ما زالت تفرض نفسها فى لغتنا وأحاديثنا، فما أن يريد أحدنا أن يتهم الآخر بالكسل إلا ويؤكد له أن الأمر ليس تكية، بما يتيح تكوين صورة عما كانت عليه التكية فى الأصل. فالتكية، مكان كان يُقيم فيه الدراويش والفقراء، يأكلون مجاناً، ويقضون أوقاتهم فى العبادة، وفى الذكر، الذى كان كثيراً ما يُصطحب بالرقص الصوفى والموسيقى، وتُعد من المراكز الروحية أينما كانت، وهى الموقع الأساسى لنشر العمل الصالح بين المسلمين فى كل مكان. وفى ظل تعرضها للإهمال لم يجد دراويش التكيّة المولوية المعروفة بتكيّة الدراويش سوى أن يرفعوا مظلمتهم لرب العباد بعد تعرضها للإهمال والنسيان وغياب دورها الأساسى فى ظل الجوع والعطش الذى يتعرض له الفقراء والمساكين فى عصرنا الحالى! فبعد أن كانت ملجأ للفقراء والمحتاجين والجوعى وملاذاً لعابرى السبيل، أصبحت مأوى للقطط والكلاب الضالة! تقع التكية المولوية فى شارع السيوفية بالحلمية الجديدة على مقربة من جامعى السلطان حسن والرفاعى، وتضم مجموعة معمارية متكاملة، حيث ضريح (سيدى حسن صدقة) رفيق السيد البدوى. بنى هذا الضريح الأمير سنقر السعدى، الذى يمكن اعتباره (وزير الداخلية والدفاع) فى عهد الناصر محمد بن قلاوون 721ه، وألحق الأمير سنقر بالضريح ملجأً للسيدات الأرامل والمطلقات واليتامى إلى أن تم تحويل الملجأ إلى مدرسة ينفَق عليها من ريع أراضٍ زراعية بقرية «النحريرية»، التى تعرف الآن باسم (النحارية) بمدينة كفر الزيات بلدة الرئيس محمد نجيب. استمر ذلك إلى أن جاءت طائفة المولوية، أتباع جلال الدين الرومى وأقاموا بها. والطريف أن سليم الأول وقبل أن يقوم بغزو مصر جاء فى البداية متنكراً فى زى درويش مولوى، واستفاد لأنه أدرك أن سلطان المصريين (قنصوه الغورى)، قد أعلن حالة الطوارئ فى أقصى الغرب، حيث قلعة قايتباى فى الإسكندرية، فقام سليم بعد عودته لبلاده بتجهيز حملته علي مصر بعدما غير خطته العسكرية، إذ جاء من الشرق حيث مرج دابق والريدانية، مستعيناً بالمدفعية البرتغالية. وفور احتلال العثمانيين مصر، قاموا بردم ملجأ السيدات وأقاموا فوقه مباشرة (السمع خانة) وهى قاعة مستديرة تجمع ما بين المذهبين الشيعى والسنى، وترتكز على 12عموداً عليها أسماء الأئمة الأثنى عشر حسب المذهب الشيعى، وثمانية شبابيك وثمانى وحدات زخرفية، حيث أبواب الجنة ثمانية، وكذلك حَمَلة العرش. ويقول الدكتور حجاج إبراهيم، أستاذ الآثار، الخبير المعروف بجامعة طنطا، إنه كان يعتقد أن قاعة الذكر بنيت عام 1225ه، ولكنه عثر على وثيقة لا تزال محفوظة فى الأوقاف مؤرخة بسنة 1005ه، توضح أجور العاملين بالمسرح المولوى من ضاربى الدفوف وعازفى الناى، ما يعنى أن المبنى كان قائماً قبل عام 1225ه بمائتى وعشرين عاماً. ويشير إلى أن مسرح الدراويش الدوارة أقيم به المؤتمر الأول للموسيقى العربية عام 1928، وظل يؤدى عمله حتى العام 1952م؛ حيث تمت تصفية التكايا فى مصر، ويعود الفضل للدكتور «فان فونى» والدكتور حجاج فى تسجيل مسرح الدراويش فى عداد الآثار المصرية، كما نجح فى نقل المسنين الموجودين بالتكية المولوية إلى مكان آخر بغرض ترميم التكية. المولوية.. ذكر ورقص.. وإنشاد بعد إلغاء الخلافة العثمانية وإعلان الجمهورية التركية، تم تجميد نشاط المولوية عام 1925م ومن ثم انتقل مركز المولوية من «قونية» إلى حلب بسوريا، وكان عدد التكايا المولوية وقتها 72 تكية توقف عليها الأوقاف وترسل إليها الأموال والهدايا، وكانت تشيد عادةً خارج المدن حتى تكون بعيدة عن صخب المدينة، وتظل بمعزل عن العوام الذين لا يفهمون المولوية وطقوسها وحتى تكون بعيدة عن الحياة المادية قدر الإمكان. والتكية المولوية دائماً ما توجد داخل حديقة واسعة وبجانبها مبنى يسمى «بيت الصمت»، وهو الجبانة التى توضع فيها «الأجساد التى تحررت الأرواح منها» كما يوجد جناح خاص بالنساء من أجل سكن عائلة شيخ التكية. وتقع حجرة السماع غالباً وسط التكية، وتتكون من شكل دائرى مؤثث من الخشب اللامع ينفصل عنها «درابزين» مخصص للحضور يأتون للفرجة ومشاهدة طقوس الذكر والرقص والإنشاد. والذاهب للتكية يجد نفسه فى حالة روحية وفضول محمود، ففى هذه الحجرة يتطرق إلى سمعك صوت ناى يتم التدريب عليه والغرفة الأخرى مديح وإنشاد وتدريب على قراءة المثنوى المعنوى وحجرة أخرى لتعليم المقامات الموسيقية. رقصات المولوية.. أنين وحنين تنسب المولوية إلى جلال الرومى.. والانتساب إلى المولوية يتطلب إعداداً خاصاً، يخضع المبتدئ بموجبه إلى تدريب روحى يستمر 3 سنوات، فإذا استجاب المريد لكل ما يلزمه به مرشده من أعمال روحية والتزم بالتوجيهات الأخلاقية قُبل فى المولوية، وأصبح أحد أعضائها. ويقوم المبتدئ فى «السنة الأولى بخدمة الناس وفى الثانية بخدمة الله والثالثة بمراقبة قلبه». وفي خلال رحلة المريد نحو التحقق الروحى يجب أن يخضع للتهذيب وفقاً للتعاليم المولوية من التواضع والمحبة والتسامح.. ويحضر المريدون جلسات (السمع خانة) أو ما يعرف بالرقص الدائرى لمدة ساعات يدور الراقصون فيها حول مركز الدائرة التى يقف فيها المرشد الروحى ويندمجون فى مشاعر روحية سامية ترقى بنفوسهم إلى مرتبة الصفاء الروحى فيتخلصون من المشاعر النفسانية ويستغرقون فى وجد كامل يبعدهم عن العالم المادى ويأخذهم إلى الوجود الإلهى حيث يكون المريد قادراً على سماع النداء المرسل منذ زمن بعيد من خارج الزمن مذكراً بعالم الألحان الأزلية. والرقص عند الدراويش الدوارين من أشهر فنونهم وهو طقس له رمزيته.. فالثياب البيضاء التى يرتديها الراقصون ترمز إلى الأكفان والمعاطف السود إلى القبر وقلنسوة الرأس (اللباد) ترمز إلى شاهد القبر والبساط الأحمر يرمز إلى لون الشمس الغاربة والدورات الثلاث حول ساحة الرقص ترمز إلى المراحل الثلاث فى التقرب إلى الله.. المرحلة الأولى طريق العلم، والثانية الرؤية والأخيرة ترمز إلى الطريق المؤدى إلى الوصال.. وسقوط المعاطف السوداء من على أكتاف الدوارين أثناء قيامهم للذكر يعنى الخلاص والتطهر من الدنيا. ويلعب الناى دوراً مهماً فى الطقوس المولوية التى اشتهرت بالمقامات الموسيقية الخاصة بها. اتخذت المولوية شكلها المتماسك بفضل حلقات الذكر والسماع التى يقيمها الشيوخ لمريديهم. والمولوية لا تميز بين الأديان والطوائف، إذ يحضر حلقات (السمع خانة) كل من يريد ويلقى الجميع تسامياً ملحوظاً من الدراويش المولوية، وعندما انتقل الرومى إلى جوار الله شيعهُ مريدوه وأحباؤه من كل جنس، فكان الحاخامات يقرأون التوراة، والمسيحيون من أصدقائه يرنمون بالإنجيل، والمسلمون يرتلون القرآن على روحه.. عرفاناً بما خلفه الرومى من تراث من العطف والتسامح بين الأديان ستظل البشرية تعتز به وتحترمه.