عشش وقمامة ومياه ملوثة.. والحكومة غائبة أم مريم: تقدمت للحصول على «معاش العزة والكرامة» 3 مرات دون فائدة جمال: سكان الريف والنجوع أفضل منا أم عزة: كل اللى عايزاه «لقمة نظيفة».. وولاد الحلال كتير محمد: مفيش خدمات أصلًا حتى «نشتكى» شعبان: الكلمة للبلطجية.. ونفسى أشوف «فرن عيش» محمد طفل ب100 راجل ويدرس وينفق على أسرته تَفَنَّنَ الشقاء فى رسم ملامح وجوههم، أقصى أحلامهم أدوات وخدمات آدمية تضمن لهم حياة كريمة. كثير منهم يحلمون بلقمة العيش، وآخرون لا يملكون سوى قول «يا رب» لتسكن فى قلوبهم السكينة، ولكى يستطيعوا أن يتحملوا جوعهم. غرف أشبه بالعشش لا تتعدى مساحتها ال5 أمتار تعيش فيها أسر لا يقل عدد أفرادها عن 4 بينهم أطفال يفترشون الأرض وقد ينامون أحيانًا على مراتب ممزقة متهالكة. إنهم قاطنو العشوائيات فى منطقة عزبة خيرالله بمصر القديمة. ولو استمرت أحوال العشوائيات بهذا الشكل لخرجت من العشوائيات «ثورة جياع».. فالأحوال المعيشية غاية فى السوء والتردى. فمعظم تلك المناطق تعيش فى ظروف غير آدمية. فلا مساكن تصلح للحياة بل بقايا منازل متهدمة.. هؤلاء لم يشعروا بمرور أية ثورات عليهم، لأن أحوالهم لم تتغير على مدار العقود الماضية، بل ربما تكون ازدادت سوءًا فى ظل ارتفاع الأسعار. وقد أعلن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء أن إجمالى مساحة المناطق العشوائية فى مصر يبلغ 160. 8 ألف فدان، ما يمثل 38. 6٪ من الكتلة العمرانية لمدن مصر خلال عام 2016. دخلنا إلى منطقة «عزبة خير الله» وهى منطقة يصعب على السيارة الدخول فيها بسبب ضيق شوارعها. تلال القمامة يلهو عليها الأطفال الذين اتخذوا بقايا الزجاجات الفارغة أدوات مرح.. ومما يلفت النظر سوء حالة الشوارع. فلا يوجد شارع واحد مرصوف بالمنطقة.. أما المنازل فهى خليط ما بين البيوت والعشش، وشبكة الصرف الصحى غاية فى السوء ولا تغطى إلا نصف المنطقة مما يؤدى إلى غرق المنازل والشوارع بشكل مستمر بمياه الصرف. باختصار: إنها منطقة محرومة من كافة الخدمات. أما وسيلة المواصلات بالمنطقة، فهى «الكارتة» وعربات الكارو، نظرًا لبعدها عن خطوط هيئة النقل العام. أما الشوارع، فلا يوجد بها عمود إنارة واحد وهو ما يتسبب فى انتشار الجريمة والبلطجة. وتجمعات القمامة، حدث ولا حرج، فلا وجود لشركات النظافة بالمنطقة على الإطلاق وهو ما يتسبب فى تراكم القمامة بشكل غير عادى. بقايا منازل متهدمة.. ولا خدمات أو مرافق من أى نوع.. لا مياه شرب ولا صرف صحى ولا طرق مرصوفة ولا مدارس ولا حتى دورات مياه فى المنازل.. بل دورات مياه مشتركة بين كل مجموعة أسر. والأسرة التى يبلغ عدد أفرادها سبعة وثمانية أفراد يعيشون فى حجرة واحدة دون دورة مياه. وكل هذه الظروف حوّلت العشوائيات إلى «مفرخ خطير» لكل أشكال الإجرام والبلطجة وتجارة المخدرات والخروج على القانون واستباحة الأعراض. ويكفى أن نعرف أن الحد الأقصى لدخل الأسرة فى هذه المناطق حوالى 250 جنيهًا شهرياً، هذا إذا كان رب الأسرة يعمل من الأساس، فمعظم سكان العشوائيات من العاطلين. عم «جمال» من سكان المنطقة وهو يقول: «إذا مرض أحد ساكنى المنطقة بشكل مفاجئ، فليس بمقدورنا إنقاذه لبعد المستشفيات وعدم وجود صيدليات.. وأعتقد أن خدمة هيئة الإسعاف لا تعرف حتى مكان وجود المنطقة رغم أننا لسنا قادرين على دفع ثمنها.. كما أننا نعيش بطريقة أدنى بكثير من ساكنى الريف والنجوع.. ألا تعلم الحكومة أن هناك منطقه تسمى عزبة خير الله؟ أم أنهم يعتبروننا مواطنين ليست لنا حقوق عندهم، ونحن نعامل وكأننا لسنا بنى آدمين. وأضاف أن من يحتاج لأى مستلزمات يضطر إلى ركوب سيارة أجرة إن وجدت.. فعلى أى أساس نعامل بهذه الطريقة التى تفقدنا آدميتنا. وتطالب أم «مريم» السيدة الأربعينية والتى تعول 3 أطفال، الدولة بتطوير المنطقة ومعاملتنا كمواطنين مصريين، لنا ما لهم من حقوق وواجبات مع بقائنا فيها.. ويكفينا سنوات الذل التى عشناها فيها ونعيشها حتى الآن.. وهى تعمل فى فرن للعيش حتى تتمكن من الإنفاق على أسرتها خصوصًا أن زوجها مريض. وتضيف أم مريم: «تقدمت للحصول على «معاش العزة والكرامة» أربع مرات، والذى يُصْرَف كل 3 أشهر، لكن لم أتمكن من الحصول عليه». وتوضح أنها تدفع 375 جنيهًا إيجارًا شهرياً.. والحياة «مستورة»، مؤكدة أنها ستظل تمارس عملها حتى آخر نفس لديها.. وبجوار أم مريم كانت تجلس ابنتها الصغرى «مريم» وكل ما تتمناه هو حقيبة مدرسية بعجلات وعروسة تلهو بها.. ورغم أنها أحلام بسيطة إلا أن أطفال العشوائيات محرومون منها. أما أم عزة –65 سنة- فتعيش داخل مسكن بسيط أسقفه مصنوعة من الخشب وتتساقط عليها الأمطار فى فصل الشتاء. الزوج هجرها منذ زمن طويل، وهى تقول: «أعيش مع ابنتى الصغرى وحفيدتى وأدفع إيجارًا 350 جنيهًا شهرياً.. فولاد الحلال كتير ويساعدوننا». وأضافت أن حالها لا يختلف كثيرًا عن أحوال أهل منطقتها. فهى تعانى ما يعانونه وكانت تنتظر من الحكومة أن تنظر لحالها بعين الرحمة والشفقة، وتوفر لها ولابنتها الحياة الكريمة بشربة ماء وكسرة خبز نظيفة.. وكل ما تتمناه أن تتمكن من تجهيز ابنتها حتى «تسترها». وتصمت «أم عزة» قليلاً، وكأنها تفكر ثم تستكمل حديثها قائلة: «نفسى فى مشروع صغير.. كشك أو عربية خضار عشان أقدر أصرف بيه على بنتى وحفيدتى». وقال محمد السيد، حاصل على دبلوم تجارة ومقيم فى عزبة خير الله، إن الحياة أصبحت جحيمًا لا يطاق داخل العزبة، لتدنى.. بل انعدام الخدمات. ويضيف: «الحياة غير آدمية.. وكأننا نعيش فى العصور الوسطى أين الحكومة والمسئولون؟! ويقول شعبان، موظف بإحدى المصالح الحكومية: إن تدنى الخدمات أصبح ظاهرة فى العزبة التى تعانى من التهميش منذ عشرات السنين ولا أحد ينظر إليها رغم تعدد الأنظمة وتوالى الحكومات.. لا يوجد مستشفى ولا مستوصف.. وسكان العزبة يزيدون على 300 ألف نسمة. ويضيف: «لا يوجد فرن عيش.. نفسى أشوف فرن.. ولا توجد ولا شبكة صرف صحى ولا رصف شوارع.. نحن نعيش فى منطقة غير آدمية تمامًا يسيطر عليها البلطجية ويغيب عنها القانون.. إنها وكر للخارجين على القانون الذين يتحكمون فى كل شىء وكأننا دولة داخل الدولة». أما أم «دنيا» التى تعمل فى محل صابون وتدفع إيجارًا قدره 450 جنيهًا شهرياً.. فتقول: أكسب 200 جنيه أسبوعيًا وأتحمل نفقات علاج زوجى المريض. حال أم «محمد» صعب، لأن لديها 3 بنات وولدا وزوجها المريض.. وأحلامها بسيطة.. تقول عنها: «نفسى ربنا يوسعها على وأعيش فى بيت أكبر لأنى عايشة فى غرفة واحدة وحمام مشترك.. وتعمل «أم محمد» فى محل فوانيس من أجل الإنفاق على أسرتها من الساعة 9 صباحًا حتى 5 مساءً.. والحمد لله على كل شىء. على أطراف العزبة، جذب انتباهنا سيدة فى الخمسينيات من عمرها واسمها «أم صباح» تصارع المرض وتعيش بمفردها فى غرفة واحدة صغيرة، وهى تعانى من شلل نصفى، لديها ابنتان متزوجتان ورفضت العيش مع أى منهما حتى لا تحملهما همها.. وقالت: «نفسى ربنا يشفينى عشان ما تعبشى حد معايا.. أنا لا أملك ثمن العلاج ولما بيخلص أعجز عن شرائه مرة ثانية.. لكن جيرانى هنا دائمًا بيساعدونى». وحاولت أم صباح أن تمنع دموعها التى سقطت على وجهها رغمًا عنها وهى تقول: أنا راضية باللى ربنا كتبهولى وكل ما أتمناه هو الشفاء. فى نهاية الجولة، التقينا محمد، وهو نموذج للأطفال الذين شاخوا قبل الأوان، لم يعش طفولة طبيعية مثل باقى الأطفال.. فقد رسم الفقر والبؤس خطوطًا واضحة على وجهه وهو يبلغ من العمر 15 عامًا فى الصف الثانى الإعدادى، ويعمل «ميكانيكى» من أجل مساعدة أسرته على نفقات المعيشة ولديه 3 أخوات.. تحمل المسئولية منذ صغر سنه وقرر أن يكون رجلًا منذ نعومة أظافره.. لا يساعد فقط أهله ولكن كل من يحتاج إليه، فهو طفل ولكن ب100 رجل. هكذا كان حال سكان منطقة عزبة خير الله التى تعيش وسط ظروف مأساوية وحياة غير آدمية وهم يشعرون بتجاهل متعمد من الدولة لهم، وكأنهم مواطنون غير مصريين، مطالبين الحكومة بإدراجهم على قوائم العشوائيات التى طال الحديث عن تطويرها وبدأ بالفعل تطوير جزء ضئيل منها حتى تليق منطقتهم ليس بهم، وإنما بزوّار المناطق التاريخية المجاورة لعزبة خير الله.