دائمًا ماتكون الموسيقي هي اللغة المتداولة بين الشعوب والدول للتعبير عن الثقافة والتراث، وهو ماجعل مصر تتربع علي عرش الأغنية في زمن كوكب الشرق "أم كلثوم" وموسيقار الأجيال "محمد عبد الوهاب" والعندليب الأسمر "عبد الحليم حافظ "، فهؤلاء استطاعوا أن يشكلوا تراث عريق يعبر عن هويتنا المصرية والعربية من خلال الموسيقي. ومع دخول حقبة الثمانينات والتسعينات بدأ المطربون والملحنون وضع الشكل الغربي نصب أعينهم، فمنهم من يريد الوصول للعالمية ومنهم من يرغب في تقديم شكل موسيقي وغنائي يعتقد أنه جديد وفريد من نوعه، فتحرروا من الثوب الشرقي وارتدوا الغربي حتي وصل بنا الحال في النهاية إلى طمس هويتنا المصرية الشرقية في الموسيقي، بعد أن سيطر الشكل الغربي على معظم الأغاني المصرية ليفقدها لونها وطعمها، ولهذا قررت صحيفة "الوفد" أن تطرح هذ القضية على عدد من الموسيقين لمعرفة رؤيتهم للأمر، والحصول على إجابات لبعض الأسئلة التي تدور بأذهاننا في محاولة للوصول معهم لحلول تُعيد للأغنية المصرية ريادتها مجدداً. وأرجع الموسيقار حلمي بكر، أسباب اختفاء الهوية الشرقية في الأغنية المصرية لعدة آليات، منها اعتماد الموزعيين على برامج الكمبيوتر في توزيع الأغنية المصرية ، لافتا إلى أن هذه البرامج بعيدة كل البعد عن المقامات والأساليب الشرقي مما ساعد على اختفائها. وتابع :"أغلب المُلحنين والمطربين لا يعلمون شيئًا عن ماهية الموسيقي الشرقية، وهو السبب الكامن وراء اختفاءها من الأغنية المصرية، لأن فاقد الشيء لا يعطه، فهؤلاء فقط كل ما يشغل بالهم هو التحرر من الثوب الشرقي، وارتداء الاستايل الغربي، وهذا ما نجده بشكل واضح في شكل وأسلوب الفنان، فهو لا يكتفي فقط باستنساخ موسيقاهم، وإنما أخذوا القالب بأكمله دون اعتبار لهويتا وثقافتنا التي لا تتماشي مع ثقافتهم". وطالب بكر المُلحنين والموزعين بضرورة العودة إلى الفورم العربي، حتي لا تندثر الأغنية المصرية ونفقد هويتا الشرقية، مشدداً علي أن الثوب الغربي لن يصل بنا إلى العالمية، ولن يزيد من شعبيتنا لديهم. وأكد بكر أن هناك فنانون نجحوا في الحفاظ على الهوية الشرقية ولم ينجرفوا وراء الموجة على رأسهن، الفنانة آمال ماهر، وكارمن سليمان، وشيرين عبدالوهاب، مشيراً إلي أن أغلب الأغاني الموجودة على الساحة الآن لا تصلح للاستماع الآدمي، ولا تمت للهوية الشرقية، لأن 90% منهم لا يملكون الإمكانيات الشرقية. وفي سياق متصل، أوضح الناقد الموسيقي أمجد مصطفي، أن استنساخ الموسيقي الغربية يعود لحقبة السبعينات، فهي ليست ظاهرة مستحدثة، وإنما بدأت تتدهور رويدا رويداً حتي ضاعت الأغنية المصرية وسط الرتم الغربي السريع الذي لا يتماشي مع ثقافتنا وهويتنا. وتابع :" بعد رحيل العندليب الأسمر، بات المُلحنين والمطربين يبحثون عن شكل جديد للغناء، وتولي هذه المهام فنان الجاز يحي خليل الذي جمع بين الرتم الغربي والعربي للخروج بالأغنية المصرية بعيدا عن الشكل النمطي". واستطرد :"وفي منتصف الثمانينات، شهد الوسط الغنائي هوجه عالمية بظهور أغنتي لولاكي للمطرب علي حميدة، وميال للفنان عمرو دياب، وقاد هذه المرحلة المُلحن حميد الشاعري الذي استنسخ الأرتام الموسيقية والمقامات الغربية دون الإشارة لذلك". وأكد أمجد مصطفي أن الاعتماد على الموسيقى الغربية ساعد على اندثار الهوية الشرقية، وهبوط الأغنية المصرية، ولفت إلى أن شركات الإنتاج اعتمدت على هذا النوع من الأغاني بغية الربح المادي، خاصة بعدما حقق عدد من المطربين الذين اعتمدوا على الموسيقي الغربية في أغانيهم نجاحا كبيرا في هذه الفترة وأبرزهم، علي حميدة، وفارس، وإبراهيم عبد القادر، وهشام عباس، ومصطفي قمر، وعلاء عبد الخالق، وعلاء سلام، وحنان. وشدد مصطفي علي أن الاستنساخ لم يتوقف عند موسيقاهم فحسب، وإنما وصل الأمر إلى محاكاة كليبات الغرب التي تتنافي مع عاداتنا الشرقية، وظهر ذلك بشكل واضح في منتصف التسعينات الذي شهد موجة "البورنو كليب" واستمرت حتى الآن، مؤكدا أنهم يستنسخوا أسوأ ما في الغرب. وأوضح الناقد الموسيقي أمجد مصطفي أن الفضائيات التي تعرض هذا النوع من الكليبات ساعدت على ظهورها وحققت من ورائها مكاسب خيالية، مما دفع شركات الإنتاج لتخصيص قنوات فضائية مثلما حدث مع "مزيكا" و"ميلودي" لعرض كلبياتها بغية الربح السريع، مشيراً إلي أن هناك عدد من المطربين جرفهم التيار مثل آمال ماهر، وأنغام، اللائي قدمن مؤخرا أغاني لا تتناسب مع حجم موهبتهم. وأرجع أمجد هذا التدهور إلي ظهور موزعين غير دارسين أو مُلمين بماهية الهوية الشرقية، لافتا إلى أن الموزع الموسيقي تحرر من وظيفته الأساسية وهي إضافة نوع من الموسيقي على الأغنية أو بعض الكلمات التي لا تخل باللحن، وأصبحو مجرد منفذين لأوامر المنتجين، بجانب رفع يد الإذاعة والتلفزيون عن إنتاج الأغاني، وعدم تواجد لجنة استماع. وأرجع أمجد غياب المُلحنين الكبار مثل حلمي بكر، ومنير الوسيمي عن الساحة الغنائية، إلى عدم توافر الإمكانيات من جانب شركات الإنتاج التي تساعدهم على الخروج بالأغنية المصرية في شكلها الشرقي، مشيرًا إلى أن المنتجين يبحثون على أقل الأمكانيات لتحقيق ربح مادي كبير، فهم يروا أن المُلحنين الكبار يرهقونهم مادياً. ولفت إلى أن هناك عدد من المطربين يستحقون أن ينالوا لقب "العالمية" على رأسهم الفنان المصري اليوناني "أندريا ريدر" الذي أشاد به الشاعر الراحل عمار الشريعي قائلا :"أنه يلبس الأغنية المصرية ثوب عالمي دون أن يخل بشرقيتها"، وكذلك "زين محمود" الذي كان يعمل في مدرسة بفرنسا، ونجح في نقل هويتنا الشرقية إلى الغرب من خلال الربابة ، والكولة، والإنشاد الديني، وعازف الطبلة "خميس حنكش" الذي حقق نجاحا ساحق في أسباينا دون أن يعتمد على أن ينجرف عن الهوية الشرقية. وأكد، أن الغرب يقطعون الأميال والمسافات لحضور الفرق الصوفية والإنشاد الديني، والموالد، لأخذ المقامات والموسيقي الشرقية وتوظيفها مع الشكل الغربي، وهذا ينم عن أن مصر لديها أرض خصبة من الغناء أساء استخدامه المُلحنين والموزعين والمطربين. ومن جانبه، رأى الشاعر بهاء الدين محمد، أنه لا عيب في نسخ الرتم الغربي في الأغاني المصرية، مؤكدا أن هذا لا يقل شأن الهوية الشرقية. وأوضح، أن اختفاء الهوية الشرقية، يرجع لسوء التوظيف من جانب المُلحنين، فهناك من يستنسخ اللحن بالكامل، وهناك من يضف له، خاصة أنها ظاهرة ليست مستحدثة، لافتا إلى أن هناك عدد كبار من المطربين كانوا يعتمدون على الرتم الغربي في أغانيهم دون أن يخل بشرقيتها وعلى رأسهم كوكب الشرق "أم كلثوم". وأكد، أن استسهال الموزعين الذين يقومون بنسخ الرتم الغربي دون إضافة أي جديد عليه ساهم في اختفاء الهوية الشرقية، ويرجع ذلك لقلة الخبرة والكفاءة.