ربما لا أبالغ إن زعمت أن سرقة ثمرات العقل بين أرباب الفكر هي من أشنع أنواع السرقات، وإن كانت السرقة كلها بلون واحد قاتم لا يقبل الرمادي أو غير الأسود لوناً.. ذلك أنها تنبئ عن انحدار الرصيد الأخلاقي في المجتمع، وتقضي على آخر حصون الكرامة الإنسانية واحترام الآخر.. وقد يسرق السارق ليأكل أو ليعيش أو ليزداد ثراءً في سرعة البرق، غير أن المفكر حين يسرق يعلن الحرب على مصداقية المجتمع، ويقتل في الآخرين ثقتهم بالعقل والمعرفة والعلم، وهذه من أعظم الجرائم. وكثيرة هي أسماء الكتاب التي تمر علينا، وتستوقفنا أمام زخم رصيدها الفكري وعظم مؤلفاتها التي تستحوذ على الجميع وتحقق أعلى المبيعات، وتترك لدى الكثير انطباعات أثيرة في قرب هذا الجبل العلمي من أحاسيس الناس وملامسته لمشكلاتهم، غير أن الصدمة الكبرى التي لا بد أن تأتي يوماً ما ويعرفها الجميع كما يعرفها صاحبها، حين يعلم الناس أن إبداعات هذا الكاتب أو ذاك لم تكن سوى إمضاءات في ذيل الكتب، وأسماء لا حقيقة لها، وشهرة زائفة ترتقي على أكتاف البسطاء وتمتص دماء إبداعاتهم من عروق عقولهم، مقابل وهم بسيط تدفعهم إليه حاجتهم المادية، تبرر لها غفلة سادرة أو بُعدٌ عن مقص الحياء الفكري أو الاجتماعي. اليوم تطالعنا الصحف بخبر بطله علم من أعلام الفكر والدعوة، وهو الدكتور عائض القرني الذي حققت مبيعات كتابه "لا تحزن" أكثر من مليون نسخة حيث قضت لجنة حقوق المؤلف في وزارة الإعلام (السعودية) بتغريم القرني 330 ألف ريال، في قضية سرقة كتاب "لا تيأس" التي تقدمت بها الكاتبة السعودية سلوى العضيدان، واتهمته فيها بالاعتداء على حقوقها الفكرية وسرقة 206 صفحة عن كتابها "هكذا هزموا اليأس"، وتضمن الحكم كذلك سحب كتابه من الأسواق، ومنعه من التداول، ووضعه بشكل رسمي على قائمة المنع. قضية تذهل العقل حقاً، ليس لغرابة هذا النوع من السرقات، وإنما لشخوص السارق والمسروق ومادة السرقة، فنحن نعلم عظم قامة الدكتور القرني وما علمنا منه إلا خيراً، لنصدم بمثل هذا الخبر ونتوقف تاركين للمستقبل إظهار المزيد من التفاصيل. ولكن ها هنا مدخل إلى قضية كبرى لا بد من الوقوف عندها، وهي سرقة أفكار الآخرين والسطو على ثمرات عقولهم، في زمن لم يعد فيه كشف هذا النوع متعثراً، ما دام الإنترنت والميديا والتكنولوجيا على اختلافها تملأ الأجواء وتسابق الزمن. ظاهرة خطيرة بلا أدنى شك، ليس لها من مبرر على الإطلاق إلا البحث عن الشهرة في ركام إبداعات الآخرين، ليتسلق على رؤوسهم مغمض العينين ويشمخ برأسه الفارغ ليطاول عمالقة الإبداع، وهي قزامة في الفكر والذات معاً، يعلم حقيقتها الكاتب السارق قبل غيره، ويدرك خطرها عليه وعلى الآخرين أكثر من غيره. والذي لا يصدقه العقل، هو كيف يرضى أحد أن ينسب لنفسه جهد الآخرين، وهو يعلم يقيناً أن أقل ما في الأمر أن صاحب الجهد الحقيقي يعلم ذلك، أو سيعلم ذلك يوماً ما، وأن خطيئته في السرقة، حتى لو كانت زلة واحدة، ستدمر إرثه الأدبي ولو كان عمره آلاف السنين، فالناس لا تغفر زلات المفكرين إن هبطت إلى حضيض السرقة، والتعميم على مجمل النتاج الأدبي والفكري والعلمي، أبسط النتائج التي لا يستطيع أن يجادل فيها حتى صاحبها الذي أبدعها. والأمر لا يتداخل مع الاقتباس في أي جانب من جوانبه، فهو أمر مشروع ما دام ينسب الأثر لأهله، ولا يعيب الكاتب أن يستشهد بفكرة ليجليها أكثر أو يبني عليها، أو يعيد إخراجها بما يقترب من عقول القراء في زمانه وأذواقهم، في لون إبداعي جديد أو أسلوب بياني فريد. غير أن فحوى الجريمة إنما يكون حين يأتي الاقتباس من نوافذ الكتابة الممنوعة، لا من أبوابها المشروعة. والباحث الصادق في حرصه على خدمة المجتمع والبحث عن أدوية لمشكلاته أو حلول لآفاته، يُعمل عقله بصدق المخلص ليجد الحلول ويقدمها للناس، أو أن يترك هذا الميدان ويبحث لذاته عن ميدان آخر أليق به، يحفظ عليه ماء وجهه في الحاضر والمستقبل. أما أن تكون المسألة كحاطب الليل لا يدري ما يحمل على ظهره، فهي إسفين التفكك الاجتماعي الذي يضرب عقل الأمة، وإذا أصيب العقل فلا خير يرجى في الجسد. والغريب في المسألة هذه، استمراء البعض للسرقة الأدبية وعدم التورع عنها، والاستخفاف بعقول المتلقين، وأنه يمكن خداعهم بطبعة جديدة أو عنوان آخر، وكأن الناس في غيبوبة! وهذا من آفات البرج العاجي الذي يقبع فيه بعض الكتاب المخدوعين، فيرمون إلى الناس أفكارهم ونتاجهم الأدبي الموهوم من هناك، غير عابئين أين يصل أو كيف يصل، ويكتفون من هذه المعادلة كلها بما يزيد في رصيدهم المادي أو وزنهم الاجتماعي، وكلاهما وهمٌ لا بد أن يرميا بصاحبهما يوماً ما إلى قعر المجتمع، وحينها لا ينفع قول أو عذر.. نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية