ها هم ألوف لا يحصيها عدد ينشق عنهم كل شبر في أرض مصر ليطاردونني أنا وكافة أبناء كتلة الأغلبية الصامتة المغلوبة علي أمرها والمكتفين بمتابعة ما يحدث لنا وفينا ونحن ملتصقون علي «الكنبة» نحدق ببلاهة في شاشات التليفزيون.. أسمح لنفسي اليوم أن أتحدث باسم هذه الأغلبية بدلا من الألوف الذين يطاردوننا بصورهم ووعودهم ولافتاتهم التي تعرض وتستعرض صفاتهم السماوية مؤكدة لنا أنهم خير نواب الأرض وأنهم - جميعا ومن غيراستثناء واحد - ضيعوا أعمارهم في محاربة الفساد واستهلكوا عافيتهم علي «برش» الزنازين التي غيبهم بداخلها النظام السابق وأنهم لم يقبلوا الترشح سوي بعد الضغوط غير المحتملة لأهل الدائرة «الكرام» فآثروا مصلحة مصر علي مصلحتهم.. اسمحوا لي أن أعبر - ولو حتي لمرة واحدة - عن نفسي مستبعدا - الي حين - البضع مئات من تجار مصائر الشعوب الذين يقودون مئات الألوف من شباب حياري يملأون ميدان التحرير بالقاهرة وكل «تحارير مصر» أستأذن نواب وحكام المستقبل وأخاطبهم جميعا الإخوان والعلمانيين.. السلفيين والمدنيين.. اليمين واليسار.. المستشرقين والمستغربين.. المبحرين الي الماضي أو الحالكون بالمستقبل.. أناشدكم جميعا وأيا كانت مصادر تمويلكم أمريكية أم قطرية .. إسرائيلية أو سعودية.. برائحة النفط أو برائحة عرق دافعات الضرائب من عاهرات الاتحاد الأوروبي.. أسألكم جميعا أن تضعوني مع أكثرمن 80 مليون مصري في حساباتكم أو حتي علي «مؤخرات» أجنداتكم ولا تقصروا توزيع كعكة مستقبل الوطن علي الملايين الخمسة - وربما أقل - الباقين. أعرفكم بنفسي أولا.. أنا واحد من هؤلاء الملايين الثمانين الفقراء الطيبين الراضين بالقليل - أقل القليل - الحامدين لربهم علي كل حال والراضين بحكامهم منذ عهد مينا وحتي مبارك.. المنتظرين دائما أن يقودهم أحد ما الي بر أمان قارب أن يغادر قائمة الممكن لينزلق الي دائرة المستحيل.. يمكنكم جميعا أن تشاهدونني اذا توجهتم ذات صبح مبكر - مبكر جدا - الي ميدان السيدة عائشة - مثلا - حيث يكون الميدان - وكل ما يشابهه من ميادين - حالة ولوحة معبرة لا يمكن استعراضها في سطر أو اختصارها في صفحة.. هناك حيث تجد مصر كلها مختزلة أمام عينيك في لقطة واحدة حية يتم بثها علي الهواء مباشرة.. سوف تراني واحدا من آلاف العمال الغلابة أبناء التراحيل الجدد القادمين من نجوعهم وقراهم ومدنهم البعيدة النائمة في أحضان ما تبقي من حقول الدلتا أو المستندة الي الجبل في أعماق الصعيد يجلسون القرفصاء - جلسة الصابرين الحكماء - محدقين في زحام أم الدنيا باحثين لأجسادهم المنهكة عن شعاع شمس ومنقبين لأرواحهم المحبوسة عن بريق أمل ومنتظرين من يستأجرهم لقاء جنيهات معدودة فقدت منذ سنين قيمتها الشرائية أو حتي مقابل وجبة غذائية ساخنة.. سوف تجدين بين آلاف الموظفين والصنايعية المهرولين بأعين نصف مغمضة بينما مازالت رائحة الفراش الدافئ عالقة بملابسهم الرثة يبحثون قوتا وأمنا.. عشرات الألوف بل مئات هم يعبرون الميدان في ساعات الصبح المبكرة وهم يملأون علب السردين التابعة لهيئة الذل العام أوينحشرون في رحلة غير مأمونة العواقب داخل «الميكروباظات» المملوكة لعفاريت الأسفلت والتابعة مباشرة لزبانية جهنم.. الجميع يندمج ويتوحد في رتم حياة شاق وشقي يبدأ عادة مع بزوغ الفجر وصياح الديك «كوكو كوكو« لنهرول ونتسابق نحن «الأرزقجية» والعمال والصنايعية وصغار الموظفين وكبارهم والباعة السريحة وعموم حرافيش بر مصر لنكون علي باب الله ثم علي أبواب الرزق الضيقة شبه المسدودة نملأ الدنيا زحاما وضجيجا وتلوثا وشجارات بلهاء من أجل التسابق علي مقعد في وسيلة مواصلات انتحارية أو لأولوية الحصول علي بضعة أرغفة من الخبز غير الآدمي - بل غير الحيواني أحيانا - أو فطيرة فقيرة مصنوعة بدقيق فاسد وزيت منتهي الصلاحية .. نسب ونلعن .. نتشابك ونتضارب بل ربما تسيل الدماء قبل أن يتدخل أولاد الحلال - وجميعنا أبناء حلال - للفصل بين المتشاجرين فنستجيب ونصلي علي النبي ألف صلاة قبل أن نحكي القصة من جديد لنرتمي في النهاية في أحضان بعضنا البعض معتذرين وباكين لاعنين ساعة الشيطان وقلة الرزق قبل أن نصل النهاية الي الورش والمتاجر والدواوين والأرصفة ليبدأ فاصل جديد من العذاب والذل وعصر الطاقات واستهلاك الصحة البدنية والنفسية واستخلاص كل قطرة عرق ممكنة - بل وغير ممكنة - حتي تنتهي أعمالنا مع غروب الشمس وأخيرا - وليس آخرا - وقبل العشاء أو بعدها نرجع ونحن نقلب كفا بكف مندهشين ومتسائلين عن مصير الدعوات التي ودعتنا بها الزوجات والأمهات والأطفال.. نعود الي عشوائياتنا وأحيائنا الفقيرة منهكين ومكبوتين ومضطهدين منتهكي الكرامة ومغتصبي الآدمية ومؤدي الأحلام أرواحنا في أنوفنا بل خارجها أحيانا نثور علي أحب الناس الينا لأتفه الأسباب وغالبا بلا سبب علي الإطلاق.. أقصي مبالغة في متعتنا أن نشد أنفاس حجر معسل علي أقرب مقهي وما أكثر المقاهي القريبة ثم ننام كالموتي استعدادا لديك جديد يوقظنا لعذاب يوم جديد. لا يختلف عن سابقه ولن يختلف - حتي يشاء الله - عن لاحقه لتمر الأيام والأعمار ونحن في حلمنا - أو وهمنا لست أدري - بغد أفضل. السيدات والسادة حكامنا الجدد من التحرير ومحمد محمود ومجلس الشعب ومن امبراطورية قطر العظمي وغيرها من الأماكن التي أعرف أو لا أعرف أسألكم جميعا أن تذكروني إذا مامدت موائد البادية في صحاري جزيرة العرب أو إذا وزعت فوائض النفط والغاز من حقول الخليج أو قسمت الجواري والفتيات والغلمان وارد ڤيينا وكوبنهاجن وبقية عواصم الغرب ذوات اللحم البمبي و العيون الزرق والشعر الأصفر.. اذكروني بحفنة دقيق أو مشروع صرف صحي أو مائدة رحمن تستمر طوال العام أو وعد بمدرسة لها فصول بنوافذ تنغلق علي مناضد يجد عليها ابني يوسف وابنتي مريم مكانا وكراسة وقلما يرسمون به زهرة تتفتح ويكتبون.. مهما فعلتم بنا سوف نبقي - لسبب غير مفهوم - نحب هذا البلد الذي أستأذنكم أن أنهي كلامي لأعاود جلوسي متابعا أخباره من فوق الكنبة.