على الرغم من أن المنطقة المكدسة بوزارات الدولة، ويقع فيها متحف سعد زغلول، يتوافد عليها يوميا ستة ملايين مواطن، فإن متحف بيت الأمة، نصيبه من الزائرين، لا يتعدى نصف عدد أصابع اليد الواحدة، ومع ذلك يظل هذا المزار له فى نفوس ووجدان المصريين مكانة بارزة، حتى ولو مروا من أمامه يوميا، دون أن يدخلوه، حيث شهد بواكير وفاعليات ثورة 1919، وظل مسرحا للحركة الوطنية منذ أواخر عام 1918 وحتى نهاية عام 1937، وترجع أصل تسمية بيت الأمة إلى اللقاء المشهور، الذى جرى بين سعد زغلول ورفيقه عبدالعزيز فهمى وعلى شعراوى مع المعتمد السامى البريطانى ريجلند وينجت فى 13 نوفمبر عام 1918. أثناء محاولات سعد زغلول تكوين الوفد المصرى، وعمل إجماع وطنى عليه، من أجل المفاوضات، رأى أن يكون لديه توكيل خاص يوقع عليه جميع أعضاء الجمعية التشريعية وأكبر عدد ممكن من أعيان البلاد، تلك الجمعية التى كانت تناهض وجود الإنجليز فى مصر، حيث نص التوكيل على: نحن الموقعين على هذا التوكيل، الأعضاء بالجمعية التشريعية، قد أنبنا عنا حاضرات سعد زغلول باشا، عبدالعزيز فهمى بك، محمد على باشا، أحمد عبداللطيف السيد بك، ولهم أن يضموا لهم من يختارون فى أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعى سبيلا فى استقلال مصر استقلالا تاما، لكن عندما اطلع رجال الحزب الوطنى على هذه الصورة، ذهب الأستاذان مصطفى الشوربجى، ومحمد زكى على بك عضوا الحزب إلى سعد باشا، وناقشاه فى صيغة التوكيل، وفى هذه المناقشة شعر بشىء من الإهانة، فقال لهما: كيف تسمحان لنفسيكما مناقشتى بهذه الحدة، وكيف تهينانى فى منزلى؟!.. فأجاباه بأن هذا (بيت الأمة)، فانطفأت حدة سعد باشا، ومن هذا التاريخ أطلق هذا الاسم على بيت سعد باشا بيت الأمة. مشاهد خالدة ظل بيت الأمة مسرحا للحركة الوطنية طوال عقدين من الزمان العشرينيات والثلاثينيات فنرى مشهد إصرار الوفد على عقد اجتماع فى يوم 31 يناير عام 1919، الأمر الذى دفع الجنرال واطسون قائد القوات البريطانية فى مصر وبعد التشاور مع المندوب السامى البريطانى فى القاهرة إلى أن يبعث إلى سعد زغلول رسالة كان نصها: «يا صاحب السعادة، علمت أن سعادتكم تعدون اجتماعا فى منزلكم بمصر فى 31 الجارى يحضره نحو الستمائة أو السبعمائة شخص، إنى أرى أن مثل هذا الاجتماع، قد يحدث منه إقلاق للأمن، فبناء على هذا الإعلان الصادر تحت الأحكام العرفية أرجو أن تتكرموا بالعدول عن إقامة هذا الاجتماع». جاء رد سعد على ذلك بطلب أن يؤذن له بإرسال إخطار للمدعوين بإلغاء الاجتماع بناء على أمر السلطة العسكرية، ولم يتراجع واطسون بل صرح لسعد باشا بأنه لا مانع عند السلطة الإنجليزية من أن ينشر إعلانا يصرح فيه بأن دعوته منعت قهرا. ثم بعد 36 يوما، وفى 8 مارس على وجه التحديد، فى الساعة الخامسة بعد ظهر ذلك اليوم وصل إلى بيت الأمة أربع سيارات عسكرية بريطانية، وخرج منهما ضابطان إنجليزيان دخلا الدار وطلب أحدهما من سعد زغلول مصاحبة القوة. وفى مشهد عنوانه المصير المجهول، برزت عصا سعد وهو ينزل درجات السلالم متكأ عليها فقد كان قد بلغ وقتئذ الستين، حيث تم نقله إلى ثكنات قصر النيل. المقر الرئيسى لقوات الحماية فى العاصمة المصرية ونقل منها إلى بورسعيد، ليركب على متن السفينة التى نقلته إلى مالطة. اندلاع الثورة وفى اليوم التالى 9 مارس تفجرت الثورة وبدأت بمظاهرة طلاب مدرسة الحقوق، التى تبعتها مظاهرات طلاب بقية المدارس العليا والثانوية، وكانت هذه المظاهرات تخرج متجهة إلى بيت الأمة وهى تنادى بحياة سعد باشا، وكانت تنتظرهم السيدة صفية زغلول ملوحة لهم بمنديلها بينما فى يوم 16 مارس، أى بعد قيام مظاهرات طلاب الحقوق بأسبوع فحسب، انطلقت من أمام بيت الأمة أول مظاهرة نسائية فى تاريخ مصر الحديث، حيث خرجت عقائل العائلات الراقية إلى أنحاء القاهرة هاتفات بالحرية والاستقلال مناديات بسقوط الحماية. أما شرفات البيت فقد أصبحت مقرا لخطباء الثورة، حيث كان يجتمع حولهم مئات من المصريين وقد شاعت من على تلك الشرفات أسماء عديدين ممن أصبحوا نجوما فى عالم الوطنية بعدئذ، مكرم عبيد، فخرى عبدالنور، سينوت حنا، عبدالمجيد بدر، القمص سرجيوس، الدكتور محجوب ثابت. أم المصريين ثم يأتى وفد من نساء طنطا إلى بيت الأمة لمقابلة السيدة صفية زغلول، زوجة الزعيم، وابنة رئيس الوزراء مصطفى فهمى باشا، ومعهن لافتة من قماش حريرى طرزت عليه جملة دخلت التاريخ: عائشة أم المؤمنين وصفية أم المصريين فما إن رأتها الجماهير فى أيدى سيدات طنطا حتى أصبح الاسم الجديد على كل لسان. فى الوقت الذى أصبح فيه السلاملك مقرا لحزب الوفد بوجود على باشا شعراوى بصفته وكيلا، وكانت داره قريبه من بيت الأمة، وعبدالرحمن بك فهمى بصفته سكرتيرا، ومن هذا المقر كان الوفد يتحرك، وينجح فى حث معتمدى الدول فى مصر، على إصدار احتجاج يوم 14 مارس للقوات المحتلة، على استعمال الرصاص ضد المتظاهرين. وفى واحد من أهم المشاهد الخالدة يأتى إطلاق سراح سعد زغلول ورفاقه من المنفى والتصريح لهم بالسفر إلى مقر مؤتمر الصلح فى باريس فى أبريل عام 1919 وامتلأت مصر بمظاهرات الابتهاج، وكانت الجموع التى تقوم بمظاهراتها فى القاهرة أو التى تفد من الأقاليم، ينتهى بها المطاف إلى بيت الأمة وهى تهتف بحياة سعد والثورة، وكانت أم المصريين تقف فى شرفة ومعها كرائم السيدات، وهن يلوحن للمتظاهرين. وفى يوم الثلاثاء 5 أبريل عام 1921، كان وصول سعد باشا من أوروبا، وعند بيت الأمة أقامت اللجنة المنظمة للاستقبال سرادقا واسعا صف فيه أكثر من خمسة آلاف كرسى للوجهاء والأعيان وأصحاب الرأى فى القطر المصرى. فى الساعات الأولى من صباح يوم الجمعة 23 ديسمبر حاصر بيت الأمة الجنود الإنجليز وخطفوا سعد زغلول إلى منفى جديد، واضطربت لذلك العاصمة، وبدأت المظاهرات التى أحاطت ببيت الأمة. فى يوم 28 ديسمبر عام 1921 تناسى المنشقون عن الوفد خصوماتهم وقصدوا جميعا إلى بيت الأمة، حيث تألفت هيئتهم وقابلهم الشعب بترحيب عظيم، وفى البيت استقبلتهم أم المصريين، حيث ألقت عليهم كلمة من وراء حجاب انتهت بالهتاف لمصر، وقد أثرت هذه الكلمة تأثيرا شديدا فى نفوس الحاضرين، الذين لم يتمكنوا من أن يحبسوا دموعهم، واستمر بيت الأمة مركزا لاجتماع الوفديين بعد أن عادوا لاتحادهم. أما الاجتماع العظيم فى بيت الأمة، هو الذى عقد يوم الخميس 19 أكتوبر عام 1922 وحضره جمهور كبير وفد إليه من العاصمة والإسكندرية وبورسعيد والأقاليم للبحث عن الخطة، التى تتبعها الأمة فيما يتعلق بمؤتمر الشرق، الذى تقرر عقده فى لوزان للنظر فى شئون الأملاك العثمانية السابقة بما فيها مصر، وقد قرر المجتمعون إرسال وفد إلى تركيا وأوروبا لإبلاغ حكومة أنقرة عن نية الوفد أن يرسل من يمثله فى هذا المؤتمر، وأنه ليس لأى أحد آخر أن يدعى تمثيل الأمة. إغلاق بيت الأمة وعندما وصلت الشمس إلى منتصف السماء فى ظهر يوم 21 فبراير، الملبد بالغيوم، تم إغلاق المنزل فأغلقت السلطات البيت، بعد أخذوا كل ما يخص سعد زغلول من أوراق. فى يوم 8 يوليو عام 1923 سلمت حكمدارية بوليس العاصمة بيت الأمة للأستاذ أمين يوسف المحامى ففتحه وعاد رجال الوفد للاجتماع فيه، وقد انتهزوا فرصة أول جلسة عقدوها به وأرسلوا إلى سعد زغلول باشا فى منفاه فى جبل طارق تلغراف تأييد. فى يوم 18 سبتمبر عام 1923 وصل سعد باشا من منفاه الثانى إلى العاصمة فاستقبله الشعب استقبالا حماسيا رائعا يفوق استقباله يوم قدومه من أوروبا فى أبريل عام 1921. عودة الزعيم وعلى الرغم من فشل المفاوضات، واستقالة وزارة سعد زغلول باشا فى 24 نوفمبر عام 1924 نتيجة للإنذار الذى وجهه إليها الإنجليز بسبب حادث السردار وتأليف وزارة أحمد زيوار المؤتمرة بأوامر القصر والإنجليز، أخذت وفود الشعب تتقاطر على بيت الأمة كل يوم، حيث كان يلقى الزعيم فيها الخطب. ويعد يوم 13 نوفمبر عام 1926، يوما من ايام بيت الأمة المشهودة، احتفل الوفد بعيد الجهاد الوطنى، حيث ألقى كل من مصطفى النحاس ومكرم عبيد خطبتين، بينما ألقى سعد زغلول على غير عادته خطبة قصيرة إذ كان قد بدأ وقتئذ يعانى وطأة المرض. لم يتأخر سعد عن نداء الأمة، لكن الصحة تراجعت، فقام بتركيب مصعد كهربائى فى بيت الأمة فى الغرف المجاورة لغرفة المائدة ليوفر عليه جهد الصعود. وعندما ذهبت شمس يوم الثلاثاء 23 أغسطس الحار عام 1927، أسلم سعد الروح، ظل بيت الأمة مقرا للوفد بعد وفاة سعد زغلول، ولم تغلقه أم المصريين فى وجه الوفديين إلا بعد أن انقسموا على أنفسهم أواخر عام 1937 بعد خروج النقراشى وأحمد ماهر عن الزعامة النحاسية وكونوا الهيئة السعدية حيث بقيت أم المصريين تشغله حتى وفاتها عام 1946. لقد كان متحف سعد زغلول أحد دعاة الحرية فى القرن العشرين، قبل أن يصبح للشعب مجلسا بيتا للشعب والأمة، بيت يؤمه الناس مطالبين بالحرية والعدالة والدستور، بيت ليس غربيا على الناس، بل اختاروه، متجاوزين أسواره الوهمية، التى لا تحجب الرؤية بين ما يحدث بالداخل ورغبات الناس بالخارج.