فى مقال منشور له بجريدة "وول ستريت جورنال"، أكد فرانسيس فوكوياما, المفكر السياسي الأمريكي , أنه على الرغم من الأيام الثورية المثيرة التي شهدها ميدان التحرير بالقاهرة في العام 2011، فإنه يبدو أن الربيع العربي لن يسفر عن ديمقراطية حقيقية، موضحاً أنها لن تسفر عن ديمقراطية سريعة، ملمحاً إلى أنه عقب ثورات 1848 "ربيع الشعوب" الأوروبية، استغرقت الديمقراطية 70 عاماً أخرى لكي تتماسك. وأضاف فوكوياما في أنه بعد مرور 25 عاماً على مظاهرات ميدان تيانانمين في بكين وسقوط جدار برلين، لا تزال الديمقراطية الليبرالية بلا منازع أو منافس كما طرحت افتراضاته من قبل في كتابه الشهير "نهاية التاريخ". ويتساءل فوكوياما: هل الافتراضات التي قدمها كتاب "نهاية التاريخ" قد ثبت إخفاقها، وإذا لم تكن خاطئة، فهل تحتاج إلى إعادة النظر؟ ويعتقد أن الفكرة الأساسية مازالت صحيحة في الأساس، ولكنه يدرك الآن العديد من الأشياء حول طبيعة التطور السياسي التي لم يرها بوضوح كاف خلال عام 1989. نهاية التاريخ يقول فوكوياما: "ذكرت من قبل أن التاريخ يتغير بصورة تختلف تماماً عما يتخليه المفكرون اليساريون، حيث إن عملية التطور الاقتصادي والسياسي لن تؤدي إلى الشيوعية كما أكد الماركسيون وأعلن الاتحاد السوفيتي، ولكن ذلك التطور يقود إلى شكل من الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق، ويبلغ التاريخ الذي كتبت عنه ذروته في الحرية والحكومات المنتخبة والحقوق الفردية والنظام الاقتصادي الذي يدور فيه رأس المال والعمال في ظل رقابة متواضعة من الدولة". ويعترف فوكوياما أن العام 2014 يختلف كثيراً عن عام 1989، الآن في روسيا نظام حكم استبدادي منتخب تغذيه عائدات النفط، ويسعى هذا النظام، الذي يمثل تهديداً، إلى الضغط على جيرانه لاسترجاع الأراضي المفقودة مع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، ومازالت السلطة في الصين مستبدة أيضاً، بيد أنها الآن لديها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، إضافة إلى طموحاتها الإقليمية في بحار جنوب وشرق الصين. أنظمة ديمقراطية لا تسير على النهج الصحيح وكما يرى فوكوياما لا تقتصر مشكلة العالم اليوم على بداية تحرك القوى الاستبدادية، ولكنها تشمل أيضاً حقيقة أن الكثير من الأنظمة الديمقراطية القائمة لا تسير على النهج الصحيح، فعلى سبيل المثال الانقلاب العسكري الذي حدث الشهر الماضي في تايلاند، كما أن الكثير من الدول التي حققت نجاحا في التحول الديمقراطي ومنها تركيا وسريلانكا ونيكاراجوا قد ارتدت عن الصواب وانزلقت إلى ممارسات استبداية، أما الدول الأخرى، ومنها الدول التي انضمت مؤخراً إلى الاتحاد الأوروبي مثل رومانيا وبلغاريا، فمازالت تعاني من الفساد. أما بالنسبة إلى الديمقراطيات المتقدمة، نجد أن كلاً من الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي قد شهدا العديد من الأزمات المالية خلال العقد الماضي، ويعني ذلك حدوث ضعف في النمو وارتفاع لمعدلات البطالة وخاصة بين الشباب، وعلى الرغم من بدء التوسع الحالي في الاقتصاد الأمريكي، فإن الفوائد لم يتم تقاسمها بالتساوى، ولا يبدو النظام السياسي الحزبي الاستقطابي نموذجاً مشرقاً لكي تحتذي به الديمقراطيات الأخرى. ويؤكد فوكوياما على أنه عند ملاحظة الاتجاهات التاريخية الواسعة، من المهم ألا نتحمس كثيراً للتطورات ذات المدى القصير، حيث أن العلامات الفارقة في أي نظام سياسي دائم تتمثل في مدى استدامته على المدى الطويل، وليس في أدائه في أي فترة زمنية معينة. الربيع العربي لن يسفر عن أي ديمقراطية يرى فوكوياما أن النظام الاقتصادي قد تغير بالفعل على الرغم من الأزمة المالية لعامي 2007و2008، وتزايدت مستويات الرخاء في جميع أنحاء العالم على نطاق واسع في كل القارات، وكان ذلك نتيجة تلاحم العالم في نظام ليبرالي للتجارة والاستثمار، وحتى في الدول الشيوعية مثل الصين وفيتنام، حيث تسود قواعد السوق والمنافسة. كما حدث تغير في النظام السياسي أيضاً، كان عدد الديمقراطيات المنتخبة لا يتجاوز 35 فقط (30% من دول العالم)، أما بحلول عام 2014، فقد ازداد العدد إلى 120 (أكثر من 60% من دول العالم). ويرى أن هناك ترابطاً ما بين ظهور نظام الاقتصاد العالمي القائم على السوق وانتشار الديمقراطية. بيد أنه منذ عام 2005، يشهد العالم ما أطلقت عليه مؤسسة فريدم هاوس "الركود الديمقراطي" حيث تراجعت الديمقراطيات في العدد والنوعية (نزاهة الانتخابات وحرية الصحافة). يقول فوكوياما: "بينما يوجد قلق حيال الاتجاهات الاستبدادية في روسياوتايلاند ونيكاراجو، لا يجب إغفال حقيقة أن كل هذه الدول كانت ديكتاتوريات بالفعل خلال السبعينيات. أما في المنطقة العربية، وعلى الرغم من الأيام الثورية المثيرة التي شهدها ميدان التحرير بالقاهرة في عام 2011، فإنه يبدو أن الربيع العربي لن يسفر عن ديمقراطية حقيقية في أي مكان باستثناء البلد التي بدأ فيها، تونس، وهو ما يعني احتمال المزيد من استجابة السياسات العربية على مدى فترة زمنية طويلة. وبالفعل أخفقت تماماً توقعات أن الربيع العربي سيحدث ديمقراطية سريعة، وقد أغفلنا أنه عقب ثورات 1848 "ربيع الشعوب" الأوروبية، استغرقت الديمقراطية 70 عاماً أخرى لكي تتماسك". الخلافة الإسلامية ليست خيار الأغلبية العظمى في الشرق الأوسط ومن وجهة نظر فوكوياما، في مجال الأفكار، مازالت الديمقراطية الليبرالية بلا منازع أو منافس حقيقي. إذ يعرب كل من بوتين في روسيا وخامنئي إيران عن إجلالهما للأفكار الديمقراطية حتي إذا كانوا يدوسونها بأقدامهما في الممارسة العملية، فلماذا يعبأ الآخرون بعناء إجراءات استفتاءات صورية حول تقرير المصير في أوكرانيا الشرقية؟ وربما يحلم بعض المتطرفين في الشرق الأوسط باستعادة الخلافة الإسلامية، ولكنه ليس خيار الأغلبية العظمى للأشخاص الذين يعيشون في الدول الإسلامية. ويرى فوكوياما أن النظام الوحيد الذي يمكن أن ينافس الديمقراطية الليبرالية في الشرق الأوسط يتمثل فيما أطلق عليه "نموذج الصين" الذي يدمج بين الحكومة الاستبدادية والاقتصاد القائم على السوق جزئياً، إضافة إلى مستوى مرتفع من الكفاءة التكنوقراطية والتكنولوجية، بيد أنه يرى أن "نموذج الصين" لا يتسم بالاستدامة، ومن وجهة نظرة من المستحيل أن تتحول الولاياتالمتحدةالأمريكية أو الصين إلى سياسة "نموذج الصين" بعد مرور 50 عاماً من الآن؛ حيث تعتمد شرعية النظام وبقاء حكم الأحزاب على استمرار المستويات المرتفعة للنمو، وببساطة لن يحدث ذلك لأن الصين تسعى إلى إجراء التحول من دولة ذات دخل متوسط إلى دولة ذات دخل مرتفع. سيادة القانون أساس الديمقراطية يوضح "فوكوياما" أنه لم يعمد أن تكون افتراضات كتابه "نهاية التاريخ" قاطعة أو مجرد تنبؤ بالانتصار الحتمي للديمقراطية الليبرالية في جميع أنحاء العالم، حيث تظل الديمقراطيات على قيد الحياة وتنجح عندما يكون الناس على استعداد للقتال من أجل سيادة القانون وحقوق الإنسان والمساءلة السياسية، ولن يتحقق الحكم الديمقراطي واقتصاد السوق إلا من خلال التكامل بين المؤسسات والأحزاب السياسية وأجهزة القضاء وحقوق الملكية والهوية الوطنية المشتركة، وهي الأشياء التي تطورت في الديمقراطيات المتقدمة عبر عقود عديدة وحتى قرون. ويشير إلى أن الولاياتالمتحدة أغفلت هذه الحقيقة عندما اسقطت نظام صدام حسين في العراق واعتقدت خاطئة أن الديمقراطية ستتحقق على الفور في العراق. يرى فوكوياما أنه بعد مرور 25 عاماً من الآن، لن يظهر نموذج آخر أفضل يستبدل الديمقراطية الليبرالية التي جاءت في افتراضات كتابه "نهاية التاريخ"، بيد أن التهديد الوحيد المهم يتمثل في أنه بمجرد أن تصل المجتمعات إلى أعلى سلم التصنيع، يبدأ الهيكل الاجتماعي في التغيير بطريقة ما تزيد من متطلباته للمشاركة السياسية، وإذا استوعبت النخبة السياسية هذه المطالب، نكون بالفعل وصلنا إلى شكل من أشكال الديمقراطية، ويبقى التساؤل: هل ستتمكن كل الدول من الصعود إلى أعلى هذا السلم لا محالة؟ ويختتم فوكوياما مقاله مؤكداً أنه لا ينبغي على من يعيشون في الديمقراطيات التي تم إدراكها بالفعل الشعور بالرضا التام أو الثقة في استمرارها إلى الأبد.