ذلك اليوم هو البداية. لولا ما جرى ما ولد الوفد. فى صبيحة 13 نوفمبر 1918 التقى ثلاثة رجال بالمعتمد البريطانى فى مصر السير ونجت، بعد أن اتصلوا بحسين رشدى رئيس الوزراء وحثوه على تقدم مصر بمطالب الاستقلال بعد أن وضعت الحرب الكبرى «العالمية الأولى» أوزارها. الرجال الثلاث هم سعد زغلول وكيل الجمعية التشريعية وعبد العزيز باشا فهمى، وعلى باشا شعراوى. وكان «رشدى» الذى تلقى تعليمه فى أوروبا قد عاد إلى مصر ليتم اختياره وزيرا للحقانية عام 1908 قبل أن يكلف بتشكيل الحكومة عام 1914 وقد كان وصيا على العرش عند خلع عباس حلمى الثانى حتى تولاه السلطان حسين كامل، وظل الرجل على رأسه الحكومة حتى عام 1919، وقد كان مرتبطا بعلاقات جيدة بزغلول ومؤمنا بوطنيته، لذا فقد توسط ليرتب لقاء زغلول وزميليه بالسير ونجت، وهو اللقاء الذى وصلنا تفاصيله فى مذكرات سعد باشا زغلول، وعدد من الوثائق البريطانية. كان اللقاء ساخنا على غير ما توقع «وينجت» حيث كان يعتبر الزعماء الثلاث من الساسة المعتدلين، وأنه التقى بهم من قبل فى مناسبات عديدة. لقد استغرب السير وينجت الذى اختير مندوبا بريطانيا فى مصر عام 1917 لهجة الزعماء الثلاث الذين التقاهم لأنهم لا يستندون إلى أى قوة حقيقية، وأن مطالبهم لا تستند إلى أى علاقة بالشارع. وفى الواقع فإن ذلك لم يكن حقيقيا، خاصة فيما يتعلق بسعد زغلول الذى كان انتخب بالجمعية التشريعية عن دائرتين فى القاهرة، والذى كان يلتقى سرا برجل غامض سيكون فيما بعد حلقة الاتصال بينه وبين الشارع الثائر وهو عبد الرحمن فهمى. لقد رفض «وينجت» مطالب الزعماء بالسماح لهم بالسفر لعرض قضية مصر والمطالبة بالاستقلال وكانت حُجته أن مصر فى حاجة دائمة لمن يدافع عنها. كما أن الرجال الثلاثة لا يمثلون الشعب المصرى خاصة أن هناك سلطانا قائما هو السلطان فؤاد، ورئيس حكومة هو حسين باشا رشدى. والقصة معروفة فيما بعد عندما خرج سعد ليؤسس وفدا للسفر مُطلقا حملة توكيلات تجوب كافة أنحاء الجمهورية لتؤكد قيام الأمة المصرية باختيار سعد وزملائه ممثلين للشعب. وكانت لمجابهة سلطات الاحتلال لذلك باعتقالها سعد وزملاءه ونفيهم حافزا لقيام عبد الرحمن فهمى باشعال الثورة. ويمكن القول إن رجال 18 نوفمبر كانوا الركيزة الأساسية لانطلاق الثورة رغم خروج بعضهم من الوفد، واختلاف بعضهم مع سعد زغلول نفسه. ولا شك أن ابرز هؤلاء عبد العزيز باشا فهمى والذى ولد في كفر المصيلحة بمحافظة المنوفية في 23 ديسمبر 1870 ودرس الحقوق وحصل على الليسانس عام 1890 وقد عمل بالقضاء لكنه استقال وافتتح مكتبا للمحاماة، وقد تناقش مع عدد من الساسة والمحامين حول حقوق مصر فى الاستقلال وأعجبه فكرة تكوين وفد مصرى لعرض قضية مصر على عصبة الأمم وانضم لسعد زغلول ممثلا للوجه البحرى. وبعد قيام الثورة اختلف «فهمى» مع سعد باشا وقدم استقالته. وقد ترأس حزب الأحرار الدستوريين وتولى وزارة الحقانية، ثم اعتزل السياسة تماما وتفرغ للمحاماة. كما اهتم بالأدب والكتابة إلى أن رحل عام 1951. أما على باشا شعراوى فهو واحد من اعيان محافظة المنيا، وقد انخرط في العمل السياسي في سن مبكرة خاصة أن خاله كان أحد أعضاء المجلس النيابى الأول، وقد سجل السير وينجت اعجابه بحجج «شعراوى» خلال محادثة 18 نوفمبر خاصة أنه قال للمعتمد البريطانى «نحن نريد أن نكون أصدقاء لبريطانيا صداقة الأحرار لا العبيد». وكان على باشا متزوجا من هدى شعراوى التى ساهمت فيما بعد فى تبنى الدعوة لتحرير المرأة، وقد نفى مع سعد باشا إلى جزيرة مالطا، لكنه اعتزل السياسة فيما بعد حتى وفاته. ومن الشخصيات المهمة التى ولدت سياسيا فى ذلك اليوم حمد الباسل والذى ينتمى الى قبيلة شهيرة استوطنت فى الفيوم وذاع صيتها. ولد حمد عام 1871 فى بيئة تحكمها التقاليد والعادات العربية الأصيلة. وامتد نفوذ عائلته الى مختلف أنحاء الفيوم لتسيطر على كثير من الاراضى الزراعية، وهو ما يؤهل حمد الباسل للترشح فى الجمعية التشريعية والفوز بعضوية تلك الجمعية التى كان يترأسها سعد زغلول. وعندما قرر سعد باشا زغلول تشكيل وفد وطنى لعرض قضية مصر على عصبة الأمم يختار حمد الباسل ضمن ذلك الوفد ليتم اعتقاله ونفيه معه الى جزيرة مالطة، ولم يلبث أن أفرج الانجليز عنهم فى ابريل عام 1919. وتدور مناقشات واسعة بين سعد زغلول وزميله عدلى يكن حول اسلوب التفاوض ويرى «سعد» أن ما يعرضه الانجليز لا يحقق الاستقلال ويشتد الخلاف بين الفريقين وينشق عدلى يكن ومعه مجموعة تضم احمد لطفى السيد وعبد اللطيف المكباتى وحمد الباسل عن سعد زغلول ويواصلون مفاوضاتهم مع الانجليز. ويبدأ الانجليز فى حصار الوفد وملاحقة قادته ويشعر سعد زغلول باقتراب اعتقاله هو ومصطفى النحاس ومكرم عبيد ويخشى أن يبقى الوفد بلا قيادة فيبعث الى صديقه العربى الشهم حمد الباسل خطابا مقتضبا يقول له فيه «عد الى الوفد». وبالفعل يلبى حمد الباسل دعوة سعد زغلول ليتولى المسئولية فى غياب سعد ولا يلبث أن يتم القبض عليه مع كل من جورج خياط، مرقص حنا، علوى الجزار، ويصا واصف، وواصف غالى ويحكم عليهم بالاعدام. ويقف «الباسل» داخل المحكمة يندد بالظلم والطغيان ويرفض حكم المحكمة الانجليزية الاستثنائية. ويتم تخفيف الحكم الى السجن المشدد ويفرج عن المعتقلين السياسيين فى ظل حكومة سعد زغلول عام 1923 ويخرج حمد الباسل ليستنشق نسيم الحرية، ويبتعد قليلا عن السياسة حتى وفاته عام 1940. ومن رجال نوفمبر أيضا عبدالرحمن بك فهمى الضابط المصرى الذى خرج إلى المعاش ولم يترك ما لديه من بيانات ومعلومات تفصيلية عن القطر المصرى والتى عرضها على سعد باشا طالبا منه أن ينشئ جهازا سريا، يلجأ إليه اذا تم القبض عليه، وهو ما جرى بالفعل، وقد ابتكر «فهمى» أساليب سرية لتوزيع المنشورات وتحريض الطلبة ومقاومة الانجليز حتى قبض عليه وحوكم وصدر الحكم باعدامه ثم خفف إلى السجن المؤبد، ثم أفرج عنه خلال وزارة سعد زغلول وتفرغ للنشاط العمالى حتى وفاته فى 1946.