ربما كان الخديو إسماعيل والذي عاش في المحروسة مصر قبل ستة وعشرين عاماً بعد المائة، يشعر ان دنيا البشر لا تفهمه ، وان طموحاته في حفر قناة السويس وانشاء دار اوبرا ومسارح تقترب الى المثالية وعالم الاحلام الوردي ، فقرر ان يكون هناك عالمه الخاص الذي يستطيع فيه ان يتحدث عن دسائس السياسة وسنوات الحكم، بحرية دون ان يناقشه احد او يعدل ما يراه صواباً من وجهة نظره ، فكان أن قرر في هذا الزمن البعيد أن ينشئ حديقة تضم شعباً آخر يحكمه مطيعا لا يعرف حقد البشر ومكائدهم، يتألف من 6 آلاف حيوان تمثل نحو 175 نوعا من أندر السلالات من التماسيح والأبقار الوحشية. على مساحة قدرت ب80 فدانا في منطقة الجيزة القريبة من قصر عابدين الرئاسي، في وقت لم يكن الشرق الأوسط أو أفريقيا يعرف بعد ان هناك في مصر رجلا يحكم اسمه الخديو اسماعيل سوف يدشن أعرق وأقدم حديقة حيوانات فى العالم بعد حديقة لندن، فاستحقت عن جدارة ان تسمى بجوهرة التاج لحدائق الحيوان في أفريقيا. تكالب على الخديو إسماعيل عالم البشر واتهمته انجلترا وفرنسا بالإسراف والتبذير، فخرج منفياً قبل ان يشاهد عالمه البديل من الحيوانات في 26 يونيو 1879، بعد ان عمل على تطوير الملامح العمرانية والاقتصادية والإدارية في مصر بشكل كبير ليستحق لقب المؤسس الثاني لمصر الحديثة بعد إنجازات جده محمد علي باشا الكبير. وليترك الخديو إسماعيل مصر، ليفتتح ابنه الخديو محمد توفيق حديقة الحيوان او جوهرة التاج في 25 يناير1891م، حيث بدأت بعرض أزهار ونباتات مستوردة غير موجودة في الطبيعة المصرية، إلى جانب مجموعة نادرة من الحيوانات المحنطة. ربما لم يعرف أيضاً الخديو إسماعيل ان المصريين سيعشقون حديقته وما بها من حيوانات فعلى مدار قرن وستة وعشرين عاماً لم تغلق حديقة الحيوان إلا مرتين فقط، الأولى فى عام 2006 وذلك بسبب الخوف على الحيوانات من خطر الإصابة بمرض أنفلونزا الطيور الذى كان منتشرا وقتها فى مصر، ولم يستمر الإغلاق طويلا، فقط أسبوعا واحدا، وأعيد افتتاح الحديقة من جديد، والثانية والأخيرة حتى الآن كانت بسبب اعتصام مؤيدى الرئيس المعزول محمد مرسى فى ميدان النهضة، والاشتباكات فى المنطقة، ما أدى إلى إغلاق الحديقة. أما باقي سنوات عمر الحديقة فكانت حيواناتها وحدائقها شاهدة على حياة المصريين وممارستهم الفرح ببهجة العيد ويوم شم النسيم وعطلات الجمعة بين طرقات الحديقة وممراتها المفروشة بزلط ايطالى نادر والجداول المائية وكهوف من الصخور المرجانية يتساقط عليها الماء على شكل شلالات وجسور خشبية، وبحيرات لطائر البجعة الجميل، أما قصص الحب البريئة بين طالبات وطلاب جامعة القاهرة منذ انشائها اوائل القرن الماضي فكانت عصافير الحديقة الملونة تغرد لهذا الحب وتباركه وتعرف تفاصيله. آخر عشاق حديقة الحيوان اللواء محمد رجائي مدير عام الإدارة المركزية لحدائق الحيوان ، الصديق لعالم الحيوان والعارف بخباياه وسلوكه، الدكتور محمد رجائي صاحب تجربة سنوات طويلة عمل فيها في مزارع الألبان والتسمين والأسماك والمستشفيات البيطرية وتدرج في المناصب القيادية في القوات المسلحة حتى وصل لدرجة لواء طبيب قوات مسلحة، خرج بعد كل هذه السنوات من عشرة الحيوان أنه عالم تحكمه السعادة والرضا. يتحدث الدكتور محمد رجائي عن حديقة الحيوان بحب وحماس حينما التقت به «الوفد» في مكتبه، والذي دعانا بعد دقائق معدودة الى الخروج في جولة حرة بين طرقات الحديقة وابنيتها فهو يرى أن حديقة الحيوان ليست فقط عدة افدنة شاسعة الغرض منها إيواء الحيوانات من كل نوع وصنف بل هي تتجاوز ذلك بمراحل، فهي مكان اثري وتراثي كبير وجزء من تاريخ مصر وبعض الأماكن بها مسجلة كآثار حتى اشجارها اصبحت تنتمي الى الانواع النادرة والتراثية ، والعالم كله يتابع الحديقة لما لها من اثر وتاريخ. يحكي الدكتور محمد رجائي عن أول مشكلة واجهته عندما بدأ العمل منذ نحو سنة ونصف السنة كمدير للحديقة قائلاً: كانت اول مشكلة واجهتني هي مخلفات الذبح ومخلفات من الأشجار والحيوانات ومخلفات كبيرة جدا تصل إلى عشرة أطنان يوميا من الحيوانات النافقة ومخلفات الزائرين، وكانت تلك المخلفات تنبعث منها روائح كريهة طوال الوقت وتؤذي قاطني العمارات التي تطل على الحديقة، فبدأت على الفور بالقضاء على تلك المخلفات وتشغيل المحرقة الرئيسية بالحديقة، والتي تعمل بنظام خاص تصل درجة حرارته 700 درجة مئوية تعمل علي صهر أي مخلفات إلى رماد حتى لو كانت جثثا نافقة ولا تؤثر علي البيئة المحيطة، لان لها نظام تسريب محددا، لتعود تلك المساحة الجميلة من الحديقة نظيفة وستندهشين حينما تعرفين ان هناك بعض سكان تلك العمارات المطلة على هذا الجزء من الحديقة زاروني في مكتبي وشكروني على عودة المكان لطابعه القديم النظيف والمشرق، وأبدوا استعدادهم في ان يكونوا من اصدقاء حديقة الحيوان ويمدونا بكافة المساعدات سواء كانت مادية او عينية، وهو دليل على عشق وحب المصريين لحديقة الحيوان وارتباطهم الوجداني بها. وصلنا مع الدكتور محمد الى الجبلاية الملكية، والتي كان بها عشرات العمال يقومون بتنظيفها وفك واعادة تركيب ممراتها من الزلط الإيطالى الملون النادر، لندخل الكهف الملكي وهو عبارة عن تجويف على شكل قبة مشكلة من الصخور المرجانية الملونة يتوسط باحتها مقعد الخديو إسماعيل، والذي يتصل بممشى قصير يقف الزائر للخديو في منتصفه لكي يتحدث فيصل صوته مجسما وقويا يسمعه الخديو جيداً، كما يوجد السلم الحلزوني الحديدي الشهير والذي صعدته سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة هاربة من مطاردة غرامية لعبدالحليم حافظ، وهو يغني لها اجمل اغاني فيلمها الشهير «موعد غرام» رومانسية «كان يوم حبك أجمل صدفة». أخيراً أسأل الدكتور محمد رجائي: ماذا تعلمت من عشرة الحيوان؟ فابتسم قائلاً: الحيوان الذي تشاهده له مشاعر وأحاسيس وفي نفس الوقت هو حيوان مفترس بإمكانه أن يؤذي من يضايقه، عالم الحيوان فيه قدر كبير من الرضا والسعادة فنادراً ما تجد حيوانا يطلب أكثر من وجبته أو يطلب المزيد مع إخلاصه الشديد للإنسان الذي يعطف عليه، ويعرف جيداً محبة الانسان واهتمامه به وسوف اقول لكِ معلومة غريبة فحينما توليت منصبي كمدير لحديقة الحيوان اكتشفت ان هناك حيوانات متوقفة تماما عن الإنجاب مثل الغزال المصري وطائر العنز، وقمنا بدراسة كبيرة مع السادة الأطباء عن أسباب التوقف عن الانجاب وقمنا بتوفير كافة الامكانيات المادية إلى جانب الحب والرعاية والاهتمام الذي يحتاجه القطيع للتزاوج والتكاثر وبدأ بالفعل تكاثر لحيوانات عالية الثمن والتي نستطيع أن نبادل به علي حيوانات نحتاجها فهذا المركز تهتم به دكتورة شيماء ويعمل علي قدم وساق. فالحديقة كلها تعرضت لمشاكل كثيرة جدا في فترة الثورة وتخطينا هذه المرحلة بسلام.