سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
رفعت السعيد يكشف وثائق جديدة عن ثورة 1919: مصر تصنع زعيماً الوثائق تقدم صورة نادرة لتحركين الأول مرتعش يخشى الاحتلال والجماهير معاً والآخر ثورى يرفض التهادن ويندد بالمرتعشين
كنز من الوثائق ومنشورات ثورات 9191، أهداه لى الصديق د. عزيز رياض، وقد عثر عليه ضمن موجودات والده الدكتور أحمد رياض صاحب الموسوعة الزراعية، وهى وثائق بالغة الأهمية فى فهم الثورة التى كانت منذ 59 عاماً، وربما فى فهم حاضرنا أو بعض منه. كانت النخبة فى مصر تفوح منها رائحة الترفع التركى والشركسى على كل ما هو مصرى. كانوا يكرهون الاحتلال البريطانى فى صمت لأنهم كانوا مع الخليفة التركى. وكثيرون من النخبة كانوا حتى لا يتقنون الحديث باللغة العربية ولا يتخيلون إمكانية التعامل مع «رعاع» المصريين. ويمكن القول إن الأحداث التالية للهزيمة المريرة للثورة العرابية قد أحبطت الكثيرين من المثقفين والنخبة المصرية الأصل، الذين تواصلوا بشكل أو بآخر مع العرابيين وهُزموا معهم ونالهم كثير من العنت والاضطهاد. ومن هؤلاء كان سعد زغلول الذى كانت علاقته بالثورة محدودة ومع ذلك فصلوه من وظيفته التى ساعده أستاذه محمد عبده فى الحصول عليها. وكان «سعد» طالباً أزهرياً لكنه لبس البدلة والطربوش ودرس بعضاً من القانون وعُين بقلم قضايا الجيزة بمرتب كبير جداً (51 جنيهاً شهرياً). طلب الإنجليز من «زغلول» أن يعتذر عن علاقته ببعض العرابيين فرفض، وطلبوا منه أن يتملق الإنجليز ويُدين الثورة والثوار نظير إعادته إلى وظيفته فأبى لرجولته (عباس العقاد - سعد زغلول سيرة وتحية، ص 96). واضطر «سعد» إلى الاشتغال بالمحاماة وكانت مهنة وضيعة إلى درجة أنه قال: «اشتغلت بالمحاماة متنكراً عن أهلى وأصحابى، وكلما سألنى سائل: هل صرت محامياً؟ أقول معاذ الله أن أكون كقوم خاسرين». (العقاد - المرجع السابق). ويُقبض على «سعد» بتهمة تأليف جمعية سرية لاغتيال عملاء الإنجليز اسمها «الانتقام» (زكى فهمى - صفوة العصر فى تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر - ج 1 - ص 531)، وكان الدليل الوحيد ضده عبارة غلاف كتاب تقول: «ولى فى ضمير الدهر سر ظاهر»، وحُوكم أمام لجنة برئاسة القاضى البلجيكى فلمنكس. وأمرت بالإفراج عنه، وعاد «سعد» إلى مهنة المحاماة وبرز فيها وأصبح من قمم الصفوة، وفى صالون الأميرة نازلى جرى صقله ليصبح واحداً من النخبة. فنصحته «نازلى» أو أمرته بأن يتعلم اللغة الفرنسية والقانون وتخرج فى 7981 بتفوق. ثم كان أول محامٍ يُعين قاضياً. ورغم مساندة «نازلى» التى كان صالونها المكان الأمثل لتلاقى الإنجليز مع النخبة المصرية. ظلت الحكومة البريطانية رافضةً التعامل الجدى مع «سعد» وأمثاله. ففى 7881 كتب ويلفريد بلنت رجل المخابرات البريطانية العتيد، الذى كان صديقاً للعرابيين، إلى وزير الخارجية البريطانى، معترضاً على عدم وجود أى وزير من أصل مصرى، مقترحاً قائمة من بينها «سعد» لاختيار وزراء منهم. وكان الرد البريطانى: «فى الظروف الراهنة يصبح تعيين واحد من أصدقاء (بلنت) حاكماً أو وزيراً فى مصر أمراً مثيراً للسخرية تماماً كما لو عين أحد رؤساء قبائل الهنود الحكم المتوحشين حاكماً عاماً على كندا. إن أصدقاء (بلنت) مجرد متعصبين، فاسدين وجهلة» (وثائق الخارجية البريطانية - المتحف البريطانى - من بارينج إلى ساليزبيرى). لكن «سعداً» تحول إلى القاضى الأكثر شهرة. وبترتيب من الأميرة نازلى تزوج «سعد» ابنة مصطفى فهمى باشا رئيس الوزراء الدائم، لتكتمل مكانته الاجتماعية بمصاهرة أحد أهم رجال النخبة التركية.. وفى عام 6091، أى بعد 41 عاماً فى سلك القضاء عُين وزيراً للمعارف العمومية. وذلك بعد أن وضع لنفسه ركيزة جماهيرية واسعة التأثير، فعندما كان الشيخ على يوسف على وشك الإفلاس وإيقاف جريدته «المؤيد» منحه عوناً مالياً مكنه من استمرارها (عفاف لطفى السيد - مصر وكرومر - ص 59 - من الطبعة الإنجليزية). وكان مسانداً متحمساً لقاسم أمين فى معركة تحرير المرأة، فاستحق أن يهديه قاسم أمين كتابه. كما منح مصطفى كامل قدراً مهماً من المساندة. ومع الدعوة لتأسيس الجامعة المصرية كان «سعد» واحداً من أوائل المتبرّعين (تبرع بمائة جنيه)، ورغم معارضة الإنجليز صدر من منزله أول بيان يدعو الأمة المصرية إلى التبرع لإنشاء الجامعة (المرجع السابق - ص 79). وباختصار كان سعد زغلول يُعد نفسه، وبحماس ليصبح زعيماً. وكان اختيار «سعد» وزيراً قفزة مهمة فى هذا الطريق. ويفسر المؤرخون هذا التعيين بأنه محاولة لاسترضاء المصريين بعد حادثة دنشواى. ويقول فالنتين شيرول: «لقد اختاره كرومر مؤملاً أن يستخدمه فى التأثير على الشباب من الطلاب (شيرول - المسألة المصرية - ص 89 من الطبعة الإنجليزية)، وفى وثائق الخارجية البريطانية رسائل عدة من كرومر، نقرأ فيها «سعد زغلول رجل جاد ومجتهد»، وفى رسالة أخرى (مؤرخة مارس 7091) يقول كرومر: «زغلول ليس فقط أكفأ مصرى تعاملت معه وإنما هو أقوى من تعاملت معهم من المصريين شخصية» (march 3-1907) (f.o.633- october 27 - 1906). ويقول «شيرول» معلقاً: «كلما صعد نجم (سعد) ضد الإنجليز كلما انصبت الانتقادات على رأس (كرومر)» (ص 211)، وعبر منصبه كوزير للمعارف كرّس «سعد» زعامته الحقة. فكان أول وزير يُدلى بأحاديث للصحف، وأول وزير طاف فى الأقاليم، وأول وزير أبطل التحية العسكرية التى كان يقابل بها الوزراء على أبواب وزاراتهم. كما أنه قرر إقفال المدارس، احتفالاً بالعيد الهجرى. (جمال أحمد - المصادر الثقافية للقومية المصرية - 0691 - ص 23، من الطبعة الإنجليزية). ويقول عباس العقاد: «ومن أهم الأعمال التى قام بها (سعد) والتى جازف فيها بعلاقته بالأقوياء، عملان، أحدهما أغضب الإنجليز وهو نقل التعليم من الإنجليزية إلى اللغة العربية، وما ترتب على ذلك من تحضير الكتب وطباعتها وتدبير المدرسين وتغيير المناخ لنظام فرضه الإنجليز 52 عاماً، أما العمل الآخر فقد أغضب الخديو وشيوخ الأزهر، وهو إنشاء مدرسة القضاء الشرعى، ويقول (سعد) أنه دافع عن مشروعه بلهجة حاسمة جعلت وجه الخديو يحمر كطربوشه، وبهذه اللهجة تخيل الوزراء أن المشروع مدعوم من اللورد كرومر، فصوتوا مع (سعد) بالإجماع» (العقاد - ص 121) «وغضب الخديو وأقسم أنه لن يحضر جلسات مجلس الوزراء، ما دام (سعد) عضواً فيه» (جمال أحمد - ص 55) ثم عُين وزيراً للحقانية، ربما تمهيداً للتخلص منه. ولكن مكانة «سعد» اهتزت جماهيرياً إلى حد ما بسبب دفاعه المستميت أمام «الجمعية العمومية على قرار مد امتياز قناة السويس»، ورغم الدفاع الحماسى فقد صوتت الجمعية ضد المشروع. وكانت أكبر هزيمة تعرّض لها سعد هو وكل الوزارة. وفى عام 2191 استقال «سعد» من وزارة الحقانية أو بالدقة أجبر على الاستقالة بضغط من الخديو الذى تحالف مع المندوب السامى البريطانى الجديد كتشنر وخضع لرغباته. وأراد «سعد» أن يحصّن نفسه فقرر الترشح عضواً فى الجمعية التشريعية والمثير للدهشة أنه ترشح فى دائرتين فى القاهرة فى انتخابات الجمعية التشريعية عام 3191 وفاز فوزاً ساحقاً (لورد لويد - مصر منذ كرومر 3291 - الجزء 1 - ص 241 - الطبعة الإنجليزية).. واكتسب «سعد» بهذا الفوز مكانة مكنته من الفوز بوكالة الجمعية التشريعية فوزاً ساحقاً أيضاً. لكن «سعد» وبذكائه المعهود كرس زعامته عبر موقفين.. فمن فوق منصة الجمعية قال مخاطباً الجمهور: «أعرف أننى وأنا وزير قد عملت بحسن نية وإخلاص، عملاً لو عُرض على اليوم لكنت أول المعارضين له، فقد عُرض قانون المطبوعات فعارضته أولاً، ثم لم ألبث أن وافقت عليه، واشتركت فى تطبيقه لظروف بررتها أمام نفسى وهأنذا اليوم نادم على ما فعلت بالأمس»، ثم «فلا تهولنكم أشخاص الوزراء، ولا الفضل الذى تعرفونه فيهم، فقد تتغلب عليهم مراكزهم، فيعملون بحسن نية ما يظنون أن فيه فائدة للأمة وهو ليس كذلك». (العقاد - ص 131). إنه نقد ذاتى جدير بالاحترام، وهو أيضاً أمر نادر لكنه كان ضرورياً لكى يغتسل الزعيم المفترض من أخطاء الماضى. ومن منبر الجمعية التشريعية حقق الهدف الثانى.. فذات يوم سأله الأديب مصطفى لطفى المنفلوطى: «ما الذى تستفيده من إجهاد نفسك فى شئون قلما تنال فيها الأغلبية فى الجمعية؟ فأجابه «سعد»: «سواء لدى، نجحت أم لم أنجح، فإنى لا أخطب فى الجمعية وحدها بل فى الأمة جميعاً. ولا أخاطب الحاضر وحده، بل أخاطب المستقبل أيضاً».. وهكذا تكرست الزعامة، وهو أمر لم يلقَ ترحيباً من كبار الملاك فوقف واحد منهم فى الجمعية التشريعية، قائلاً خلال مناقشة موضوع شركات التعاون: «إنما يريد واحد منا أن يتولى زعامة مجموع»، فقصفه «سعد»، قائلاً: «إن شئت أن تعرف حقيقتى فاعلم أننى رجل قد وضعت تحت تصرف أمتى عقلى واختبارى وبيانى، فإن استفادت الأمة منه فذاك يجعلنى سعيداً، وإلا فهو واجب أخذته على نفسى، أقوم به لأريح ضميرى، أما الذى يسرنى ويشرفنى فهو أن أكون خادماً لكم لا زعيماً» (العقاد - ص 961).. وأصبح مشروع الزعيم.. زعيماً حقاً. من الزعامة إلى الثورة وانتهت الحرب وبدأ الاستعداد لعقد مؤتمر الصلح.. وكان «سعد» يطمح كغيره فى الاستقلال، لكنه لم يكن يثق بالطاقة المصرية على الثورة. ويكتب فى مذكراته: «تلاقيت مع عدلى وتكلم معى فى هذه المسألة، ورأينا أن الأوفق أن نوسّط قنصل أمريكا، وفاتح رشدى القنصل ولم يجد لديه استعداداً». (المذكرات الخطية - كراس 23 - ص 3491)، وكان الأمير عمر طوسون وحتى السلطان فؤاد يؤيدان فكرة إرسال وفد إلى مؤتمر الصلح، لكن الاختلاف كان حول تشكيل الوفد وأهدافه. ويقول عبدالعزيز فهمى: «كان الأكثر انشغالاً بهذه الفكرة أحمد لطفى السيد وسعد زغلول ومحمد محمود وعلى شعراوى وعبدالعزيز فهمى (هذه حياتى - ص 27)، وذهب وفد من سعد زغلول وعبد العزيز فهمى وعلى شعراوى لمقابلة المندوب السامى وينجت، مطالبين بالسماح لهم بالسفر لعرض المسألة المصرية على مؤتمر الصلح. وكان وينجت جافاً وحاداً فقال: «كونوا متبصرين، فإن المصريين لا ينظرون إلى العواقب البعيدة. وسأله «سعد»: «إن هذه العبارة مبهمة، ولا أفهم المراد منها». فقال وينجت: «أعنى أن المصريين ليس لهم رأى عام بعيد النظر». وأبدى «سعد» رفضه هذه العبارة، فتدخل شعراوى باشا، مهدئاً فقال: «إننا نريد أن نكون أصدقاء للإنجليز، صداقة الحر للحر لا العبد للسيد»، فقاطعه وينجت محتداً: «إذن أنتم تطلبون الاستقلال»، فقال «سعد» محتداً: «نعم. ومتى حصلنا على الاستقلال التام نعطى الإنجليز ضمانة بعدم المساس بمصالحهم، وضمانة فى طريقهم إلى الهند عبر قناة السويس، ونجعل لهم وحدهم حق احتلالها دون غيرها عند الاقتضاء، بل نحالفهم على غيرها ونقدم لهم عند الاقتضاء ما تستلزمه المحالفة من الجنود» «العقاد - ص 691». ورغم الجفاء الذى قابل به وينجت الوفد فإن الخارجية الإنجليزية لامته بشدة. وكتب مسئول القسم المختص بشئون مصر تقريراً لوزير الخارجية يلوم فيه وينجت، قائلاً: «ليس بين الوطنيين الثلاثة من يستطيع أن يزعم أنه يمثل الشعب المصرى وأنه يؤسفنى أن وينجت لم ينبذ هؤلاء الثلاثة بطريقة أشد حزماً» (المتحف البريطانى - الأرشيف العام - 09581 - 7023/ 173) وأرسلت الخارجية إلى وينجت: «لا يمكن أن نُخفى أن هذه المطالب المتطرفة قد أثارت الاستياء هنا. فالمرحلة التى تُمنح فيها مصر الحكم الذاتى لم تحل بعد، وليست ثمة فائدة فى حضور هؤلاء إلى لندن لتقديم مطالبة غير معقولة، ولا يمكن قبولها، «الأرشيف العام - 72 نوفمبر 7 - 53001 - 4023/ 173»، وواصلت الخارجية البريطانية ضغطها فأرسلت برقية أخرى «أن هؤلاء الزعماء ليس لهم وزن كبير، ولكن الحركة يمكن أن تصبح خبيثة ويمكن أن تتسبب فى فتنة إذا ما مضت دون أن تُكبح»، وبخط يده علق وكيل الخارجية البريطانية على البرقية «سير وينجت يبدو ضعيفاً إلى درجة مخزية». وفيما كان البعض من قادة النخبة التركية الأصل، وكبار الأعيان يراجعون حساباتهم خوفاً من إغضاب الإنجليز ألقى الزعيم بقفازه فى وجه الجميع، السلطان والأمير عمر طوسون والأعيان فتوجه إلى الجماهير طالباً منها توكيلاً «فى السعى بالطرق السلمية المشروعة فى استقلال مصر استقلالاً تاماً»، وكان تشكيل الوفد المصرى مستحقاً للتأمل، فقد تشكلت اللجنة المركزية للوفد من 34 عضواً، منهم 63 من كبار الملاك بنسبة 13.38٪ (د. عاصم الدسوقى - كبار ملاك الأراضى الزراعية ودورهم فى المجتمع المصرى - ص 522»، ومستنداً إلى هذه التوكيلات بدأ «سعد» فى شن حملة ضارية ضد الاحتلال وضد الحماية. وعندما استقال رئيس الوزراء رشدى باشا، احتجاجاً على رفض الاحتلال سفر وفد مصر إلى مؤتمر الصلح، وجه «سعد» رسالة إلى السلطان حذّره، بل عنّفه فيها من أن يكون قبوله للعرش فى ظل الحماية «من شأنه أن يصرفكم عن العمل لاستقلال بلادكم»، وعقب هذه الرسالة أبرق المعتمد البريطانى مطالباً الإذن باعتقال سعد زغلول ونفيه، وأتت الموافقة على الفور. والحقيقة أن «سعد» كان فى حيرة من أمره. فبعد كل هذه التحركات لم يستجب الإنجليز، ولو بأقل قدر، وهو شخصياً لم يكن يتوقع تحركاً شعبياً ولو بأقل قدر أيضاً. وفى مساء اليوم التالى لإرساله البرقية للسلطان قال «سعد» لأحد أعضاء الوفد «إن الجماعة لم يأتوا» -أى لم يأتوا لاعتقاله- ثم قال: «هذا ليس بنافع، إنهم أما أن يدعونا نسافر أو يقبضوا علينا، وإلا فإنهم يتركوننا نموت فى مواضعنا» (العقاد - ص 122). هكذا كان «سعد» يجرى حسابات إما السفر وإما الاعتقال. ويقول «العقاد» فى كتابه المشحون بالتمجيد لسعد زغلول «إن سعد كان رأيه أن الثورة عمل شاق على بلد مرهق بالأعباء مشحون بالجند والسلاح والأرصاد» (ص 932). الطلبة فى مواجهة الاحتلال والباشوات ويروى «العقاد»: «أن أناساً كثيرين ليعجبون إذا عرفوا أن هذه الثورة المفاجئة لم يقع فيها تنظيم، ولم تكن فيها رئاسة مدبّرة على الإطلاق، وأن مظاهرة الطلبة الأولى وقعت على غير علم سابق من الوفد، بل على خلاف النصيحة التى سمعها الطلبة. فإن الطلبة قد أصبحوا مضربين فى مدارسهم وهم مختلفون فى الخروج أو البقاء فبعثوا إلى بيت الأمة أفراداً منهم يستفسرون أملاً فى أن تكون قيادة الوفد تدبر أمراً. وهناك التقى الوفد بالأستاذ عبدالعزيز فهمى، فانتهرهم انتهاراً شديداً، وهو يقول: (دعونا نعمل فى هدوء ولا تزيدوا نار الغضب اشتعالاً عند القوم)، فلما جادلوه صاح فى وجوههم (إن المسألة ليست لعب أطفال)، لكن مظاهرة الطلاب خرجت وتفجّرت الثورة وأضرب عمال الترام بعد الظهر، وفى اليوم التالى كانت القاهرة كلها فى حالة إضراب شامل. ولم يسكت الأعيان والباشوات، فأصدر قادة الوفد بياناً جاء فيه (إن الاعتداء على الأنفس وعلى الأملاك محرّم بالشرائع الإلهية والقوانين الوضعية، وإن قطع المواصلات يضر بأهل البلاد ضرراً بالغاً ومثل هذا العمل يضيع على المصريين ما ينتظرونه من عطف عليهم)». لكن الثورة مضت فى طريقها.. ومع تردد الأعيان وارتعاشهم استطاع «سعد» أن يمرق ليقود الثورة منفرداً وبلا منازع.. ولأن «سعداً» كان بالمنفى، فإن الطلاب ظلوا يناضلون ضد الاحتلال وضد تردد وارتعاش الأعيان الذين كانوا يخشون إغضاب الإنجليز ويخشون أيضاً ثورة الجماهير. وكانت عشرات البيانات التى هاجمت الأعيان وتندرت عليهم.. فإذا قيل لهم إن «المسألة ليست عبث أطفال» سنرى فى الوثائق بيانات موقعة تهكماً «أطفالكم»، وإذا طالبهم الأعيان بالتروى وعدم التسرع.. أصدروا بياناتهم باسم اللجنة «المستعجلة» وحتى العربجية أصحاب الحناطير أصدروا بيانات يتهكمون فيها على الموظفين الذين ترددوا فى المشاركة بالثورة. إنها وثائق بالغة الأهمية وتقدم فهماً جديداً لثورة 9191 وربما بعداً جديداً لفهم ما يجرى أمامنا الآن. وهذه الوثائق تقدم لنا صورة نادرة لتحركين، تحرك مرتعش يخشى الاحتلال والجماهير معاً وتحرك ثورى يرفض التهادن ويندد بالمرتعشين.. ويكرّس زعامة الذى أصبح الزعيم الوحيد سعد زغلول.