فى نهاية صيف عام 1989، خرج باحث شاب يدعى فرانسيس فوكوياما بأطروحة جديدة عن نهاية التاريخ The End of History بانتصار الليبرالية الغربية فى معركة الأيديولوجيات التى شغلت العالم فى سنوات الحرب الباردة ورأى فوكوياما فى مقال شهير بدورية «ناشونال إنترست» الأمريكية أن الصراع قد حسم لمصلحة الديمقراطية الغربية. اليوم تحتفل دوائر الفكر والسياسة فى الغرب بمرور ربع قرن على المقال الشهير الذى سبق الانهيارات المتتابعة فى المعسكر الشيوعى وهو ما أعطى الكاتب الأمريكي، من أصل ياباني، مكانة مرموقة فى الفكر السياسى العالمي. قبل عشر سنوات، أجريت مقابلة مع فوكوياما فى مكتبه بجامعة جونز هوبكنز بواشنطن ووضعت عنوانا «نهاية مفتوحة للتاريخ»Open-Ended History للنسخة الإنجليزية فى صحيفة «الأهرام ويكلي» وقابلنى بعدها وعلى وجهه ابتسامة من نوع خاص عن دلالة العنوان وشعوره بالإحباط من عدم إكتمال نبوءته بصعود الليبرالية الغربية دون غيرها لتسود العالم، فعندما سألته فى ذروة الفشل الأمريكى فى العراق عن موقع الشرق الأوسط فى نظريته وظهور نمط من الحكومات الديمقراطية القادرة على تقديم نموذج أفضل للحكم الجيد فرد فوكوياما من فوره «ليس فى حالة الشرق الأوسط، ستنشب صراعات أكبر ومزيد من العنف نتيجة غياب الديمقراطية الحقيقية والشرعية». وقد كان فوكوياما محقا فيما ذهب إليه إلا أنه بعد سنوات من حرب العراق ينظر إلى مفكر مثله بإعتباره صاحب دور فى كارثة العراق بعد أن وقع مع مجموعة المحافظين الجدد على وثيقة «مشروع القرن الأمريكى الجديد» التى شرعنت توجه الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش للتخلص من حكم صدام حسين وعندما إستفاق فوكوياما وأخرين على وقع الجريمة المكتملة ضد الشعب العراقى كان الوقت قد فات. وها نحن نحصد اليوم التوابع الكارثية بظهور التنظيم الأشرس والأكثر دموية فى التاريخ المعاصر للشرق الأوسط «داعش». حاول فوكوياما أن يربط بين تقدم الديمقراطية والنظام الرأسمالى فى إطار المنظومة الليبرالية التى تتيح حرية أكبر للأفراد وتوفر حماية أوسع لأصحاب رأس المال والملكية الخاصة وهو ما لا يتيحه أى نظام سياسى أخر، وكان يرى فى وقت طرح مقاله أن هناك نزعة إنسانية طبيعية لتبنى تلك القيم وأن نزعة «العولمة» المتنامية تؤكد على توجه الشعوب نحو مزيد من الليبرالية الاقتصادية وتبنى حكومات ديمقراطية وهو تصور عززه سقوط المعسكر الشيوعى فى شرق أوروبا. جرت مياه كثيرة فى السياسة الدولية وصعدت إلى القمة دول تتبنى أيديولوجيات تمزج بين الرأسمالية والماركسية (حالة الصين نموذجا) حتى باتت تمثل تهديدا للقيم الغربية التى ظنت أنها فى طريقها لاكتساح العالم، وضربت العالم موجة من الركود الاقتصادى بعد انهيارات متتابعة فى اقتصاد السوق نتيجة اختلالات هيكلية خطيرة، وغرق الشرق الأوسط فى صراعات طائفية وعرقية تلعب فيها الأصولية الدينية دور البطولة على حساب تماسك ووحدة الدول. وفى نقد فوكوياما، ظهرت طائفة من المؤرخين يرون أن نهاية التاريخ ضرب من الخيال حيث لا يوجد إتفاق حول مفهوم «الحرية» التى ينشدها البشر ولا يمكن أن نتفق حول «قانون تاريخي» واحد يرسم طريقا لتطور المجتمعات البشرية على إختلاف طبائعها وتكويناتها. كما يرى آخرون أن الليبرالية التى يعد بها الغرب العالم لا يستطيع أنصارها اليوم وضع تعريف محدد لما يتحدثون عنه وتلك معضلة كبرى فى الفكر السياسى الغربي. فى عالم غارق فى الفوضى والصراعات والتفاوت بين الأثرياء والفقراء لا يمكن الحديث عن انتصار ايديولوجية بعينها خاصة فى حالة الليبرالية وإقتصاد السوق والميراث الثقيل للقوى الكبرى التى مازالت تمارس الهيمنة والإستعلاء الحضارى الذى يزيد من درجة الصدام ويوفر أرضية خصبة لأفكار بديلة بعضها يستند إلى رفض الليبرالية والحريات. وأصبح من السهل إستقطاب »الساخطين« سواء على أرضية سياسية أو اقتصادية أو مذهبية. ما طرحه فوكوياما، قبل 25 عاما هو إسهام بارز يضاف إلى تاريخ الأفكار ولكنه يبقى قاصرا فى تصوراته أن تفوق الغرب مسألة غير قابلة للنقاش حيث يموج العالم بمتغيرات بلغت ذروتها فى الآونة الأخيرة، وها هو التاريخ يقف متهكما على من توقعوا نهايته وهو يرى الروس عائدون فى ثوب جديد لتحدى الغرب ويرمق الأصولية الدينية وهى تصل إلى قمة تجلياتها العنيفة برعاية من العواصمالغربية ويسجل فى دفاتره فصلا جديداً عن الصينيين وهم يصعدون إلى القمة فى ثبات! عفوا فوكوياما.. نهاية التاريخ ليست غداً! لمزيد من مقالات عزت ابراهيم