وأبديت لهم نقدا صريحا لمختلف وجهات نظرهم الحالية وكررت لهم التحذير من أن عليهم أن يتحلوا بالصبر وأن يضعوا موضع الاعتبار الكثير من التزامات حكومة صاحب الجلالة». وقد رفعت الخارجية البريطانية تقريرا إلى الوزير محفوظ برقم 16 فى الوثائق البريطانية يستغرب توجه الوطنيين الثلاثة ويقول : « ليس بين الوطنيين المصريين الثلاثة من يستطيع أن يزعم أنه ممثل للشعب المصرى ، فسعد زغلول وفهمى محاميان وسجلهما معروف وربما كانا يمثلان طبقة معينة من المثقفين الانتلجنسيا لكن سعد قد حط من شأنه كثيرا، أما فهمى فخطيب قدير وله بعض الاتباع فى الجمعية الترسيعية وقد ادهشنى ان أرى على باشا شعراوى متصلا بهذين الرجلين ، فهو من اصحاب الاراضى الواسعة فى المنيا وهو متعصب لا يتكلم الا بالعربية وغير محبوب لدى الفلاحين . ومما يؤسفنى أن السير رينجت لم ينبذ هؤلاء الوطنيين بطريقة اشد حزما من الطريقة التى استخدمها، فعلينا أن نجعل سياستنا واضحة تمام الوضوح والا تعرضنا لكثير من المشاكل فى المستقبل». لكن سعد زغلول ورفاقه كان لهم رأى آخر ، فقام بتشكيل الوفد المصرى وجمع توكيلات من المصريين فى مختلف ربوع مصر للتفاوض باسمها طلبا للاستقلال، ونجحت الفكرة نجاحا عظيما أقلق السلطان فؤاد والسلطات البريطانية ، ودفعها إلى اتخاذ قرار اعتقال سعد وأصحابه ونفيهم إلى مالطا. وقد جمعوا توقيعات من الناس لإثبات صفتهم التمثيلية وجاء في الصيغة: «نحن الموقعين على هذا قد أنبنا عنا حضرات: سعد زغلول و.. في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلاً في استقلال مصر تطبيقاً لمبادئ الحرية والعدل التي تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمى. واعتقل سعد زغلول ونفي إلى مالطة هو ومجموعة من رفاقه في 8 مارس 1919 فانفجرت ثورة 1919 التي كانت من أقوى عوامل زعامة سعد زغلول، و اضطرت إنجلترا إلي عزل الحاكم البريطاني وأفرج الإنجليز عن سعد زغلول وزملائه وعادوا من المنفي إلي مصر، وسمحت إنجلترا للوفد المصري برئاسة سعد زغلول بالسفر إلي مؤتمر الصلح في باريس ليعرض عليه قضية استقلال مصر. لم يستجب أعضاء مؤتمر الصلح بباريس لمطالب الوفد المصري فعاد المصريون إلي الثورة وازداد حماسهم، وقاطع الشعب البضائع الإنجليزية، فألقي الإنجليز القبض علي سعد زغلول مرة أخرى، ونفوه مرة أخرى إلي جزيرة سيشل في المحيط الهندى، فازدادت الثورة اشتعالاً، وحاولت إنجلترا القضاء على الثورة بالقوة، ولكنها فشلت مرة أخرى. وعاد سعد من المنفي وقام بتأسيس حزب الوفد المصري ودخل الانتخابات البرلمانية عام 1923م ونجح فيها حزب الوفد باكتساح، تولي رئاسة الوزراء من عام 1923م واستمر حتي عام 1924م حيث تمت حادثة اغتيال السير لي ستاك قائد الجيش المصري وحاكم السودان والتي اتخذتها سلطات الاحتلال البريطاني ذريعة للضغط علي الحكومة المصرية والتدخل فى شئونها وهو ما رفضه سعد وقدم استقالته، بعد ذلك ظل سعد قائدا وزعيما للأمة إلى ان رحل فى 23 اغسطس عام 1927.