كتبت نعمة عز الدين: تتخيله يجلس على حافة الحياة المصرية.. يتهادى بجواره نهر النيل الخالد بسكونه الأبدى ومشاهدته اليقظة والداعمة على سبعة آلاف عام من الابداع المصرى الخالص، متخذاً من كنبة خشبية وثيرة كانت ملكاً للفلاح الفصيح الذى اشتكى لفرعون الملك من الظلم، ونظم مرافعته فى قالب شعرى فى ثلاث برديات، مطالباً إياه بتحقيق العدل، منقوشة برسومات قبطية غاية فى الروعة ومحفور فى مقدمتها البسملة والصلاة على النبى، مغطاة بسجاجيد صوف صعيدية اختارها بعناية من قرية الحرانية يرجع تاريخ نسجها الى عام 1952 على يد الفنان ويصا واصف، الذى حول تلك القرية المصرية المجهولة إلى طاقة من الخلق والإبداع، يتحلق حوله الجميع فى شغف وصمت مطبق وكأن على رؤوسهم الطير، ليبدأ السمر المدهش والحديث العجيب عن بلاد وعباد رآها رأى العين بحكم ترحاله إليها قاصداً طلب العلم والرزق، وتحدث لأهلها لسنوات طويلة مخترقاً القلوب والعقول، يتأمل الطبائع والاحوال، ثم يبدأ الحكى الجميل. إنه الدكتور مصطفى الفقى أحد الحكائين العظام فى عصرنا الحديث، والذى استطاع بما يمتلكه من قدرة انسانية استثنائية أن يجالس الجميع من الملوك والسفراء الى سائقى السفارات وعمال المطارات وخدم القصور، الجميع يحمل ذكرى مع الدكتور مصطفى الفقى أو جملة عابرة أو سلوكًا عفويًا ولكنها لا تمر مرور الكرام، وهو الجالس على كنبته الوثيرة على حافة الحياة المصرية، يتأمل العابرين والراحلين ورفقاء الطريق، ليبدأ الكتابة بحب عن ثلاثمائة منهم فى ثلاثة كتب صدرت حديثاً عن الدار المصرية اللبنانية للنشر بعناوين دالة: «ذكرياتى معهم»، «عرفتهم عن قرب»، «شخصيات على الطريق». يكشف الدكتور مصطفى الفقى عن السبب الحقيقى وراء كتابته عن تلك الشخصيات المصرية الثلاثمائة، فى حفل التوقيع لثلاثيته الذى نظمته الدار المصرية اللبنانية للنشر مساء أمس الأول بمكتبة القاهرة فى حضور حشد من مريدى الدكتور مصطفى الفقى من المثقفين والسياسيين والإعلاميين قائلاً: إن موجة الإحباط التى اعترت قطاعًا عريضًا من الشباب، هى الدافع الرئيس للكتابة عن تلك الشخصيات المصرية التى تشكل فى عالمها رموزا وطنية أصيلة، لافتاً إلى أن هناك شخصيات كانت محل خلاف من البعض، ولكنى فى أثناء الكتابة حرصت على إبراز الجانب المضىء لدى هذه الشخصيات». مندهشاً من فقدان الجيل الحالى لمعلم يلجأ اليه أو قدوة ورمز وطنى يهتدى به، معبراً بأريحية: لكل واحد فى جيلنا معلم أو أسطى ونحن كنا الصبية لهؤلاء الكبار، ولكنى متفائل بقدرة هذا الوطن «مصر» على تفريخ طاقات مصرية مبدعة جديدة فالمستقبل مشرق كما أتصوره وهناك طاقات مضيئة مصرية فى كل مجال وعلم تعمل فى الظل، وواجبنا ان نسلط الضوء عليها للأجيال الشابة حتى يعرفوا قدر هذا الوطن وقيمته الأفريقية والعربية. ربما من هذا الفهم الواعى لحركة التاريخ ورموزه يلقى الدكتور مصطفى الفقى فى ثلاثيته المدهشة بقعة من الضوء الباهر على شخصيات تاريخية ربما لم يتسن للأجيال الجديدة من الشباب معرفة تفاصيل دورها الوطنى الحقيقى، واخلاصها الصامت لتراب هذا الوطن دون ادعاء بطولات مزيفة أو تجريح للآخرين، فيكتب عن زعيم حزب الوفد «فؤاد سراج الدين» وكيف تلقى دعوة الباشا الذى أجلسه إلى جانبه قائلاً: «وكنا فى منتصف التسعينيات من القرن العشرين، وراح يتحدث معى، وكنت أستمع إليه وكأنما صوت التاريخ يأتى من أعماق الماضى السحيق، وسألته فى أواخر الثمانينيات من عمره لماذا تدخن السيجار يا باشا؟ فقال لى إنه بدأ التدخين منذ السابعة عشرة، ولم يتوقف عنه، حتى وهو فى السجون، فلماذا يتوقف الآن؟!.. أما عن النهم للحياة، ففؤاد باشا كان يقطع أمامى من طبق «الفواجرا» الدسم بسكين، ويلتهم منه بشهية طوال السهرة، فكل عوامل قصف العمر موجودة فى حياة الباشا ومع ذلك اقتحم التسعين ومات، وهو يحمل ذاكرة حديدية وشخصية فذة وروح دعابة لا تختفى.. وعندما دعوته لحضور حفل زفاف ابنتى، وجدته يستند إلى مرافقيه فى الثانية صباحا، خارجًا من قاعة الحفل، فقلت فى نفسى إنه لرجل صامد بقى يجاملنى حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل! ولكنى اكتشفت أنه ذاهب إلى دورة المياه، ثم يعود ليكمل السهرة فى حيوية ودماثة خلق!.. سراج الدين وزير الداخلية الوطنى الذى شهد المواجهة الباسلة بين رجال الشرطة وقوات الاحتلال فى مدينة الإسماعيلية، وهى المناسبة التى أصبحت عيدًا سنويًا للشرطة المصرية حتى الآن.. «فؤاد باشا» الذى اختار دائما الانحياز إلى الجانب الوطنى، فقد كان على علم ببعض اجتماعات الضباط الأحرار داخل صفوف الجيش، ولكنه تجنب الوشاية بهم أو تعويق مسيرتهم، وقد كان من بين صفوفهم أحد أبناء عمومته الذى أصبح فيما بعد السفير «عيسى سراج الدين». ربما تأتى كلمة الدكتور أحمد يوسف رئيس المعهد العربى للدراسات السياسية كاشفة عن التفاصيل الشيقة والممتعة التى تزخر بها ثلاثية الدكتور مصطفى الفقى عن ثلاثمائة شخصية مصرية قائلا: ان الدكتور مصطفى الفقى قدم من خلال تلك الشخصيات دلالات وطنية عميقة تبرز عبقرية الشخصية المصرية وتفردها، فيذكر على سبيل المثال اصطحاب القطب الوفدى القبطى الكبير فخرى عبد النور صديقه المقرب ورفيق صعيديته الشيخ مصطفى المراغى متأبطاً ذراعه فى عزاء شقيقه فى نسيج وطنى فريد، أو مطالبة رئيسة وزراء الهند الشهيرة انديرا غاندى بالدكتوراه الفخرية من جامعة الأزهر، كذلك الاحتفاء والتقدير العالمى لدور الكنيسة المصرية الأرثوذكسية واستقبال شخصى من جانب رئيس المجر للبابا شنودة. ويتعهد الدكتور مصطفى الفقى فى تواضع جم انه سيعكف على كتابة سيرته الذاتية أمام الحضور والناشر الكبير محمد رشاد صاحب الدار المصرية اللبنانية الذى عبر عن سعادته بنشر الدار ثلاثيته الأخيرة، مطالباً إياه بنشر مذكراته الشخصية. ولكن وبقدرة عجيبة حول الدكتور مصطفى الفقى الاحتفاء بشخصه وعالمه والمطالبة الملحة لكتابة سيرته الذاتية إلى دعوة للاحتفاء أيضاً بشخصيات مصرية وطنية عاصرها عن قرب تستحق من الجميع معرفة عالمها الشخصى وعطائها الوطنى، كاشفاً أن مكتبة الإسكندرية ستستقبل قريبًا مؤلفات عالم الكيمياء الراحل أحمد زويل، و أن زوجة العالم المصرى الراحل ديما «زويل» أبلغته أنها لن تجد مكانًا أفضل من مكتبة الإسكندرية لتضع فيه كتب العالم الراحل، مشيرًا إلى أن «المكتبة تحتوى أيضًا على وثائق هيكل، فلم يبخل أولاده فى امداد المكتبة بها»، كما طالب الدكتور مصطفى الفقى من الدكتور أحمد عكاشة رئيس الجمعية المصرية للطب النفسى، بإمداد المكتبة بتراث شقيقه الدكتور ثروت عكاشة نجم الثقافة المصرية فى ستينيات القرن الماضى وصاحب الموسوعة الأشهر «العين تسمع والأذن ترى»، وهو ما جعل الدكتور أحمد عكاشة يحلل الدكتور مصطفى الفقى نفسياً ويداعبه بأنه شخصية متباينة متعددة المواهب، جائع دوماً وعطشان بنهم للمعرفة والقراءة، مضيفاً: أن «الفقى كرس حياته للإصلاح الفكرى والسياسى، ووقف ضد فكرة التهميش والعزل، بالإضافة إلى أنه أفنى حياته فى قضية الوحدة الوطنية التى استحوذت على اهتماماته، والوحدة والقضية العربية التى يجنح للكتابة عنها وعن هويتنا العربية». وأضاف: «الجهد الذى قام به فى كتابه فى ذكرياتى معهم، تناول عددا من الشخصيات بلغ 92 فردًا، وتناول فى كتاب شخصيات على الطريق 102 شخص، أما كتاب «عرفتهم عن قرب» فتناول 97 شخصية»، متسائلا: «كيف استطاع اختيارهم وهو يعرف المئات، وكيف يملك الوقت لتأليف تلك الكتب؟». وبحسب روشتة التحليل النفسى التى قدمها الدكتور «عكاشة» عن الدكتور مصطفى الفقى، فإن «الفقى» متمرس جاد، يتحمل المسئولية، ومتقن لعمله، ومدمن له، كما أنه لا يجد أى غضاضة فى نقد نفسه». وينفى الدكتور مصطفى الفقى عن نفسه اشتغاله بالنقد والأدب حينما عاتبته الكاتبة الكبيرة سناء البيسى وهى تحاوره على المنصة انه لم يعط للمبدع والروائى الكبير الراحل خيرى شلبى حقه قائلاً: ليس أديباً كى أتناول الجانب الأدبى فى شلبى، ولكننى حاولت إبراز جوانب أخرى فى حياته، ومنها أنه كان يكتب فى المقابر، كما دعت الكاتبة الكبيرة سناء البيسى، الدكتور مصطفى الفقى، للكتابة عن فترة حكم الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك التى امتدت لثلاثين عامًا قائلة: الرئيس الذى عشنا فى حكمه 30 عامًا، ويحكى لنا بصراحة فى كتاب عن الكواليس التى عاشها، ويكشف الأسرار التى يعلم منها الكثير». قليل من البشر واستثناءات انسانية فى عمر الزمن ودورانه من يستطيع ان يملك تلك الكنبة التاريخية الوثيرة على حافة الحياة المصرية، امتلكها من قبل سنوحى الحياة المصرية القديمة ومن بعده جاء تلاميذ نجباء كالمقريزى وابن تغرى بردى والجبرتى أحبوا الوطن مصر وأرخوا لناسه وأهله، لتصل تلك الكنبة الوثيرة لصاحبها الجديد ونجمها الدكتور مصطفى الفقى جبرتى الشخصية المصرية الحديثة، الذى عمل سكرتيرا للرئيس الأسبق حسنى مبارك للمعلومات بين عامى 1985، 1992، وعمل مباشرة مع بطرس بطرس غالى وأسامة الباز ونبيل العربى وعمرو موسى وأصدر «الكتب البيضاء» التى تدور حول تاريخ الدبلوماسية المصرية والعربية، وعمل أستاذا للعلوم السياسية فى أقسام الدراسات العليا بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة من 1979 إلى 1993. كما شغل منصب مدير معهد الدراسات الدبلوماسية «1993 - 1995» ورئيس الجامعة البريطانية فى مصر «2005 – 2008» وكتب مقدمة عشرات الكتب المتخصصة فى العلوم الاجتماعية والآداب ومناهج البحث (ومنها مقدمة كتاب «الرد» لكورت فالدهايم رئيس دولة النمسا وسكرتير عام الأممالمتحدة الأسبق). وليحصل الفقى على جائزة النيل عام 2010 بعد أن أصدر عشرات الكتب الفكرية والسياسية ومنها «الانفجار العظيم والفوضى الخلاقة»، «سنوات الفرص الضائعة»، «فلسطين من التأييد السياسى إلى التعاطف الإنسانى»، «فلسفة الكون وتوازن الوجود»، وأصدر «الصالون الثقافى العربى» كتابا تذكاريا عنه بعنوان: «الدكتور مصطفى الفقى رائد التحديث فى الفكر السياسى العربى»، بمناسبة بلوغه السبعين، فى عام 2014. عاش الدكتور مصطفى الفقى سبعين عاماً من عمر المحروسة ويزيد، أطال الله فى عمره ليعاشر ويصاحب ويتأمل ثم ليبدأ الحكى من جديد.