سيظل الاحتفاء بذكرى رحيل صاحب نوبل طقساً أدبياً لن ينتهى، وكيف لا؟ وهو من مازالت أعماله تترجم، وتباع حتى اليوم، بل إن عددًا كبيرًا من أعماله ينافس فى قائمة «الروايات الأكثر مبيعًا»، فنجيب محفوظ أشهر روائى عربى عرفته مصر والعالم. حيث امتدت رحلته مع الكتابة أكثر من سبعين عاماً، كتب خلالها أكثر من ستين رواية ومجموعة قصصية، وها هو كل الوسط الثقافى المصرى والعربى يتذكره هذه الأيام ويحتفى به فى ذكراه التاسعة. ومثلما لعب القدر دوراً فى أن يكون تاريخ ذكرى رحيل الزعيمين الوفديين مصطفى النحاس وسعد زغلول واحداً، فقد ربطت الأيام أيضاً بين ذكرى رحيل نجيب محفوظ وذكرى الزعيمين، فعلاقة نجيب محفوظ بالوفد والوفديين علاقة واضحة، صرح بها من خلال كل حواراته ومعظم أعماله. كان نجيب محفوظ فى الثامنة من عمره عندما انتفض الشعب المصرى أول انتفاضة شعبية حقيقية شاملة فى تاريخه الحديث سنة 1919، ورأى الطفل الصغير المظاهرات والمصادمات الدموية بين المصريين والإنجليز من شرفة منزله فى ميدان بيت القاضى بحى الجمالية، الذى بناه بدر الجمالى أحد القادة الفاطميين، وشاهد مظاهرات النساء الشعبيات بالملاءات اللف. فقد كان محفوظ أفضل من دافع عن ثورة 1919، وكان يعجب كثيراً بشخصية زعيم الأمة سعد زغلول، بدأت علاقة نجيب محفوظ بالحياة السياسية منذ نعومة أظافره، فقد تأثر بميول والده الوفدية، وورث عنه عشقه لسعد زغلول، كما أذكى هذه الروح الوطنية لديه مدرسوه الذين كانوا يشجعونه هو وغيره من الطلاب على الخروج فى مظاهرات للمطالبة باستقلال مصر، لذا حرص «محفوظ» على الاشتراك فى جميع المظاهرات التى قامت فى تلك الفترة، راصدًا أحداثها فى روايته الشهيرة «الثلاثية». كثيرون هم من تناولوا علاقة محفوظ بثورة 19، فيقول الكاتب عمار على حسن عن ارتباط محفوظ بالوفد والوفديين: «محفوظ هو ابن شرعى لثورة عظيمة فى تاريخ مصر، وما أبدعه من أعمال سردية هبة لهذه الثورة، ليس لأنها انعكست فى أعمال عديدة له، موضوعاً ومضموناً وسياقاً وشخصيات ورؤى ومشاعر، بل لأنها شكلت وعيه بالمجتمع والعالم، وعاشت معه طيلة حياته، ينهل منها ويحن إليها ويقيس عليها. إنها ثورة 1919 التى أحبها حباً جماً، وارتبطت فى ذهنه بالتحرر والراحة، وهو ما يعبر عنه فى كتابه الأثير «أصداء السيرة الذاتية» قائلاً: «دعوت للثورة وأنا دون السابعة. ذهبت ذات صباح إلى مدرستى الأولية محروساً بالخادمة. سرت كمن يساق إلى سجن، بيدى كراسة وفى عينى كآبة، وفى قلبى حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقىّ شبه العاريتين تحت بنطلونى القصير. وجدنا المدرسة مغلقة، والفراش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضاً. غمرتنى موجة من الفرح طارت بى إلى شاطئ السعادة، ومن صميم قلبى دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد». وظل سعد زغلول هو الزعيم السياسى والرمز الوطنى المكتمل فى نظر محفوظ، فما صوره إلا فى أبهى الصور، وما أتى على ذكره إلا بأنبل وأفضل الكلمات فى الغالب الأعم. هكذا يحصى ويجلى لنا مصطفى بيومى فى كتابه المهم «سعد زغلول فى الأدب المصرى»، وهكذا نعرف من تتبعنا لما يقوله عنه أبطال الثلاثية «بين القصرين، قصر الشوق، السكرية» وما ورد فى كتابه المختلف «أمام العرش». كذلك تعتبر دورية نجيب محفوظ الصادرة عن المجلس الأعلى للثقافة فى عددها الرابع الصادر فى ديسمبر 2011 من أهم الدراسات التى عرضت لعلاقة نجيب محفوظ بثورة 19 وزعيمها، حيث يجىء فيها: «لم يخف محفوظ أبداً علاقته الحميمة بثورة 1919 بكل ما يحمل لها من عواطف حميمة لا مثيل لها، لا فى أحاديثه العادية، ولا فى حواراته للنشر ولا فى إبداعه، الأمر الذى كاد يصل إلى حد التقديس لزعيمها سعد زغلول، والحب الشديد لخليفته مصطفى النحاس، ولا يحتاج الأمر للإشارة لما سجل بقلمه شخصيا مثلا فى «أمام العرش»، أو فيما أدلى به، أو كتبه عنه، مثلاً: فى كتاب رجاء النقاش «صفحات من مذكراته» أو مصطفى عبدالغنى «الثورة والتصوف». لا عجب إذن إذا نحن رصدنا كيف حضرت هذه الثورة فى وعى عدد هائل من أفراد أجيال روايته «حديث الصباح والمساء» والتى تناول من خلالها جدل الإنسان المصرى مع ثوراته عبر قرنين، وقد بدا واضحاً تحيز الكاتب لها باعتبارها الثورة الحقيقية ضد قاهر أجنبى ومحتل ظالم وقاس، هو ومن يتحالف معه، وتراوح هذا الترحيب والقبول والإعجاب فيما وصفها به وخاصة تفاعل الناس نحوها بأوصاف عاطفية رقيقة وعميقة من أول «الدفء» حتى «التقديس» مروراً «بالحب» والودّ و«الطمأنينة» بل و«العشق» لزعيمها، وفى الوقت نفسه لم يغب عن محفوظ أن يرصد عدداً من مواقف «الفرجة»، و«الموافقة عن بعد» أو النقد الذى مهد للانشقاق عنها، ولو تحت رايتها، ثم تناول محفوظ مآل هذه الثورة داخل وخارج أغلب الناس، حيث ظلت بصمات هذه الثورة الحبيبة باقية راسخة فى عمق وعى أكثر الأحفاد باسم «الوفد» أو «الوفدية» أو صفة «السعدى» أو «السعديين» حتى عند بعض أولئك الذين اضطروا لمجاراة ثورة يوليو ظاهرياً. وتستكمل الدراسة: «المتابع لحضور ثورة 1919 فى هذه الرواية لابد أن يصله مدى حب محفوظ لهذه الثورة وانتمائه لها حتى آخر لحظة فى حياته، ولم يكن هذا الحب لشخص سعد زغلول فحسب، وإنما للثورة نفسها، ولمصطفى النحاس أيضاً. وقد قدم محفوظ شهيداً شاباً لقى ربه فى مظاهرة لا تتعلق مباشرة بثورة 1919 وإنما بامتدادها، وهو أمير سرور عزيز: «فقد عرف ثورة 1919 «كأسطورة» من المظاهرات والمعارك والقصص فترعرع سعدياً وطنياً مؤمناً» وإن كان لم يشارك فيها إلا بعد رحيل سعد، «اشترك فى المظاهرات التى قامت احتجاجاً على دكتاتورية محمد محمود وأصابته هراوة لبث بسببها فى المستشفى أسبوعين» ولم يستمع لنصح أقاربه ضباط الشرطة الذين يشغلون مراكز حساسة فى الداخلية، كما لم يهتم أن يعرف أن اسمه على رأس قائمة سوداء فى الداخلية، ولم يستمع لنصح شقيقة لبيب وهو يحاول أن يحد من اندفاعه فيرد قائلاً: «قد عرفت سبيلى ولن أتراجع عنه» إلى أن استشهد... «فى طوفان المظاهرات التى قامت احتجاجا على إلغاء دستور 1923 أردته رصاصة قتيلا فى شارع محمد على». ويكمل محفوظ تقديسه لهذه الثورة فى سياق الحكى عن «عامر عمرو عزيز» إحدى شخصيات الرواية كالتالى: «....قامت ثورة 1919 ودخل معبدها مع أسرته واشترك فى المظاهرات وهتف من قلبه الصافى يحيا سعد...»، لكن يبدو أن عبادة عامر كانت مقتصرة على الابتهال من بعيد، والرصد المتابِع... فقد ابتعد عامر عن النشاط المباشر «وتابع الأحداث حتى قارب التسعين فاستعمله محفوظ لإيجاز سريع لكل الثورات هكذا: طرب لامجاد يوليو وانكوى بجحيم يونيو، وأفاق فى 15 مايو، وطرب مرة أخرى فى 6 أكتوبر الجليل وانقبض فى 6 أكتوبر الدامية». توصف الثورات عادة بالغليان والوهج واللهيب والاشتعال وما شابه، لكن أن توصف بالدفء، فهذا وضع خاص يؤكد نوع علاقة محفوظ بهذه الثورة بالذات، هيا نسمعه وهو يقول عن سرور عزيز يزيد المصرى «ولكن ثورة 1919 أودعت قلبه المتمرد قدرا من الدفء» إلى أن قال «وظلت ذكرياتها ومظاهرها عالقة بخياله كأفتن الطيبات» وكأنه يحكى عن قصة حب وليس عن ثورة، يعود ذكر مثل نفس العواطف ثانية بشكل آخر فى سيرة حامد عمرو يزيد «ولما قامت ثورة 1919 كان حامد فى السنة النهائية، وقد مال قلبه إليها بمجامعه». أيضاً: نحن لم نعتد وصف الوطنية بالعواطف هكذا مباشرة، لكن هكذا جاء ذكر ثورة 1919 باعتبارها عواطف غازية غامرة عرضها محفوظ هنا وكأنه يغازل حبيبته أو يجسد شرابه الخاص: حسناء غاوية يمدحها، ويغازلها فى ود خالص كما جاء فى سيرة حسن محمود المراكيبى «غمرته ثورة 1919 بعواطفها القوية» أو كما يقول فى سيرة عمرو عزيز المصرى «نفذت ثورة 1919 إلى عمق قلب سميرة لم تصل إلى مثله فى قلب أى من أخواتها» (وذلك بفضل زوجها حسن قابيل الذى كان يجمع فى قلبه بين الوطنية الصادقة والتدين العميق وينشرهما فيمن حوله)، وكأننا فى عدوى عاطفية وطنية جميلة. امتد هذا المدّ العاطفى من ثورة 1919 إلى كل ما أسماه وكرره محفوظ «العواطف الوطنية»، ففى سيرة عمرو عزيز المصرى يقول: «واتسع قلبه أيضا للعواطف الوطنية...» «...وأفعم وجدانه فيما بعد بكلمات مصطفى كامل ومحمد فريد، ثم بلغ قمة انفعاله فى ثورة 1919». ثم إن محفوظ لا يتوقف عند ذكر الميل والدفء والحب، لكنه يستعمل تعبير «العشق» أيضاً حين يقول «... وعشق زعيمها، «سعد»، وتمتد العواطف إلى خليفته...، وتابع خليفة الزعيم مصطفى النحاس بكل وجدانه «وتنقلب المسألة إلى فرح يوزع فيه الشربات» يوم عقد المعاهدة، «..وعشق زعيمها، واشترك فى إضراب الموظفين، وحافظ على ولائه للزعيم - مصطفى النحاس - بكل وجدانه، ووزع الشربات يوم عقد المعاهدة». لا يفوت القارئ المتابع لعلاقة محفوظ بثورة 1919 أن يتذكر استشهاد فهمى أحمد عبدالجواد فى بين القصرين، فنتذكر «فهمى» وهو يتفاخر بنفسه وهو يتمنى أن يقف بين يدى «سعد» ثم تتوالى خواطره حتى يصور لنا «محفوظ» استشهاد «فهمى» بالسرعة البطيئة كما يلى: «ها هى ثكناتهم... أرهف أذنيه لما يدور حوله من دون أن يثوب إلى السكينة، وما هى إلا لحظات حتى دوت قذيفة ثانية... أه.. لم يعد ثمة شك، رصاصة كسابقتها أين استقرت. «ما أسرع ما تفلت منك الذكريات ماذا تريد؟ أن تهتف؟ أى هتاف؟ أو نداء فحسب.. من؟ ما؟ ما فى باطنك يتكلم، هل تسمع؟ لا شىء إلا السماء هادئة باسمه يقطر منها السلام».