عرفت قداسة البابا شنودة منذ سنوات عديدة.. ولقد عرفته قبل أن ألقاه شخصياً.. عرفته من كلماته النابعة من قلب محب لمصر، عاشق لترابها وتاريخها.. وهو الذي حمل السلاح دفاعاً عنها ضد الاحتلال.. منذ كان ضابط احتياط في الجيش المصري.. والبابا شنودة تقرأ في كلماته عشقاً للوطن.. أليس هو القائل «إن مصر وطن يعيش فينا.. لا وطنا نعيش فيه» أي أن العلاقة ليست مكاناً يحيا فيه المواطن وكان نموذجا للمصري، هذا الصعيدي ناشف الرأس، قوي الشكيمة، قليل الكلام الذي يفكر قبل أن يتكلم.. ويحاول أن يقرأ ما يدور في عقل من يحدثه.. ورغم أنه كان غارقاً في أعماق أمور شعبه من الإخوة المسيحيين.. وكان نموذجا لمن يعرف حقوق رعاياه ولكنه كان يضع قضايا الوطن فوق أي قضايا أخري.. ولقد عرفت قداسة البابا شخصياً والتقيته مرات عديدة.. في أماكن عديدة.. فقد كان فؤاد باشا سراج الدين يكلفني مرات عديدة للقيام نيابة عن معاليه بتقديم التهاني لقداسة البابا في مناسبات عيد القيامة المجيد.. وكنت ألتقي قداسته في صالونه المفضل قبل أن ننتقل إلي داخل الكاتدرائية لحضور القداس.. وكنت دائماً ضيف قداسته في إفطار الوحدة الوطنية الذي كان يقيمه قداسته سنوياً في مقر الكاتدرائية وكنت أقول دائماً - في التليفزيون - في هذه المناسبة إن المصري لم يعرف طعاماً خاصاً للمسلمين.. وطعاماً خاصاً للمسيحيين.. لأن طعامنا واحد.. تماماً كما لم نفرق بين المسلم والمسيحي في ملابسه.. فقط ملابس رجال الدين من الفئتين.. أما غير ذلك فلا نجد. ومرة فاجأني قداسة البابا وأنا أقبله عندما همس في أذني بأن مقال رأي الوفد منذ يومين كان رائعاً.. وفجأة سألني «أنت بتجيب منين هذه الأفكار؟» وقتها لم يكن أحد يعلم أنني من يقوم بكتابة رأي الوفد علي يمين الصفحة الأولي كل صباح.. ولما تملصت.. قال: لا تخدعني.. أنا أعلم أنك من يكتب عمود رأي الوفد منذ شهور عديدة.. وأراد أن يفحمني عندما قال.. الأخ جمال بدوي «وكان وقتها رئيسا لتحرير الوفد» هو من أخبرني بهذا السر.. ثم أردف قائلاً: وحتي لو لم يقل لي الأخ جمال فأنا قارئ جيد لأعمدة المقالات.. لأنك وانت تكتب رأي الوفد كنت تحاول أن يكون بعيداً في أسلوبه عن أسلوب كتابة مقالك اليومي «هموم مصرية».. ثم قال بعد لحظة صمت: ولا تنس أنني ضليع في اللغة العربية.. وابتسم وهو يقول: يا سيدي أنا أفهمها وهي طايرة!! وكانت تلك من مزايا شخصيته.. كان شخصية ظريفة.. يعشق النكتة المصرية.. ويقولها ويرددها.. وينفعل بها واحيانا «يقهقه» ضاحكاً للنكتة التي تعجبه.. ومرة وقد ذهبت أشكره علي دعوته لي لمشاركته طعام الوحدة الوطنية وهي الدعوة التي كان يحرص علي أن يوقعها بنفسه ليضيف جانبا من الحميمية علي الدعوة.. أن سألني: عجبتك الفتة!! ولم يعطني فرصة للرد.. إذ قال: أعلم أنك من عشاق الطعام وقد قرأت كتابك عن «غرائب الاطباق» وهو «تحفة» فلما قلت لقداسته: ولكن زيتون وادي النطرون المخلل أفضل من زيتون الاردن وفلسطين وسوريا المخلل، قاطعني قائلاً: كله إلا زيتون الأرض المقدسة فلسطين.. فهو من الارض الطيبة.. وبالمناسبة فأن قداسة البابا شنودة هو الذي أعلنها مرات عديدة من أنه لن يدخل فلسطين بتأشيرة اسرائيلية.. وحرم علي الاخوة المسيحيين زيارة القدس.. إلا بعد تحريرها.. رغم شوقهم إلي تلك الزيارة، هي وموقع الأرض التي شهدت مولد السيد المسيح عليه السلام.. ولقد شدتني كثيراً شخصية قداسة البابا شنودة.. فهو عنيد للغاية.. ولم لا أليس صعيديا من عاصمة الصعيد أسيوط.. وهو عاشق لمصر.. بل هو كثيراً ما تدخل في الوقت المناسب ليوقف أي تيار قد يكون فيه أي ضرر للوطن.. وكان يتصدي لكل الاراء المطالبة بموقف متشدد من الحكومة المصرية عندما كان يحدث هذا التوتر الذي شهدته مصر في السنوات الأخيرة.. وبالذات من أقباط المهجر الذين كانوا يستقبلون حسني مبارك بالمظاهرات المعارضة له عند كل زيارة له لأمريكا.. فقد كان حكيماً.. رشيداً.. مصرياً حتي النخاع.. وفي رأيي أن قداسته كان كالأسد الذي يرفع رأسه في شموخ حتي وهو يواجه العواصف.. ويكفي موقفه من الرئيس الراحل أنور السادات الذي اختلف معه وعندما تشدد معه السادات فضل أن يلجأ إلي الدير.. تماماً مثلما فعل البابا بنيامين الذي لجأ إلي الجبال هربا بعقيدته من بطش الحكم الروماني إلي أن دعاه عمرو بن العاص للعودة لرعاية أمور المسيحيين، بعد أن فتح عمرو مصر وأدخلها في دين الإسلام.. ويبدو أنه كتب علي جيلي أن يشاهد ويعيش رحيل العمالقة من ابنائها.. وما أكثر هؤلاء الذين فقدتهم مصر في نصف قرن وكان البابا شنودة الثالث في مقدمة هؤلاء العمالقة الذي هوي الشعر وأجاد اللغة العربية رغم أنه كان المشرف الأول علي التعليم في المدارس والكنيسة المسيحية.. أدعو للراحل العظيم بالرحمة فقد كان نموذجا للمصري العظيم الذي نفتقده هذه الأيام.