رغم أن العالم بدا حتى لحظات قبيل إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية يتوقع فوز المرشحة هيلارى كلينتون، إلا أن النتيجة النهائية جاءت فى الاتجاه الآخر، حيث تم إعلان فوز الرئيس المنتخب دونالد ترامب، الأمر الذى شكل صدمة كبيرة على مستوى الداخل الأمريكى والخارج بشأن طبيعة السياسات التى من المتوقع أن ينتهجها ترامب خلال سنوات جلوسه فى البيت الأبيض. وإذا كانت زوايا النظر لتأثير واتجاه تلك العملية سيتواصل لفترة غير قليلة مقبلة، فمن المفارقات ذات الدلالة فى هذا الصدد ما ذهب اليه المفكر الأمريكى ذو الأصل اليابانى فرانسيس فوكوياما من أن فوز ترامب يمثل حسب قوله «نقطة تحول مفصلية للنظام الدولي»، وإذا صحت رؤيته تلك فإنها تمثل تجاوزا لما راح يبشر به منذ أكثر من عقدين حول نهاية التاريخ. فمن ثنايا هذه الرؤية ومن واقع تطورات الموقف حتى الآن يمكن القول إن الانتخابات الأمريكية وفوز ترامب فيها يعكس بشكل أو بآخر انهيار نظرية فوكوياما بشأن نهاية التاريخ أو ما يمكن وصفه بسقوط ثقافة «نهاية التاريخ» والتى تغلغلت فى الفكر والحياة الأمريكية بفعل الترويج لها لتأكيد انتصار النموذج الليبرالي. وإذا كانت النظرية التى قدمها فوكوياما فى معرض تحليله لوضعية النظام الدولى عقب سقوط الاتحاد السوفيتى قد تعرضت لانتقادات عدة قوضت من صحتها، فلعل فى التطور الأخير ما يقضى عليها نهائيا ويجعلها هى ذاتها فى عداد التاريخ. فقد راح فوكوياما متفائلا بما حققته الولاياتالمتحدة من انتصار كامل على المعسكر الاشتراكى بانهيار جدار برلين وما تبعه من تفكك الاتحاد السوفيتى يبشرنا بما وصفه بنهاية التاريخ مؤكدا من خلال أطروحته على أن الديمقراطية الليبرالية بقيمها عن الحرية، الفردية، المساواة، السيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، تُشكِّل مرحلة نهاية التطور الأيديولوجى للإنسان وبالتالى عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغةٍ نهائيةٍ للحكومة البشرية. غير أن الاحتجاجات التى شهدتها مختلف الولاياتالأمريكية ضد فوز ترامب تقدم صورة أخرى تكشف عن أن الديمقراطية لا تمثل نهاية التطور الإنسانى وأنها فى حد ذاتها ما زالت تبقى قيمة يسود الخلاف بشأنها. فجوهر قيمة الديمقراطية تتمثل فى الاحتكام إلى الصندوق وهو التراث الذى ساد الغرب عموما والولاياتالمتحدة خصوصا على مدى نحو قرنين من الزمان. وإذا كنا لسنا فى معرض تناول مسيرة الجدل الفكرى بشأن الديمقراطية فإنه يبقى أهمية رصد – دون تهليل أو تضخيم – أن يأتى الخروج على الديمقراطية إلى حد رفضها من داخل الولاياتالمتحدة معقل الديمقراطية فى عالمنا المعاصر. وبغض النظر عما إذا تواصلت الاحتجاجات ضد ترامب، أم توقفت، فإنه من الجوانب ذات الدلالة حتى الآن هو خروج المحتجين فى عدد من الولايات ووقوع مصادمات مع جهاز الشرطة، أسفرت عن سقوط قتيل وعدد من المصابين. وهو التطور الذى تنبع أهميته من أنه يتم للمرة الأولى فى تاريخ الولاياتالمتحدة بخروج احتجاجات على نتائج انتخابات رئاسية. وأما على صعيد الخارج، فإن موجة الاستياء والقلق التى انتابت العديد من الدول بما فيها حلفاء الولاياتالمتحدة فى أوروبا تطرح التساؤلات حول تفوق النموذج الليبرالى الأمريكى الذى نسب له فوكوياما الهيمنة والسيادة فى نظريته بشأن نهاية التاريخ. ولعله فيما يبدو تأكيدًا لذلك، وفيما قد يشير إلى تراجع فوكوياما عن نظريته ،إشارته فى مقال له عقب فوز ترامب إلى أن فترة رئاسة ترامب «ستؤذن بانتهاء العهد الذى كانت فيه الولاياتالمتحدة تشكل رمزا للديمقراطية نفسها فى أعين الشعوب التى ترزح تحت حكم الأنظمة السلطوية فى مختلف أرجاء العالم». وإذا كان من المبكر رصد وتحديد تداعيات فوز ترامب على مجمل الأوضاع فى الولاياتالمتحدة وعلى مستوى النظام الدولى فى ضوء حقيقة اختلاف توجهات المرشح للرئاسة عن إدارته للسياسة على أرض الواقع، فإنه يظل من المؤكد أن فوز ترامب يأتى فى سياق تتراجع فيه الهيمنة الأمريكية.